ديوان اليوم

عبد العزيز الدوري

هيبه العلم وكبرياء الروح

ينتمي الدوري إلى جيل من المثقفين يكاد يكون نموذجياً في توافره على الجمع بين رصانة العلم وسعة المعرفة والتواضع. كان- يرحمه الله- واحداً من أقدر الباحثين على إعادة قراءة تاريخنا العربي والبحث فيه. الشاعرة مي مظفر تستحضر من ذاكرتها هيبة الدوري وكبرياء روحه. وثمة حوار أجراه خالد نسيبة مع د.عبدالعزيز الدوري قبيل وفاته.
عندما تُذكر بغداد، قلب العراق النابض، تتداعى في الذاكرة أسماء شخصيات مهيبة جليلة كان لها فضل إقامة صروحها العلمية والثقافية وفضل بناء الإنسان معاً. فهم السبب وراء ظهور أجيال من المبدعين في مجالات الحياة كافة. في طليعة هذه النخبة يقف أستاذنا العلَّامة عبدالعزيز الدوري «1919-2010م». فمن تتلمذ على يده امتلك ناصية المعرفة بأرقى مستوياتها. لاسمه صدى خاص في وجدان العراق والعراقيين، باستثناءات قليلة ربما. شخصيته لها من السعة ما يجعلني أشعر إزاء الحديث عنه بحيرة مضاعفة. فهو اسم اقترن بتاريخ الأمة أولاً قبل أن يقترن بتاريخ الجامعة العراقية أباً وراعياً لها ولأجيالها. فقوة الأمة وتماسكها، كما يؤكد، من قوة ذلك الإرث الحضاري الممتد. بفضل رؤيته المتسعة وانفتاحه على ثقافات العالم، ضمّت جامعته خيرة الأساتذة عرباً وأجانب.

أنهى د.الدوري دراسته في إنكلترا، معهد الدراسات الشرقية في جامعة لندن SOAS، وعاد إلى العراق «1942م» ليتولى منصب معاون عميد دار المعلمين العالية. كان متأثراً بالأجواء العلمية الراقية التي عاشها هناك، ومتحمساً لبناء صرح تعليمي في العراق قائم على تلك الأسس المتينة، وأن يوجد فيه فضاء ثقافياً رحباً يواكب التطورات العالمية الواسعة المعنية بتقدم المعرفة وتوسع آفاقها. عندما تولّدت لدى المسؤولين قناعة بأن الوقت قد حان للإعداد لتأسيس جامعة، كانت الخطوة الأولى إقامة كليتين مندمجتين باسم كلية الآداب والعلوم «1949م»، واختير الدوري عميداً لها. فأصبحت منذ البداية، مطمح طلاب العلم والمعرفة من الشباب لرقي مستواها العلمي، وجدية الدراسة فيها، وانفتاح آفاقها على ثقافات العالم.

كان القبول في هذه الكلية يعد تحدياً وامتيازاً، إذ يشترط اجتياز امتحان تحريري يخضع الناجحون فيه إلى مقابلة مع الطالب من قبل لجنة يرأسها العميد، د.الدوري شخصياً، ومعه أستاذان متخصصان. وفي عام 1957م أعلن عن تأسيس جامعة بغداد لتضم إليها الكليات العلمية والإنسانية كافة. لقد ظل د.الدوري عميداً لكلية العلوم والآداب حتى بعد تعيينه رئيساً للجامعة، لكن الانقلاب العسكري في تموز 1958م أقصاه عن هذا المنصب الذي لم يشغله غير عدة شهور، لكنه أعيد إليه عقب انقلاب 1963م، واستمر فيه حتى مجيء البعث في 1968م. بعد ذلك اضطر إلى مغادرة العراق إلى غير عودة محتفظاً بالوطن في ضميره ووجدانه، ولتسكنه بغداد حتى الرمق الأخير.

