الثقافة والأدب

خيمة.. بدون عنوان

تشكل لوحة محمد السليم «بدون عنوان» صورة من المخزون البصري والفكري لثقافة انبنت على الميل إلى التجريد. هذه اللوحة المعاصرة تقرؤها د.مها السنان بترانيم إيقاعية فريدة.
يلتزم السليم بمبدأ التجريد في عناصره، ما يزيد من تركيز خطوط الأفق المتعددة في أعماله، لتعطي بعداً آخر لا نراه سوى في لوحات هذا الفنان المبدع
لوحة بدون عنوان، ألوان زيتية على قماش «100*60سم» سنة الإنتاج 1981م، هي من أعمال محمد السليم الذي يعد واحدًا من أهم رواد الفن التشكيلي بوصفه الحديث أو المعاصر في المملكة العربية السعودية.
وُلد عام 1938م ونشأ في بلدة صغيرة في المنطقة الوسطى، في فترة بدايات النفط، وكان ممن بدأت معهم البعثات في مجال الفنون الجميلة. فدرس في أكاديمية الفنون الجميلة في فلورنسا، حيث افتتن بالحضارة الغربية لحظة وصوله إلى إيطاليا، فأخذ يقلد ويستلهم من مدارس الفن الغربية واتجاهاتها المنتشرة حينها كالسريالية وآثار متبقية من الانطباعية.

في أعقاب ذلك بدأت محاولاته في البحث عن هوية وأسلوب خاصين. ربما كان لعودته إلى وطنه تأثير في عملية البحث هذه، فكان يحاول جاهداً الربط بين ما تعلمه من اتجاهات فنية غربية وبين تلك الصور والمخزون البصري والفكري لثقافته وبيئته، الذي كان مؤطراً بتقاليد مجتمعه ونظرته الدينية نحو التجسيد ورسم الكائن البشري، والنزعة إلى التجريد، تجريد البيئة الصحراوية وتجريد الزخرفة الإسلامية التي تزين العمارة الدينية. من هنا توصل من خلال تجارب بنيت على بحث مستمر إلى أسلوب ذي فلسفة صحراوية لابن هذه البيئة المخلص.

تلخص هذه اللوحة هذا الأسلوب، وقد أسميتها مجازاً «خيمة» حيث العنصر الرئيس فيها يمثل المسكن الذي ينقله ذلك البدوي الذي لا يمل أو يكل من الرحيل بحثاً عن الماء والكلأ. هذه اللوحة هي لب أسلوب السليم الفني وجوهره الذي ابتدعه وأطلق عليه اسم «اللاآفاقية» وتمثل ما يمكن أن نطلق عليه العصر الذهبي في حياة هذا الفنان المبدع.

موضوع العمل هو أحد المواضيع الرئيسة في أسلوبه الآفاقي، ألا وهو المنظر الطبيعي الذي يعتمد على الصحراء خلفية وقاعدة أساسية لأي موضوع يتم بناؤه على اللوحة، بينما العنصر الأساسي هو الخيمة أو المسكن الصحراوي، تتداخل معه شكلياً بحجم غير واقعي دائرة يعبر فيها الفنان عن الشمس، التي تثقله حرارتها، ولكنها تبقى جزءاً من حياته اليومية التي لا يستطيع تجاهلها مهما بلغت قسوتها. ثم نرى في الخلف أطلال مبان، ربما أراد بها الفنان تصوير حالة الانتقال إلى المدنية التي خان معها البدوي خيمته، باحثاً عن أسلوب جديد للحياة أكثر رفاهية وقدرة على حمايته من تلك الشمس.

ربما تميز هذا العمل أو الأسلوب بشكل عام بسبب ثلاثة عوامل هي اللون، والتكوين، والأسلوب. أما اللون فقط اختزله السليم في ألوان الصحراء ودرجاتها التي لا يستطيع تمحيصها وتفكيكها سوى من عاش في تلك البيئة بل عايشها، لدرجة أصبحت الألوان الأساسية فيها تتفكك لأجزاء وأجزاء استطاع السليم حصرها عبر تلك التقسيمات العرضية، التي تقودنا إلى هذا التكوين الذي يرتكز في المنتصف ثم يتشكل بهذا الأسلوب الأفقي وكأنما يمتد بنا خارج اللوحة. فقد رسم العناصر على مستويات لونية أجاد من خلالها دمج خطوط المنظور الشكلية أو الهندسية مع تلك الهوائية. ولم يكن ليوفق في ذلك لولا دراسته للأسلوب التأثيري أو الانطباعي في تحليل اللون وفق تكوين المنظر الطبيعي، فأعاد ترجمة فلسفة التأثيريين وفق بيئة صحراوية تحت مؤثر مشابه ألا وهو الضوء. ولكن شتان ما بين ضوء ربيع أو صيف باريسي لطيف وبين سعير صحراء الجزيرة العربية.

نتيجة لعدد من العوامل يلتزم السليم بمبدأ التجريد في عناصره، ما يزيد من تركيز خطوط الأفق المتعددة في أعماله، لتعطي بعداً آخر لا نراه سوى في لوحات هذا الفنان المبدع. ويفسر السليم أسلوبه هذا على أنه ترجمة لنظرته الخاصة لبيئته الصحراوية، ولعاداته وتقاليده وفكر مجتمعه. ويعتقد أن من وُلد ونشأ في الصحراء هو وحده من يستطيع التقاط الأفق بهذه الصورة التي لا نهاية لها. بل يضيف أن ما يزيد من تفرد هذه الرؤية تلك الحياة الديناميكية المحيطة بالصحراء، التي تعطيها ترانيم إيقاعية فريدة من نوعها.

لعلنا نختتم رحلتنا في أفق السليم بالإشارة إلى أنه ممن جاهروا بفن الصورة في زمن لم يكن لغير الكلمة في قاموس الفنون مكان، لدى مجتمع صحراوي حديث عهد بالتمدن أو التحضر. فلم يجد من يستوعب هذا الشكل من الإبداع والابتكارية. لذا لم يحصل على ما يستحقه من دعم أو تقدير، فكان أن تخلى عن حلمه بسبب هذا العزوف البصري لدى مجتمعه، فظل يكافح الفشل والديون ليموت وحيداً في غرفة «موتيل» صغيرة في روما عام 1997.

أضف تعليق

التعليقات