حياتنا اليوم

الماتدورز أبطال الموت الأنيق

  • Spanish bullfighter Perera performs a pass on a bull during the last bullfight of the San Fermin festival in Pamplona
  • 2
  • BelmonteSanchez

من يذهب إلى الموت بأناقة مفرطة إما أن يكون «قرباناً»، أو مصارع ثيران إسبانياً متأنقاً بزي فاقع الألوان موشىً بالذهب، ومطرزاً بالحرير.
عبير الفوزان تتجول بنا بين تاريخ حلبات هذه المصارعة، وتفاصيل من الحياة الإسبانية.

بعد نهاية المصارعة يمنح المصارع أذن الثور أو أذنيه معاً، وإذ كان أداؤه متميزاً فيمنح أذني الثور وذيله

إن مصارعي الثيران في حلبات المصارعة هم قرابين لمتعة المشاهدة، وفي أفضل الحالات هم أبطال ناجون من الموت بأعجوبة فنهم، وبراعة أدائهم.
وبالرغم من كل الحركات المناهضة لهذه المصارعة المغرقة في الوحشية إلا أن طقسها لا يزال مستمراً حتى اليوم، وكأن الماتدورز الإسبان ينتقمون من الثيران لمقتل زميلهم في الهواية أغناثيو ميخياس في عام 1935م، والذي رثاه لوركا بواحدة من أجمل قصائده وفيها يقول:

«يا جدار إسبانيا الأبيض!
يا ثور الأسى الأسود
يا دم أغناثيو الجاف
لا..
لا أريد أن أراه
لا قدح ليمتلئ به
لا سنونو ليشربه
لا جليد ضوء ليبرده،
لا أغنية ولا غمر زنابق
لا بلور يطليه بالفضة
لا أريد أن أراه».

لقد سجل لوركا زمن ذلك المشهد الأليم شعراً حيث بدأ مرثيته بـقوله: «في الخامسة عند الأصيل»، مسجلاً وصفاً دقيقاً للفاجعة التي حدثت في الخامسة عند الأصيل، ولم يحتملها صديق يشاهد، وهو بين جموع الجماهير، صديقه الحميم يهجم عليه موت مفاجئ إثر طعنة قرن ثور أسود في حلبة المصارعة.

لقد قتل ثور الأسى الأسود أغناثيو، فانتقم لوركا لصديقه من الثور والموت بمرثية طويلة كتبها قبل عام من وفاته، وعرفت كواحدة من أكثر قصائده نضوجاً وحدّةً، كما عُدّت من روائع الشعر الإسباني المعاصر، إن لم تكن هي الأروع على الإطلاق.

إن فاجعة الموت في حلبات صراع فن البقاء في إسبانيا موجعة ومؤلمة للروح المتطلعة للانتصار. هذا حال مصارعي الثيران وحال أصدقائهم ومشاهديهم، فعندما ينتصر الثور يُخيم الموت على إشبيلية، وتحزن بيوتها لموت بطلها الذي هزمه ثور، ويبقى الانتصار والفرح نصيبين يتقاسمهما الموت والثور، قال لوركا في بكائيته:
«الموت منتصر في النهاية
والثور وحده جذلان القلب»

أغناثيو سانشيز ميخياس ليس أشهر مصارع ثيران، لكن القدر ساقه لكي يكون صديقاً لأشهر شاعر في إسبانيا، ما خلد موته في مرثية رائعة حد الألم بتفاصيل حزنها. ولد أغناثيو عام 1891م في إشبيلية لطبيب إسباني، أراده والده أن يدرس الطب على غراره، لكنه لم يكمل تعليمه، وامتهن العمل الصحافي، وانخرط في الكتابة التي تنوعت بين الكتابة المسرحية وكتابة المقالات. فكان ضمن من يسمونهم في إسبانيا «جيل 27»، وهي مرحلة أدبية مهمة في تاريخ الأدب الإسباني. يضاف إلى ذلك كله شغفه بمصارعة الثيران منذ طفولته، والذي تشربه من بيئته. فهو ابن إشبيلية الشهيرة بإنجاب المصارعين الأكثر شهرة. ولقد كانت بدايته عام 1910م وعمره تسعة عشر عاماً، حيث عمل باندريلليروز «مساعد مصارع» مع أون موريلييا في إشبيلية.