لاسمه، رجع خاص يستدعي حضوراً أشد خصوصية، والتعرف إليه يترك أثراً في النفس لا يزول. إنه جوهرة العلم، ورمز من رموز نهضتنا العلمية والثقافية. منذ أن تولى عمادة الآداب والعلوم، أصبح اسمه يتردد على ألسنة الشباب من جيلنا بوقع متناغم حيناً ومتنافر أحياناً، إيجابي وسلبي، لكنه وقع مهيب في كلا الحالين. في السنوات العشر التي سبقت انقلاب 1958م شهدت بغداد نمواً اقتصادياً وثقافياً بقدر ما شهدت من اضطرابات ونشاطات سياسية. كانت كلية الآداب بؤرة الحركات السياسية المتضاربة التي كان يتصدى لها الدوري بما يملك من إيمان وحكمة ومقدرة وتسامح. ذلك ما جعله هدفاً لحكايات تدور حوله شخصاً وأستاذاً بنسيج متشابك تجعل منه أسطورة عصره أو داهية زمانه. كان بعضهم يراه العين الرقيبة للحكومة على الطلبة، وبعضهم الآخر لا يرى فيه غير أب رحيم متسامح، حريص على سلامة أبنائه حرصه على الحفاظ على روح البحث والانصراف إلى الدراسة وتوفير حرية الكلام والعمل. يومها أصبحت كليّات بغداد بتخصصاتها المختلفة مختبراً لخيرة العقول النيّرة والمؤسسة تأسيساً معرفياً رصيناً.

يشرّفني أنني أنتسبت إلى كلية الآداب يوم كان عبدالعزيز الدوري عميداً. كنت مصممة على دراسة الأدب بدافع غامض مبعثه همهمة مبهمة من كلمات مموسقة أحسبها كانت شعراً. وحين توجهت إلى كلية الآداب لإجراء مقابلة لامتحان الكفاءة، بموجب نظام القبول آنذاك، كنت أحمل في ذهني صورة الرجل المهيب الحازم الذي قد لا يجدني أهلاً لدراسة الأدب الإنجليزي الذي قررت بعد تردد أن أدرسه بدلاً من الأدب العربي. دخلت القاعة المخصصة للمقابلات فرأيت ثلاثة رجال يجلسون وراء منضدة طويلة، تطلعوا نحوي باستغراب ضاعف من خوفي وزادني حرجاً، فقد كنت ضئيلة الحجم، أبدو أصغر من عمري بسنتين أو أكثر. ميّزت على الفور شخصية الدوري من غليونه الذي كان يتدلى من فمه، كما تظهر صورته على صفحات الجرائد. حين جلست أمام اللجنة، بادرني بسؤال مباشر: «ما هو هدفك من الدراسة؟ ولماذا اخترت دراسة الأدب الإنجليزي؟». حين رددت بالعربية طلب مني أن أرد بالإنجليزية. كان يجلس إلى شماله أستاذ بريطاني عرفت فيما بعد أنه رئيس قسم الأدب الإنجليزي في الكلية، وعلى يمينه نائب العميد. أرادت اللجنة أن تعرف الهدف من دراستي، وإلى أي حد كنت جادة في اختيار الأدب الإنجليزي ومستعدة لمواجهة ما تتطلبه هذه الدراسة من مشقة وصعوبة. تصورت أنني كنت قد هيأت نفسي للإجابة عن أسئلة لها مساس بهذا الأدب، وكنت أحفظ مقاطع متفرقة من مسرحيات شكسبير، لم يُطلب مني شيء منها. وجدت نفسي أتحدث الإنجليزية بكلمات لا أدري كيف انطلقت من لساني المتلعثم وتسربت بسهولة، ربما كان ذلك بفضل الوجه المتسامح والنظرة الأبوية التي ارتسمت على وجه الدوري، ابتسامة وديعة لم تفارق وجهه، جمعت بين التطمين والتشجيع. كانت تلك المقابلات مصفاة يمر بها الطالب قبل قبوله.

