الرحلة معا

أخلاق‭ ‬هذا‭ ‬الزمان

هل نحن نعيش في عصر تتغيّر فيه الأخلاق أو تتبدل؟
لنتذكر وبشيء من التأمل ذلك الحديث الشريف: «إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق». لا يتحدث نبينا المصطفى، صلى الله عليه وسلم، هنا عن عزيمته لتغيير أخلاق الناس، ولا لإبادة أولئك الذين لا أخلاق لهم، ولا للطعن في أخلاق الأمم التي سبقته. كان ببصيرته النبوية يعرف أن لكل عصر أخلاقه، وأن مكارم الأخلاق تتراكم زمنيًا لتخلق المثل والقيم التي تعيش عليها المجتمعات البشرية، وتعزز موقع الإنسان كصانع للخير والفضائل، ومقاوم لنزعات الشر والعنف القادرة على تهديد الوجود الإنساني برمته، وإنهاء منزلته كمستخلف في عمارة الأرض.

كم مرة سمعت قريبًا أو صديقًا يتحدث إليك عن تغير أخلاق البشر أو سوئها أحيانًا، أو أن بعضهم يجانبها أصلاً؟!
الحقيقة أن أخلاقنا وطباعنا وحتى صفاتنا الأصلية تتغيّر، أو تتخذ أشكالاً أخرى، وعبثًا نحاول استعادة ملامحنا الفطرية، أو تلك الخصال التي تربينا عليها وكبرنا معها، أو تلك العلاقات البلورية الصافية التي كانت ركنًا دافئًا وعذبًا مع رفاق طفولتنا ومراهقتنا!
كانت العواطف والمشاعر وخصال التكافل الإنساني كافية لنعيش حياة سعيدة مليئة بالطاقة، والأحلام، وقادرة على صد شظف العيش، وبطش المدرسين، وقسوة العائلة، والجفاف المعرفي والمعلوماتي.
كنا نعتقد واهمين أن العيش في المدن الضخمة والانخراط في التكتلات البشرية الضخمة سيكونان كافيين للقضاء على الفجوة المعرفية والتعليمية التي خبرناها، وسيقلبان كفاف العيش وقسوة الحياة إلى نعيم، وسيسهلان علينا أن نتخالط مع العالم ونؤثر فيه كما يؤثر فينا، بل ويمتلكان أحيانًا أغلب مفاتيحها، لكن حياتنا المعاصرة في هذه المدن قد أنتجت عددًا من الإشكالات والعوائق تولدت من تعقد الحياة ومطالبها وتقاطعها مع ثقافات العالم وأدوات إعلامه الضاربة وتشابك المصالح الدولية معه.

ماذا يحدث لأخلاقنا؟
عبر الحقب التاريخية تبدو العلاقة بين التقدم الحضاري لأمة ما، وبين الأنماط الأخلاقية التي ينتجها ذلك التقدم مثار نقاش دائم، بل إن فلاسفة عريقين كانوا يرصدون التغيرات التي تطرأ على أخلاق الناس وقيمهم وعاداتهم عندما يتعرضون لمؤثرات حضارية.

أورد هنا مثالاً أورده الباحث الألماني ويل ديورانت في كتابه المؤسس «قصة الحضارة»، فعندما زار العالم الإنجليزي روجر أسكم إيطاليا عام 1550م كتب عنها: «أحمد الله إذ لم أقم في إيطاليا إلا تسعة أيام، ومع هذا فقد شاهدت في هذا الزمن القصير من الانغماس في الذنوب والتحرر من قيود الأخلاق أكثر مما سمعته عن بلدتنا النبيلة، لندن. لقد رأيت هناك أن في مقدور المرء أن يرتكب الخطايا دون أن يتعرض للعقاب ودون أن يهتم بخطاياه أي إنسان».

أشكال التبدل الجارف في القيم والأخلاق التي تنتجها الصراعات التاريخية بين الدول أو داخل المجتمعات نفسها، ضخمة، وليس هنا فسحة لرصدها، فما يعنينا هو قراءة القلق الأخلاقي الذي يطال كل وجوه حياتنا.
الباحث والفيلسوف التشيلي، جون باينس، يسخّر أحد كتبه المهمة لدراسة «أخلاق الأمم في القرن الحادي والعشرين»، شارحًا أن الإنسان المعاصر لا يمتلك أخلاقيات ثابتة، فمعاييره تخضع للمصالح والعواطف والرغبات، وهو لم تردعه لا العقائد السماوية ولا المبادئ الأخلاقية عن أن يقع في الأخطاء، أو أن يتماهى مع الجوانب اللاأخلاقية، فتطغى عليه النزوات ويتراجع عن ارتياد الفضائل الإنسانية، بل ليصعب عليه التمييز بين الضحية والجلاد، وهذا لا يحدث في الحقول السياسية فقط، بل في الجوانب الحياتية والإدارية والعملية. ويرى أن الأزمة الأخلاقية التي يعيشها العالم لا تكمن في عدم كتابة الدساتير الأخلاقية والقوانين والتشريعات، ولكن في تفعيل تطبيقاتها بصرامة عادلة. وليس أسهل، طبعًا، من إيراد ألوف الحالات في الدول التي تحتكم للقانون، لكنها تنجو في النهاية من المحاسبة تجاه أي مخالفات قانونية كبرى.
قد نسأل إذًا بما أن الحاضن الأول لنشوء الأخلاق والقيم هو العائلة، فأين ذهبت أهميتها؟

