الثقافة والأدب

مدخل إلى الآخر في الرواية

ليست الرواية تعبيراً عن وعي شخص واحد، إنما إضاءة لوعي أشخاص آخرين مختلفين. الناقد والروائي السعودي علي الشدوي يسلِّط الضوء على فهم الأنا الآخر ثقافياً وعوائق هذا الفهم من خلال المؤلف وشخصياته الروائية.

عوائق فهم الأنا الآخر ثقافياً عوائق متعددة كمعنى الكلام، وعدم فهم الأفكار، وعدم فهم رؤية الآخر للعالم

إذا كان هناك آخر في الرواية، فإلى أي شيء يعود ذلك؟ يتبادر إلى الذهن بشكل متتال، كون الرواية مكتوبة على الشكل الذي يوجد فيه الآخر. يرتبط بهذا السبب النموذجُ الثقافي الموجود سلفاً في الثقافة التي تُكتب في إطارها رواية ما.
وإذا ما عملنا على تطوير هذا السبب في شكل أكثر تقنية فسنقول بـ«النمط»، الموجود في ثقافة الكاتب الأصلية، أي الصورة المبتسرة التي تنقل إلى الآخر رسالة واحدة يُعتقد أنها «جوهرية».

يترتب على النمط من حيث إنه يوهم أن الآخر موضوع التمثيل كائن ذو بعد واحد أزلي وأبدي، ويخلط بين ما هو نعتي وما هو جوهري، ويرفع الخاص إلى مستوى العام، والفردي إلى مستوى الجماعي. نقول يترتب على ذلك أن تعمل الرواية على نقل النمط الذي أودعه الكاتب فيها، وبمجرد ما نلحق هذه الوظيفة بالرواية يمكن أن نسأل عما يجعل الرواية قابلة لأن تكون كذلك، فلكي تستجيب الرواية لهذا النقل يجب أن تكون مؤهلة بحيث لا تمثل سوى تحقُّق للنقل.

نستخلص من هذه المقدمة الموجزة أن للرواية طابع الوسيط. لكن هل نتحدث عن الرواية فعلاً؟ ألا نخلطها بالروائي ومقاصده؟ إننا نعتقد أن الرواية تتحدث عن نفسها، لكن في الوقت نفسه يجب أن نعترف أن وراء كتابتها شخصاً يريد أن يتواصل معنا. غير أننا يمكن أن نفرز من هذا الخلط تعارفاً أولياً ما دامت الرواية تُكتَب، والراوي يَكتُب في إطار ثقافة ما.

عالم واحد.. عوالم متعددة
نمت الرواية في الفضاءات المتروكة، تاريخياً، حرة من طرف الأنواع والأشكال الأدبية الأخرى. نمت هامشية ومعزولة. في الواقع فإن هذا التطور الهامشي والمعزول هو ما أعطى الكتابة الروائية أصالتها. وُجدت الرواية وسط الأنواع والأشكال الأدبية، واستمدت قوانينها من الحرية التي تمتعت بها في ذلك الهامش والمعزول، وهي القوانين نفسها التي رفضت الأشكال الشعرية تطبيقها.

لكي نثير الانتباه سنتوقف عند الفرق بين لغة الرواية ولغة الشعر. لغة الشعر هي لغة الشاعر، يجد الشاعر نفسه فيها من غير أي شريك يقاسمه إياها. ليس هذا فحسب، إنما تنسى الكلمة في الشعر ماضي مفهومها اللفظي وحاضره. يخلص الشاعر اللغة من نوايا الآخرين، ويتكلم بلغته هو عما هو أجنبي عنه، ولا يلجأ إلى لغة الآخرين. تحتضن اللغة في الشعر كل شيء، بها يرى الشاعر ويسمع ويفهم ويتأمل ويعبر، ولا يستعين بلغة أخرى، لأن الشعر غير معني بوجود عوالم أخرى دالة ومعبرة. أحدية اللغة ووحدانيتها شرطان لازمان لفردية الخطاب الشعري.