كنا نراه كل يوم تقريباً يمر دائماً من بين الطلبة بخطوات ثابتة لا يكاد يُسمع وقعها على الأرض، وهو في طريقه لإلقاء محاضرته في قسم التاريخ، ودائماً غليونه في يده. كان إلى جانب ما عرف به الدوري من رصانة علمية وحنو أبوي على الطلاب، أديباً محباً للآداب والفنون، راعياً للطاقات الخلاقة، فهو أول من أقدم على تأسيس مراسم حرة في الكليات بإدارة خيرة الفنانين العراقيين آنذاك. فكان جواد سليم مشرفاً على مرسم دار المعلمين العالية، وحافظ الدروبي مشرفاً على مرسم الآداب والعلوم، وخالد الجادر مشرفاً على مرسم كلية الملكة عالية. وانبثق من هذه المحترفات بعض أبرز أعلام الفن الحديث في العراق. ولعل صورته الأثيرة التي جسّدها الفنان حافظ الدروبي أجمل شاهد على نشاط تلك المرحلة الخصبة من تاريخ العراق. وكان الدوري قد اختير لرئاسة وفد فني ليمثل العراق في أول معرض عربي أقامته منظمة اليونيسكو بمناسبة افتتاح مقرها في بيروت عام 1948م واشتمل على فنانين من مصر والعراق ولبنان. بل ظلّت الحركة الفنية في العراق من ضمن اهتماماته حتى آخر سنوات حياته، فكان حريصاً على متابعة المعارض المهمة التي يقيمها الفنانون العراقيون البارزون في عمّان حيث انتهى به المقام.

في عمّان كان لي شرف التعرف إليه عن قرب. فعندما انتقلت إليها مع زوجي الفنان رافع الناصري للعمل والإقامة، كنت أحمل مشروع دراسة عن تاريخ الحركة التشكيلية في العراق، والموضوع من السعة ما يتطلب توجيهاً منهجياً لم أكن أمتلك أدواته. فلجأت إلى الأستاذ الكبير الذي تحمس للمشروع وطلب مني قراءة ما كتبت. ثم بدأت أراجعه في مكتبه في المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية «مؤسسة آل البيت»، والاستفادة من مكتبتها العامرة، خصوصاً في مجال البحث عن الحضارة العربية الإسلامية، ودلّني إلى مراجع كثيرة كنت غافلة عنها. حين عملت على مدى خمس سنوات في المؤسسة نفسها «مؤسسة آل البيت»، ظلت توجيهاته وملاحظاته خير عون لي فيما أنجزت.

حين ينظر الدوري إلى الدراسات التاريخية الأولى للأمة العربية والإسلامية، فإنه يرى أن كثيراً من المؤلفات الحديثة كُتبت بأقلام خارجية، غربية أو شرقية، نشأ أصحابها في بيئات غريبة وفي ثقافات أخرى، ومن الطبيعي أن تتأثر مؤلفاتهم بالاتجاهات القائمة في تلك الثقافات والبيئات. ومع أنه يقرّ بأن بعض تلك المؤلفات قد خدمت الدراسات التاريخية، فإنه يرى أن بعضها الآخر طرح آراءً واتجاهات غريبة قبلناها مبدئياً، ولكن لا بد من إعادة النظر فيها جذرياً. من أجل ذلك يقول أستاذنا الجليل إننا بحاجة إلى فهم النظريات والاتجاهات الحديثة في علم التاريخ لنستفيد منها في بحوثنا التاريخية وإن كنا لا نستطيع تطبيق طرق بحثها تطبيقاً حرفياً. فلا عجب، إذاً، أن نعرف أنه أمضى سنوات عمره الأخيرة منكباً على إعادة كتابة التاريخ العربي، مستعيناً بهذا الفكر النيّر المنفتح على حضارات العالم ومسيرتها التاريخية.

