الطعام مصدر لألف سؤال وسؤال: لماذا تدمع عيوننا عندما نقطّع البصل؟ ما مصدر اللون الأحمر الذي يلوّن هذه الحلوى؟ لماذا تنفجر بعض حبّات الذُرة خلال إعداد الفشار وغيرها يحترق فقط؟.. مثل هذه الأسئلة، وغيرها الكثير، التي تدور في أذهاننا من وقت إلى آخر، في المطبخ أو حول مائدة الطعام، قد تبدو بسيطة، أو حتى ساذجة. غير أن المختبرات العلمية تناولتها بمنتهى الجدية، وبأبحاث معمّقة للإجابة عنها.
دراما البصل
البصل كما هو معروف مقاتل شرس ضد الالتهابات وبعض أنواع السرطانات لغناه بكثير من مضادات الأكسدة والفيتامينات، ولكن ضريبته الوحيدة أنه يُدمِع العينين. ويعود هذا إلى أن البصل يمتص الكبريت وعديداً من المواد الكيميائية من التربة، وعندما تُقطّع البصل فإنك بذلك تُطلق المارد من القمقم. ويتمثَّل هذا المارد في أنزيمات تدعى “أليناسيز” (allinases) تتحوَّل إلى أحماض السلفوكسيد الأمينية التي تكوّن مادة أوكسيد البروبان. وهذا التفاعل الكيميائي الكبريتي يتركَّز خلال 30 ثانية محفزاً الدموع، وتنتهي “الدراما” البصلية خلال 5 دقائق. فالقرنية هي السطح الخارجي للعين وتحميها من الحرارة ومن كافة المؤثرات الخارجية الفيزيائية والمهيجات الكيميائية لاحتوائها على الألياف الحسية الخاصة بالعصب الهدبي الطويل، وعند نفاذ رائحة البصل، تتحسّس نهايات هذا العصب في العين فتؤثر على العصب كله، فيُترجم العصب هذه العملية إلى الإحساس بحرقة في العينين بسبب كثافة المادة الناتجة، ويحفِّز الألياف الذاتية الحركة التي تحمل بدورها إشارة للعين لتأمر الغدد الدمعية بالعمل على التخلص من المادة المهيجة بالعين وغسلها.
ومن الممكن تلافي هذا الجانب المزعج في تقطيع البصل، أو التخفيف من وقعه، بالقيام بذلك بالقرب من مروحة أو في الهواء الطلق أو تحت الماء.
ضجيج الطيران يغيِّر المذاق
يتذمّر كثير من الناس من الوجبات المقدَّمة أثناء رحلاتهم في الطائرات، والأمر ليس مزاجياً، بل له تفسير علمي. إذ أثبتت الدراسات الحديثة أن الضوضاء العالية في محركات الطائرات، التي قد تصل إلى 85 ديسيبل تقريباً، تؤثر سلباً على حاستي الشم والذوق.
ففي احدى الدراسات الطريفة، عُصِبت أعين المشاركين وقُدّمت لهم وجبات متعدِّدة، وطُلب إليهم تحديد ماهيتها. وكانت النتيجة أنه كلما ارتفعت حدة الضوضاء، قلّ إحساس المسافر بملوحة أو حلاوة النكهات، وحتى بماهية الطعام واحساسه بالقرمشة عند تناول بعض الأطعمة. بينما استمتع الفريق الآخر الذي كان يضع سماعات الأذن بوجبته. وعلى النقيض من وجبات الطائرات، فإن عصير الطماطم داخل الطائرة يرتفع تركيزه وتتعزّز نكهته مع الضوضاء العالية، كذلك الحال مع جبنة البارميزان والكاتشاب.
الفلفل الأحمر ليس حارَّاً!
ما سرّ حرارة الفلفل الأحمر؟ في الحقيقة أن هذا النوع من الفلفل بريء من هذه التهمة، لكنه يحتوي على مادة كيميائية تدعى “كابسايسنويدز”، وهي مادة عديمة الرائحة والطعم تغطي السطح الداخلي للفلفل الأحمر، وهي التي تخدع الأعصاب الحسيّة وتجعل الفم يتحسّس حرارة الفلفل. فعندما تدخل المادة “الكابسايسنويدز” إلى الفم تؤثِّر في المُستقبلات التي تستجيب للألم الناتج عن الحرارة في داخل الفم والحنجرة، فيتسلَّم الدماغ الرسالة منها ويُرسلها إلى فريق المطافئ في الجسم لإخماد حريق هذه المادة، فيرتفع نشاط العملية الأيضية وتتحفز عمليات تبريد الجسم الطبيعية تجاه أي عامل مهيّج. ويتمثل ذلك في تدمُّع العينين وخروج السوائل من الأنف، ويؤدي هذا التهيّج أيضاً إلى انبعاث مادة “الإيندورفين” الطبيعية التي يفرزها الجسم لتسكين الألم.
الفول السوداني والمتفجرات!
استعمل الفول السوداني بالفعل في صناعة الجيل الأول من المتفجرات، وتحديداً الديناميت، لاحتواء حبوبه على زيت يدخل في صناعة الجليسرول الذي يُعدُّ واحداً من المكوّنات الرئيسة في صناعة النتروجليسرين، وهي مادة زيتية سريعة الانفجار وعالية السميّة. واقتران هذه المادة بالبارود هو من أساسيات صناعة الديناميت.