إذا مارسنا بعض التأمل، سنرى أننا نعيش وأبناؤنا وبناتنا تحت سقف واحد، نلتقي بهم ونخوض معهم في شؤون الحياة المختلفة، لكننا سرعان ما نلمس أن مصادر ثقافتهم وأفكارهم وحتى مفرداتهم هي غير تلك التي علمناهم إياها ودربناهم عليها. هناك إذًا نهر معرفي يجري أمامهم، ولا أحد يملك زمام منعهم من السباحة فيه، واقتناص ما ينسجم مع روحهم ورضاهم الشخصي. ذلك النهر هو بلا حراس ولا مراقبين، ولا توجد سوى رقابة وحيدة هي إرادة أفراد هذا الجيل تجاه فهم ما يقرؤون ويشاهدون ويسمعون وبلورته، في حين لا تجدي نفعًا أخلاقية المنع، فالحماية الشرسة يمكن أن تكون معوّقًا معرفيًا وعاطفيًا وتدفع النشء إلى الحياة السهلة، أو الحياة الافتراضية التي تنتشر على التلفاز والإنترنت، حيث يغرقون في الأوهام وتستلب إرادتهم، وقد تتسرب إليهم الأمراض الأخلاقية أو حالات التشكك القيمي من حيث لا يعرفون.

لكن العرض الأكبر الذي يشكل امتحانًا، ولا نقول تهديدًا للأخلاق أو صانعًا لها، هو: سلطة الصورة. هذه السلطة، التي كتب عنها بغزارة لا آخر لها، تستمد مكانتها الراسخة من كونها مؤثرًا ضاربًا على بنية الأفكار والمشاعر وعلى نسيج النظام التربوي والنفسي للأفراد، فضلاً عن تقاطعها مع أساليب اقتصاد السوق، والمشكلة أن النظام المالي والاقتصادي الذي يحكم حركة المجتمعات، كما يحدث في عالمنا اليوم، أصبح منافيًا للطبيعة، ولا أدل على ذلك من جملة الانهيارات المالية التي أصابت مفاصل الاقتصاد العالمي في العقود الأخيرة، حيث أصبح الجميع يجرون عربة الديون الهائلة لتصبح فقاعات ضخمة ينهار بعدها النظام المالي كله!

من جهة أخرى، فإن التكتلات الصناعية الكبرى في العالم لم تتأخر في جعل الصورة بمختلف أركانها عنصرًا في فرض السيطرة على منظومة الأفكار والقيم التي تخترق العالم. وهكذا نعثر على الاندماج الغريب بين قنوات التسلية الشهيرة والقنوات الإخبارية والاقتصادية رغم تباعد هوياتها، لكن هذا الاندماج ينتج قيمًا جديدة تكرّس في عقول البشر. ولنلاحظ مثلاً أننا نقدح في محطات إخبارية محددة في فترات السلم والهدوء، لكننا نعود إليها بشغف ساعة حلول الكوارث أو اندلاع الحروب أو حالات الاضطراب الاجتماعي أو الكشوفات الجديدة، وهكذا نعود إلى منح المصداقية الكاملة لتلك القنوات التي كنا نبذناها.
ولكن هل هناك فرصة كي يتناقص مدّ الشرور في العالم ؟
أعود إلى باينس، لألتقط من أسبابه العديدة ثلاثة أسباب: الأول هو الأنانية، وهي ليست أنانية أفراد فقط، بل أنانية قوى ومنظمات وربما أمم لم تعد تبالي بمعاناة الآخرين، وفقدت أحاسيسها بمختلف أشكال البؤس الإنساني، بل إنها تمارس نهبًا منظمًا للمصادر الاقتصادية مقابل قطرات تسد عطش شعب ما أو جوعه، وهنا تسود حكمة الصراع على السلطة الشهيرة: «الغاية تبرر الوسيلة». أما السبب الثاني فهو: أهمية السيطرة على الذات، بحيث نتمتع بالقدرة الدائمة على الصمود في وجه الدوافع والعواطف السلبية التي تغري الجميع بالوقوع في الخطأ، فنحن نتصرف كبرابرة متحضرين والجميع يتحركون بوحي من عواطفهم لا بأوامر من عقولهم، أما السلوك الرفيع عند الإنسان فينتج من تحكمه الواعي بتصرفاته ودوافعه وأفكاره وأن تكون مرتبطة بقيمه العليا.
وثالثًا: هو الجهل بالخير والشر معًا. والمعضلة هنا هو أن يترك لكل فرد تفسير قيم الحياة مثل الحب والصداقة والعدل تفسيرًا فرديًا أمام غياب توافق اجتماعي وإنساني على تعريف هذه القيم، بل إن التاريخ يحفل بالنماذج الإنسانية الخيرة التي تعرضت للتشويه والقتل، وكل هذا يخلق أزمة أخلاقية ونزفًا للقيم والمثل الحياتية.
هذه بعض مكونات الإنسان اليوم، فكيف تسمو أخلاقه ليصبح جديرًا بخلافة الله على الأرض؟!

أضف تعليق

التعليقات