كنت وزوجي شديدي الحرص على زيارة د.الدوري وعائلته الكريمة بين حين وآخر. إنه يستقبل ضيوفه بحفاوة، ويصغي بكل هدوء لما يسمع من غرائب ما يحدث في عالمنا العربي، خصوصاً العراق الذي عاد به التاريخ قرناً إلى الوراء، ثم يأتي تعليقه مفعماً بالشواهد التاريخية الحاضرة في ذهنه أبداً، حتى بعد أن تمكّن منه المرض. في السنوات الأخيرة لم نره إلا مهموماً بالعراق: شاغله الأكبر ومصدر قلقه على الأمّة التي كرّس فكره وجهده لكتابة تاريخها وإعادة كتابته. لقد رأى في احتلال العراق وما لحق به من دمار وتخريب حدثاً جللاً فاق كل سابقة تاريخية. مع أن الحيرة كانت تتملّكه من أمر ما يجري ويغمر وجهه الأسى، لم أجده يتخلى قط عن نبرته الهادئة في استقراء الشواهد والإيمان بالمستقبل.

يقول إن التاريخ لا يبدأ من نقطة محددة ولا يقف عند مرحلة واحدة. لا يستقري الدوري حاضرنا إلا بعين الماضي، فيرى لكل مشكلة من المشكلات التي نعيشها اليوم جذورها في التاريخ، ولها أسبابها المتوارثة من الماضي، الأمر الذي يتطلب غوصاً عميقاً في ذلك التاريخ ومعرفة شاملة به. وعلى هذا الأساس يرى أن ارتفاع وعينا بالتاريخ حري برفع إنسانيتنا إلى مستوى الواقع الذي نحيا فيه فنكون خُلقاء به وقادرين عليه.

ظل عبدالعزيز الدوري متمسكاً برسالته العلمية، لم يغره أي منصب آخر في الدنيا غير كرسي الأستاذية. ترفّع عن كل ما لحقه من سلوكيات فجّة. خرج منتصراً حين ظنوا أنهم هزموه. فصفة الكبرياء كالتي يملكها الدوري مانع حصين من الصعب اختراقه أينما وُجد. هو العراق، أبداً ينجو في نهاية المطاف مهما طال الزمن. لم يعرف الدوري اليأس وإن أغرقه الأسى. لذلك لم يتوقف عن البحث والتقصي وإعادة النظر فيما قيل ويقال من شواهد التاريخ. مراجعه، التي لم تعرف كيف تنام بلا تقليب، ظلت أبداً تتفاعل مع عقل يملك من المعرفة والشك ما يجعله يقيم طوال النهار في عالم قوامه الورق والحبر في سعي حثيث لاسترداد حقائق فقدت أو شوّهت وتشتت ما بين جاهل ومغرض وتقويمها. أراد أن يسابق الزمن وينتصر على شيخوخةٍ أبى أن يستسلم لها. فظل ممسكاً بالقلم حتى سرت الرعشة في أصابعه بما لم يعد من الممكن أن تطيعه. مع ذلك ظلت رحى ذاكرته تعمل وتفيض من علمها على كل من يحضر مجلسه.

رحل عالمنا الجليل وشُيّع في عمّان صباح العشرين من تشرين الثاني 2010م تاركاً إرثاً لا يُفنى. كان من أجمل ما قيل فيه من كلمات قصيرة مرتجلة في مجلس عزائه، إنه: لم يجمع العرب على محبة شخصية كما أجمعوا على محبة عبدالعزيز الدوري.
د.عبدالعزيز الدوري:
التراث أساسي في تكوين الهوية
يُعَدُّ التاريخ من العوامل المهمة في تسجيل تراث الأمم والشعوب وتكوين هويتها. ما دور عالم التاريخ والمؤرخ في حياة الأمة؟
علم التاريخ في الأساس هو ما تحفظه ذاكرة الأمة مكتوباً أو شفهياً, أو ما تخلفه من آثار عن مسيرتها في الزمان والمكان, وهو عنصر أساسي في تكوين هوية الشعوب والأمم, وهو لذلك الخلفية اللازمة لفهم الحاضر، وعامل في مسيرتها أو في التخطيط للمستقبل.