إذا كان الشاعر يتصرف على هذا النحو فإن الروائي يتصرف بطريقة مختلفة تماماً. فالروائي لا يخلص خطاباته من نوايا ومن نبرات الآخرين. هناك عناصر لغوية مجردة من نوايا الروائي، فلا يعبر بها عن نفسه، يستخدمها من غير أن يسلم نفسه إليها، إنما يتركها نصف أجنبية أو أجنبية تماماً. يدخل التعدد الصوتي حتى يصبح الموضوع نقطة ائتلاف أصوات مختلفة، يظهر صوته ومن أجل أن يظهر تكون الأصوات الأخرى خلفية من دونها لن يدرك صوته.
هناك إمكانية لأن نميز بين الشعر والرواية بدقة وعمق، غير أنه من وجهة نظر أهدافنا يعدّ ما قدمناه كافياً، يترتب عليه ما نريد أن نصل إليه، من أن الشعر يسعى إلى أن يفرض على العالم رؤية واحدة أو تفسيراً واحداً، عن طريق أسلوب واحد ووحيد. أما الرواية فهي «حوارية» تتضمن أساليب وأصواتاً مختلفة تتكلم مع بعضها، ومع أصوات من خارج الرواية، يتناوب فيها صوت الراوي وأصوات الشخصيات. إنها مجموعة من المواقف والآراء والاهتمامات الشخصية التي تكون الموقف العقلي أو العاطفي لشخص ما في علاقته بالعالم. وإذا ما أردنا أن نعمق هذا الفهم فلا بد من أن نأخذ في الحسبان كون الناس في الواقع لا يعملون جنباً إلى جنب، إنما يعملون من أجل بعضهم بعضاً، أو ضد بعضهم بعضاً، وأن «الحدث» هو ملتقى أفعالهم تآزراً وتنازعاً.

الطبيعة النموذجية للرواية من هذا المنظور الذي وضعنا أنفسنا فيه هو أن تكون الشخصية الروائية كاملة الحقوق، وكاملة الأهلية، لها كلمتها الشخصية: حرة ومؤهلة وقادرة على أن تختلف حتى مع المؤلف نفسه، وأن تؤكد الغيرية بوصفها ذاتاً فاعلة أخرى، وأن تقر بالوعي الغيري، وأن تتمتع بالحرية، وأن تنزع إلى الاستقلالية. يعني هذا أن تتناوب في الرواية وجهات النظر المختلفة، أن تُعكس فيها مختلف الظلال، وأن تُبرز كل الآراء ووجهات النظر المختلفة.

تُعدُّ الأصوات المتعددة الأساس الأول من أجل إلقاء الضوء على الآخر في الرواية، فمظاهر الرواية، وطبيعتها، واشتغالها، تكفي لأن يقال إن الرواية هي احتمال الآخر، لأنها منظمة بشكل يسمح لكل صوت فيها أن يمتلك ذاته عن طريق تحديد نفسه عن طريق الآخر، وأن يعي ذاته، لأن الوعي بالذات غير ممكن إلا إذا تحقق عبر الآخر. ليست الرواية تعبيراً عن وعي شخص واحد، إنما إضاءة لوعي أشخاص آخرين مختلفين. من أجل الآخر تنشأ الحبكة الروائية، وتكتب الروايات، وتذرف الدموع، ومن أجل الآخر تقام كل الصروح. هكذا إذاً فالآخر موجود في الرواية بحكم طبيعتها، إلى حد نتساءل فيه ما إذا كان ممكناً أن تكون رواية فيما لو كتبت بشكل مغاير؟

مشكلة الثقافة
يمكن أن تكون مشكلة الثقافة أشد تعقيداً مما نعتقد، فعوائق فهم الأنا الآخر ثقافياً عوائق متعددة كمعنى الكلام، وعدم فهم الأفكار، وعدم فهم رؤية الآخر للعالم، والجهل بالطقوس والعادات والقيم الملزمة، والأهم من هذا هو عائق ألا تفهم بنيةٌ عقلية بنيةً عقلية مغايرة.