بالرغم من قصر حياة أغناثيو إلا أنها كانت مليئة بالمحطات الكثيرة. فقد حورب من قبل معاصريه من النقاد ومنظمي مباريات المصارعة، بالرغم من براعته. في عام 1941م أصيب بكسر في فخذه من جراء طعنة قرن ثور، وبسبب قوته البدنية وشبابه تجاوز أغناثيو هذا العارض. لكن مسيرته الرياضية تأخرت وسبقه خوان بلمونتي، ولويس ميغل دومينغن. ولعل شهرة أغناثيو إضافة إلى براعته كمصارع ثيران، تعود لقصة حياته، وموته الدرامي في حلبة المصارعة بين قرني الثور.
مصارعة الثيران رياضة تراثية رائجة رغم صدور أمر ديني بمنعها عام 1567م. في أواخر القرن الثامن عشر، اتخذت مصارعة الثيران شكلها العصري والسائد. وكانت تقام كرياضة شعبية تحظى بحضور جموع غفيرة من المهتمين. وقد انتشرت حلباتها، وازداد عددها، إلى أن بلغت في إسبانيا وحدها أكثر من 400 حلبة. يبلغ قطرالحلبة 50 متراً، إضافة إلى المدرجات التي يتسع بعضها لأكثر من 20 ألف متفرج. وثمة كثير من الحلبات في البرتغال والمكسيك، وتمارس فيها هذه الرياضة التي تتسم بالعنف والوحشية، ما دفع جمعيات الرفق بالحيوان إلى مناصبة القائمين على هذه الرياضة، العداء السافر. ولم يشفع لهم تطوير سلالات الثيران المشاركة في المصارعة، بحيث أصبحت الثيران أثقل وزناً، وأكثر عنفاً وقوة، مقارنة بالمصارع الرشيق الأنيق. فالثور يبلغ وزنه 450 كيلو غراماً أو يزيد. وهو من فصيلة تسمى البرابو. ويربى في مزارع إلى أن يبلغ من العمر أربع سنوات. بعدها يُدفع به إلى الحلبة، ليواجه مصارعاً رشيق القد، أنيق الزي، فينشب الصراع الأخاذ بين وعي الإنسان وهمجية الثور، أو بين همجيتين إنسانية وحيوانية!

الماتادور دوتوروس
«الماتادور» هو لقب المصارع الرئيس في حلبة المصارعة، ويمنح هذا اللقب وسط احتفال بهيج، ومن حقه بعد ذلك أن يرتدي زي المصارع وهو بدلة تسمى «تراجي دو لوسيز» فاقعة الألوان، ومشغولة بالتطريز والخيوط الذهبية، ولمصارع الثيران مساعدون يطلق عليهم لقب «باندريلليروز»، يدخلون الحلبة قبله، ومهمتهم إثارة الثور ليهاجم.

بعد إثارة الثور، يدخل المصارع الحلبة، ويواصل إثارة الثور بردائه الأحمر، الذي هو في الأصل معطف المصارع بوجهه الآخر، ليكون هو الأقرب من الثور الهائج، والأخطر موقعاً. أما مساعدو المصارع فتنحصر مهامهم في الإثارة والطعن بالأنصال الحادة في رقبة الثور، دون محاولة قتله، وهذه العملية تزيد من شراسة الثور التي يواجهها الماتادور وحده، فإما أن يقتل الثور في نهاية الأمر بسيفه كفارس، وأما أن يقتله الثور بقرنه.

بغض النظر عن الوحشية التي تمارس ضد الثور، إلا أن المصارعة فيها من الإدهاش ما يكتم الأنفاس، فهي تمثل الصراع بين رشاقة أداء المصارع، ومقدار الخطر الذي يعرض نفسه له، وبين عنف الثور الهائج. إن هذه المصارعة تُعمِّق الإحساس بالحياة، وتتحول فيها لذة المغامرة إلى جنون المقامرة، فالموت، دائماً، قيد أنملة من الماتادور.بعد نهاية المصارعة يُمنح المصارع أذن الثور، أو أذنيه معاً.. أما إذا كان الأداء مميزاً، فيُمنح أذني الثور وذيله!

مصارعو الثيران في إسبانيا هم بمنزلة أبطال قوميين. فهم يمتازون بالرشاقة والأناقة والنبل. فأشهر المصارعين هم من مدينة إشبيلية الإسبانية، التي ما زالت حتى اليوم تنجب مصارعين يحفظ لهم التاريخ الرياضي الإسباني حقهم في سجلاته. وعلى الرغم من كل الدعوات المناهضة لهذه المصارعة من داخل إسبانيا أو خارجها، إلا أن ملكة إسبانيا ما زالت تحضر بعض هذه المهرجانات التي تمثل جزءاً من التراث الإسباني، وتمثل عامل جذب للسياح، إذ تبدأ المصارعات في الحلبات الإسبانية من شهر مارس وتنتهي بنهاية شهر أكتوبر من كل عام.

عندما تُذكر سير أشهر مصارعي الثيران في إسبانيا، يتجاهل مناهضو هذه الرياضة التراثية الجانب الإنساني والثقافي لهؤلاء، فيتبادر إلى الأذهان أنهم من سلالة همجية يمتهنون الجزارة ويعشقون الوحشية، و في أفضل ظروفهم هم رياضيون محترفون. لكن مصارعي الثيران الأشهر في تاريخ الحلبات الإسبانية، ليسوا كذلك، فلهم حياتهم الأخرى، ومهنهم المختلفة التي ربما كانت بعيدة كل البعد عن الدم ومصارعة حيوان مثار. فهم أصدقاء للشعراء والأدباء، ومحبو الفن والفنانين.