نحن نقرأ التاريخ ونفهمه عن طريق المؤرخ، وما لا يذكره المؤرخ لا وجود له, إلا إذا توافرت آثار دالة, أو ما يبقى في الذاكرة الجماعية. وقد تكون لمؤرخي فترة أو فترات اهتمامات معينة ومناهج في كتابة التاريخ لتعقبها. وقد تدخل في فترة تالية اهتمامات ومناهج أخرى، ما يُحدث تغييراً في المناهج، وإعادة نظر في كتابة التاريخ. لذلك يمكن أن يكون للتاريخ دور في سياسة الأمة أو البلد الخارجية، وفي توجهاتها المستقبلية، وفي برامجها الإصلاحية، وفي مسيرتها العامة.

يشكل الدين الإسلامي عنصراً مهماً في تكوين الهوية العربية. ما الدور الذي يمكن أن يؤديه الدين في الوحدة المنشودة للأمة العربية؟
إن الحديث عن الوحدة العربية وغيرها يتطلب استيعاب حركة التاريخ من جهة، والحاضر من جهة أخرى.

وأود أن أوضح هنا أن الدعوة إلى الوحدة تستمد أصولها من فكرة «العروبة»، أو فكرة «الأمة العربية» التي تكونت في التاريخ. والإسلام هو الذي أكد الرابطة اللغوية والثقافية العربية، ليجعلها أساس الانتماء والرابطة الأولى، ولا يخفى أن البلاد العربية، كما نعرفها، تحددت في إطار من الإسلام والثقافة العربية عبر المسيرة التاريخية.
أكدتم من خلال كتاباتكم التعاون الفكري، والثقافي، والسياسي في صياغة التاريخ قديماً بين العرب وغير العرب. هل يمكن لذلك أن يتكرر ويتجدد في هذا العصر؟ وكيف يمكن للأمة العربية أن تعزز علاقاتها مع الدول الإسلامية؟
يلاحظ أن التعاون الفكري والثقافي في التاريخ بدأ في إطار دولة واحدة، ثم استمر في إطار أمة واحدة. والمهم أن لغة الثقافة في الأساس كانت اللغة العربية, وهذا خلَّف تراثاً ثقافياً مشتركاً بين البلاد العربية والإسلامية. نحن أمام دائرتين، واحدة أوسع من الأخرى، عربية وإسلامية لا تعارض بينهما. ومن المهم والمفيد إظهار المشترك بينهما وتأكيده. ويحسن إنشاء معاهد في مختلف البلاد العربية والإسلامية لتعليم لغات تلك البلاد وآدابها لأهميتها في التفاهم والتقارب, بالإضافة إلى تنمية المشترك الثقافي، ويمكن أن يكون ذلك بالتعاون بين البلاد المعنية.

يلزم، أيضاً، تقوية المنظمات العامة وتنشيطها عربية وإسلامية كالجامعة العربية، ومنظمة المؤتمر الإسلامي، من جهة تمتين التعاون بينهما لخدمة العرب والمسلمين.

بالنسبة لعلم التاريخ، أنت تدعو وتمارس تاريخاً يجمع بين عوامل الدين، والاقتصاد، والجغرافيا معاً لفهم الظواهر التاريخية وحركة الحضارة, ولعل المؤرخين ابن خلدون وتوينبي فعلا الشيء نفسه. كيف يمكن لمؤرخي هذا الزمن من العرب والمسلمين أن يجمعوا بين دلائل العقل والنقل في فهم التاريخ؟
يمكنني التحدث عن المؤرخين العرب فحسب. أما المؤرخون الغربيون الآخرون فلا أعرف إلا بعض كتبهم المترجمة، فلا أتحدث عنهم. أقول ابتداءً عن التاريخ عند العرب والمسلمين إنه يعد من العلوم النقلية، والنقد فيه ينصب على عدالة الرواة أو المصادر، وقد ينصب، بدرجة أقل، على متن الرواية. لذا شاع أن المؤرخين العرب يسردون الأخبار والروايات دون نقد، وهذا غير دقيق، فهناك انتقاد للروايات أولاً، وهناك تشكيك في روايات أو تفضيل بعضها. هذا بالإضافة إلى الصورة التي تعطيها مجموعة الروايات عن حدث، أو شخص، أو أمر، وهي تختلف عند التدقيق من مؤرخ لآخر. ولا نغفل مؤرخين أبدوا رأيهم صراحة في الروايات والأخبار. وجاء ابن خلدون ليضيف شرطاً آخر قبل نقد المصادر، وهو موافقة الأخبار لطبيعة العمران، وهو شرط لم يحدد ولم يجد طريقه.