يتمم هذه المعوقات الخارجية عوائق داخلية كنزعة التمركز حول الذات، ونزعة التمركز حول المجتمع، ونزعة التمركز حول العرق، والقاسم المشترك يكمن في كون ثقافة ما تموقع ذاتها في مركز العالم، وتُعدّ كل ما هو غريب شيئاً ثانوياً، لا معنى له، أو على الأقل شيئاً معادياً لها.

إن إدراك الأفراد لا يُستمد من خبرات كل واحد منهم ودوافعه وتوقعاته، إنما يصاغ من القوالب الثقافية القائمة، ويُحدد من قبل الأوضاع الاجتماعية والثقافية، حيث تمد التنشئة الاجتماعية والثقافية كل واحد من أفراد المجتمع بالإدراك الذي يقيم عليه نظامه الإدراكي.

لا يصدق هذا على الأفراد العاديين فحسب، إنما يصدق، أيضاً، على الروائيين. الكل يحدد الجزء، وفي صياغة أخرى «إن تصور الكل يحدد تصور الجزء ومفهومه». لذلك فنحن في وضع يسمح لنا بأن نرى أن تلك النزعات التي تحدثنا عنها أعلاه تتسرب إلى الروائي ومن ثم إلى الرواية.

استحضار الثقافة
إن تأليف رواية هو فعل متعمّد، فالروائي يرغب في أن يقرأ القراء روايته، ومن هذا المنظور يصعب تحقيق موت المؤلف. ليس أمراً محايداً أن ننسب رواية إلى روائي، لذلك فإن تحليل أغراض الروائي في إطار ثقافة معينة تسمح بأن يُرجع إلى فرضياته ومسلَّماته الثقافية، وفي مثل هذه الحالة لا يختفي الروائي من التحليل، إنما يصبح دوره مهماً من حيث هو مؤلف الرواية.

يمكن أن نحسّن معالجة الفكرة بأن نضع الروائي موضع الإخراج المسرحي للرواية، يظهر هذا بوضوح أكثر في الخط الذي اتبعناه في تفسير طبيعة الرواية، نعني الرواية متعددة الأصوات.

لا يُفهم جزء كبير من الرواية نفسها، إنما يُفهم، أيضاً، من السياق الثقافي والاجتماعي، لذلك لا تكفي قراءة الرواية، إنما يجب أن تُقرأ في ضوء تداخلها مع الثقافة التي كتبت في إطارها. هكذا إذاً يتطلب الأمر أكثر من مجرد قراءة، ويصبح القارئ في حاجة إلى أن يأخذ فكرة عن الثقافة التي تنتسب إليها الرواية، وعن فرضيات الروائي ومسلَّماته الثقافية، ولا بد من أن نفهم السيرورة المعرفية للروائي من خلال ما يقوله، أو يصمت عنه حينما يقدِّم ثقافة الآخر.
يترتب على هذا أن تكون طريقة تفكير الروائي في الرواية، هي الاستعداد لأن ننصت إلى الروائي وهو يكتب. ففيما هو يؤلف الرواية هناك معتقدات تستحوذ عليه، لذلك فهو يتحمل مسؤولية القيم التي يحضرها إلى روايته. يفعل ذلك ليس لأنه يعي ذلك، إنما لأن معتقداته، وأفكاره، وخبراته، وتوقعاته، ودوافعه التي استمدها من ثقافته تستحوذ عليه.