صديق أرنست همنجواي
بلمونتي الذي يلف الثور حول خصره كالحزام. بارع في المراوغة، أستاذ في فن المخاتلة.أعظم مصارع ثيران مر على إسبانيا، ولقد ولد في تريانا، إحدى مناطق إشبيلية، عام 1892م.

التحق بمصارعة الثيران باكراً، وقام مع مجموعة من مصارعي الثيران الصغار بجولة حول إسبانيا. وقد صرع أول ثور قتلاً، وهو في الثامنة عشرة من عمره.

ولعل تفوق بلمونتي وشهرته يرجعان إلى أنه أحدث في بداية مراهقته أسلوباً جديداً وجريئاً غيّر فيه تقنيات مصارعة الثيران. فقد كان يقترب من الثور ويبقى على بُعد بوصة واحدة فقط، وهذا ما لم يتجرأ عليه مصارع من قبل، إذ كانوا يبقون بعيدين متجنبين قرون الثيران.

كان على منافسة مع مصارع آخر شهير، هو خوسيليتو الذي قضى نحبه جراء جروحٍ مميتة في مصارعة أحد الثيران، وقد كان هذا الأخير صديقاً مقرباً له، رغم تنافسهما في هذه الرياضة. في عام 1919م، وصلت مشاركات بلمونتي في مباريات مصارعة الثيران إلى 109 مباريات، وهو رقم لم يصل إليه أي مصارع آخر على مدى عقود.
بعد اعتزاله، نشر سيرته الذاتية التي كتبها أحد الصحافيين بعنوان: «خوان بلمونتي.. قاتل الثيران». ولعل من الأشياء المدهشة في حياته أنه كان صديقاً مقرباً من الروائي الأمريكي الشهير إرنست همنغواي.

إذ ذكره الأخير في روايتين من رواياته، وهما «الشمس تشرق أيضاً» و«موت بعد الظهيرة». لقد وصفه همنجواي في هذه الرواية الأخيرة «بأنه يلف الثورَ حول خصره كالحزام». وبسبب مصارعة الثيران، وما نتج عنها من جروحٍ ومشكلات صحية، أوصاه الطبيب بالحذر، وبأنه لم يعد بإمكانه الدخول لحلبات الصراع! وإزاء هذا المنع قرر بلمونتي أنه مستعد للموت! فاستدعى فرسه الأثيرة ومارس في تلك الليلة كل ما هو ممنوع عليه، ثم أطلق على نفسه النار، ومات في الثامن من أبريل 1962م. وبهذا تطوى صفحة كتبت بدم الثيران في ميدان المنازلة، عن أشهر «ماتادور» عرفته إسبانيا والعالم.

دفن بلمونتي في إشبيلية التي حزنت عليه كثيراً، وبعد موته بثلاثين عاماً، أي في عام 1995م، أُنتج عنه فلم عن حياته اسمه «بلمونتي».

دومينغن.. الطفل المصارع
لويس ميغيل غونزاليس لوكاس، يُعدُّ أسطورة في مصارعة الثيران، ولد عام 1926م في إسبانيا، وعاصر مصارعي الثيران خوان بلمونتي وأغناثيو ميخياس. ولقد سبقه لهذا المجال، والده دومينغن، الذي يُعدُّ مصارعاً أسطورياً، لذا اتخذ لويس اسم والده لكسب شعبيته.

من سن الحادية عشرة، بدأ دومينغن دخول الحلبات والاشتراك في مصارعة الثيران، ولقد حصد دومينغن شهرة واسعة في الأربعينيات، حتى الخمسينيات من القرن الماضي، حتى أصبح خلالها أسطورة كوالده، فقد غزا حلبات إسبانيا والبرتغال وكولومبيا.

كما كانت للمصارع لويس ميغيل دومينغن منافسة شديدة حول الأفضل في الحلبة، مع قريبه الماتادور أنطونيو أوردونيز، وأرَّخ لهذه المنافسة الروائي الأمريكي إرنست همنغواي في كتابه «الصيف الخطير» الذي كتبه خصيصاً لهذه المنافسة، وكان آخر ما كتبه همنغواي قبيل انتحاره عام 1961م.

مثلما كان لوركا صديقاً لأغناثيو، وهمنغواي صديقاً لـبلمونتي، فإن الفنان بابلو بيكاسو، الذي عشق مصارعة الثيران وصورها في العديد من لوحاته، كان صديقاً حميماً لـدومينغن.. ولقد تزوج دومينغن من الممثلة الإيطالية لوسيا بوس، وأنجب منها ثلاثة أطفال، من ضمنهم المغني الشهير ميغيل بوس، المولود في بنما.

في عام 1971م عاد إلى حلبة المصارعة، بعد أن هجرها عقدين من الزمن، وهو في الرابعة والأربعين، لكنه بعدها تقاعد سريعاً في عام 1973م، وانخرط في خدمة المجتمع، ثم توفي عام 1996م إثر أزمة قلبية، وهو في التاسعة والستين من العمر، ودفن في سان أنريك دي غوديارو، بعيداً عن حلبات المصارعة وقرون الثيران!

أضف تعليق

التعليقات