هكذا نجد العقل إلى جانب النقل في انتقاء الروايات، وفي الصورة التي تعطيها مجموعة الروايات عن موضوع ما، وفي تقييم الرواة والمؤرخين. وفي الفترة الحديثة يأتي موضوع تأريخ التاريخ وفلسفة التاريخ لدراسة المؤرخين ومعرفة مناهجهم وميولهم واتجاهاتهم كضرورة أولى في البحث التاريخي. هذا بالإضافة إلى التحليل والنقد في الكتابة التاريخية. أما سرد الروايات والمعلومات فلا يُقبل وحده في البحث التاريخي.

ومن منهج البحث أن يحيط الكاتب في التاريخ بالمصادر الأولية كافة, وأن يدقق في ميولهم واتجاهاتهم، وأن يتعرف على الدراسات الحديثة قبل البدء في الكتابة, ليكون محيطاً بالمادة والآراء, ولا بد أخيراً من القول إن العقل يغلب في الكتابة التاريخية الحديثة.
المؤرخ يتناول عوامل عديدة في عملية كتابة التاريخ, فأحدهم يركز على العامل الاقتصادي مثلاً، وتوينبي يركز على دور النخبة الإبداعية في التاريخ. ما توجهكم في هذا الخصوص؟
إن فلسفة التاريخ مهمة لتجاوز الجزئيات إلى الكليات، وتجاوز الأحداث إلى دلالتها، وتجاوز التفاصيل إلى الخطوط العامة التي تنظمها. وقد أجد في فكرة التاريخ أو في فلسفة التاريخ لمؤرخ أو فيلسوف ما أعجب به وأفيد منه أو ما أختلف معه، ولكنني لم أقتنع يوماً بأن عاملاً واحداً يمكن أن يستأثر بحركة التاريخ.

وجل من كتبوا في فلسفة التاريخ ركزوا على التاريخ الغربي، وعدوه التاريخ الحي، بل ومحور التاريخ العالمي، وهذا فيه نظر. فقد يكون كذلك في العصر الحديث، ولكنه لم يكن كذلك في التاريخ القديم أو الوسيط.

لقد كانت لي محاولتان في تفسير التاريخ العربي الإسلامي: الأولى في تاريخ «صدر الإسلام» «القرنين الأولين للهجرة»، والأخرى في تفسير التاريخ العربي الإسلامي حتى مطلع القرن العشرين «مقدمة في التاريخ الاقتصادي العربي». وفي الكتابين ركزت على العناصر الرئيسة التي كونت هذا التاريخ والخطوط الرئيسة لتطوره.

في صدر الإسلام كان الالتفات إلى الصراع التاريخي بين البوادي والحواضر، ثم ظهور الإسلام ودوره التاريخي في توحيد العرب، ثم انطلاقهم بالفتوح لتكوين دار الإسلام، ثم الصراع بين المبادئ الإسلامية, ورواسب المفاهيم القبلية لتنتصر المبادئ الإسلامية قبل نهاية الفترة.

أما الكتاب الثاني، فتناولت فيه الخطوط الرئيسة في التطور العام حسب مراحله: من الأمة والجهاد، فالإسلام والقبلية، ثم المجتمع التجاري وازدهار المدن, أما رابعها ففي تسلط الأجنبي وبدء الإقطاع العسكري، ثم الركود الاقتصادي، والتخلف، والإقطاع العسكري.

أضف تعليق

التعليقات