كأي إنسان يعيش في ثقافة، ومتورط فيها، هناك أصول معرفية لكل معتقدات الروائي وأفكاره ودوافعه. شبكة من المسلَّمات التي تشكل خلفيته المعرفية. حين يتصرف الروائي، أو يفكر، فهو يسلم بوجود شبكة من الأحكام يمكن أن توصف بأنها نظرية، وربما مجموعة من النظريات. لكن حين تؤدي وظيفتها، فليس الروائي في حاجة إلى نظرية، لأن مسلَّماته تسبق نظرياته. ومسلَّمات الروائي ليست تصوراته وفرضياته وآراءه فحسب، بل ما يمكن أن نسميه خلفية فكره.

حينما نركز على الروائي، فنحن نفعل ذلك، بحكم الثقافة التي ينتمي إليها، إذ يملك رصيداً متراكماً من المعارف والأفكار والمفاهيم، تتبلور في ذهنه، وتشكل استجاباته. وهي أفكار ومفاهيم يمارسها بكل ثقة، ويؤمن بها من غير أدنى شك، ويتقبلها كحقائق ذات طبيعة فكرية مطلقة.
ليس المؤلف الروائي إذاً سيد نفسه ما يجعله مهيئاً لأن يكون معبراً للثقافة التي تشربها. فالروائي يحول أوجهاً من خلفياته الاجتماعية، ومعتقداته وأفكاره، وتخميناته إلى أوجه من اللغة. يخوض حروباً سرية، ويرتب جميع أنزاع الجدل في روايته. وهو يعرف على مستوى ما أنه يفعل هذا، ليتضح لنا ما تفعله الأيديولوجيا «أفكار ومعتقدات» في ذهن الروائي وخياله وسلوكه.

من هذه الزاوية، ليست الرواية فيضاً خالصاً يفيض عن نظرية من النظريات، وهي في النهاية نص دنيوي. وتحليل الرواية ليس تجريداً، إنما تحليل يتموضع على نحو لا سبيل إلى إنكاره أو مناقشته ضمن ثقافة يؤثر وضعها التاريخي على قدر كبير مما يقول الروائي، إن لم يكن يحدد ما يقوله.

إن الرواية عمل فردي لروائي منشبك في ظروف يسلم بها الجميع كإقامة الروائي، وجنسيته، ومحلته المألوفة، وأصدقائه. حينئذ تكون المشكلة هي الكيفية التي نربط ونفصل ونجمع بها بين هذه الظروف وبين الرواية التي كتبها، والكيفية التي بها تُقرأ الرواية وشرطها الدنيوي.

ليس الفن الذي تنتسب إليه الرواية ظاهرة من الظواهر المعزولة عن غيرها، ولا علاقة له بمظاهر الفكر الأخرى. فعندما يهب الفكر وينشط في عصر ما أو في مرحلة تاريخية فإنه يتحرك في الاتجاهات كافة، ولا يمكن لأي فن أن ينمو ويتطور من غير أن يُدعم بنمو مماثل في مجالات الفكر، وحقول المعرفة الأخرى. يُسمى هذا «روح العصر»، ففي زمن معين «مرحلة تاريخية» يُدفع كل الكُتّاب والمبدعين نحو وجهة محددة وواحدة، مطبوعين بروح واحدة هي «روح العصر».

هناك قوة عابرة للفردية، فما يتبلور في مظاهر الفكر والفن كالفلسفة، والشعر، والرسم، والموسيقا، والعلم والسياسة يفرض نفسه على المبدعين الذين يتركون بصماتهم على روح العصر.

تدفعنا هذه الأفكار الأولية عن طبيعة الرواية، وطبيعة الثقافة، وطبيعة التأليف أن نستنتج أن وجود الآخر في الرواية مبرر بهذه الطبيعة، لأن الرواية مكتوبة على الشكل الذي يوجد فيه الآخر، ويرتبط بالنموذج الثقافي الموجود سلفاً في الثقافة وفي ثقافة الروائي الأصلية.

أضف تعليق

التعليقات