ملوّنات غذائية من الخنافس
عندما وصل الأوروبيون إلى أمريكا الجنوبية لأول مرة في نهاية القرن الخامس عشر، لاحظوا أن هنود الأزتيك ينتجون أقمشة ذات لون أحمر بهي وبرّاق، مصبوغة بسائل مأخوذ من أنثى خنفساء “الكوشنيل” التي يجفِّفونها ويتاجرون بها. ومنذ ذلك الوقت أصبح هذا النوع من الخنافس تجارة رابحة. واليوم، تُعدُّ جزر الكناري والبيرو أفضل الأماكن لحصاد أنثى هذه الخنفساء وبيوضه. فبعد جمعها، يصار إلى تجفيفها تحت الشمس وسحقها وطحنها وتخميرها في محلول كحولي لإنتاج حامض الكارمينيك، وهو صبغة قوية جداً يُصنع منها مستخلص “الكوشينيل” أو “الكارمين” اللذين يدخلان في صناعة الملوّنات الغذائية ومواد التجميل (كأحمر الشفاه). ويحتاج صناعة باوند واحد من الصبغة الحمراء القانية “المسماة حامض الكارمينيك” إلى 70 ألف حشرة من هذا النوع.
ويستعمل هذا المستخلص بنسب محدَّدة بدقة وضعتها هيئة الغذاء والدواء الأمريكية التي اشترطت أيضاً على المصانع كتابة “مستخلص الكوشينيل والكارمين” على كل المنتجات التي تحتويهما، لأن كثيراً من الناس يعاني من حساسية شديدة تجاههما. ولكن، وبشكل عام، فإن هذه الملوّنات تُعدُّ طبيعية، ولا تؤذي جسم الإنسان، كما أنها سهلة الهضم وتستعمل في تلوين أطعمة مختلفة، مثل زبادي الفراولة وعصائر الجريب فروت والتوت وغيرها.
هل العسل قيء النحل؟
ليس تماماً. يقوم النحل بجمع الرحيق من الأزهار ويحفظه في مريء معدته. وحالما تعود النحلة إلى الخلية تتقيأ ما جمعته، في عملية تُسمى (trophallaxis) وهي معروفة في عالم الحشرات، لتنقل المادة إلى خلية النحل التي تعمل على تحويله إلى عسل.
فللنحلة معدة مقسَّمة إلى قسمين: المعدة الوسطى ومعدة العسل ويفصل بينهما حاجز عضلي يُنظم عملية الفتح بين المنطقتين، ويلي ذلك الأمعاء والمستقيم وفتحة المخرج. قد يبدو الأمر معقَّداً بعض الشيء ولكن كل شيء لدى النحلة يسير وفق نسق محدَّد. ففي داخل معدة النحلة يختلط الرحيق مع أنزيمات المعدة ليُصبح مادة يمكن حفظها لفترات طويلة. وعندما تعود النحلة إلى خليتها، فإنها تنقل غلّتها إلى فم نحلة أخرى وهكذا يتكرَّر الأمر إلى أن يُنقل إلى مكان التخزين داخل الخلية. وحالما يصل إلى هناك في حالة لزجة، يعمل النحل على تهوية الخلية بأجنحته ليسرِّع تبخير أية سوائل عالقة بالرحيق. وحالما يتماسك قوامه جيداً، يقوم النحل بإغلاق الخلية بسائل شمعي يستخرجه من بطنه. ويصبح هذا المخزون الثمين غذاءه الأساسي خلال أشهر الشتاء الطويلة!
وجدير بالذكر أن العسل لا يتعفَّن، ولو تُرك لسنوات طويلة لمحتواه السكري العالي الذي يضعف الجدار الخلوي للبكتيريا فيقتلها. ولكن لو تُرك العسل معرضاً للهواء فسيمتص رطوبة البيئة المحيطة فتقل قدرته على مقاومة البكتيريا وقتلها.
برتقالي بلون الجزر!
يقول بعض إن الإفراط في تناول الجزر يومياً سيحسّن حاسَّة النظر، ولكن هذا الاعتقاد خطأ تماماً. فقد ثبُت علمياً أن الجزر لا يحسّن النظر ولكنه يغيِّر لون الجلد إلى البرتقالي أو الأصفر الشاحب نتيجة احتوائه على نسبة مرتفعة من مادة “البيتاكروتين”. ويُطلق على ظاهرة تغيّر لون الجلد اسم “كاروتينيميا”، وتُلاحظ بشكل واضح على باطن الكفين والقدمين، ولكنها لا تؤدي إلى اصفرار العين. وهي ظاهرة غير سميَّة ولا تسبِّب أية متاعب صحية. ولمعالجتها يتم اتباع حمية منخفضة الكاروتين لفترة معيّنة ليسترجع الجلد لونه الطبيعي.
ومن الأطعمة الأخرى التي قد تغيّر لون الجلد البطاطا الحلوة والكوسا والطماطم (التي تجعل الجلد برتقالي اللون) والكزبرة والكريب فروت والكرفس، والنباتات التي تحتوي على المبيدات الحشرية الطبيعية كعشبة “سورالين” التي تمتص نسباً عالية من الأشعة فوق البنفسجية، لذا تدخل في عدد من الصناعات الدوائية لأنها تعزّز صبغة الميلانين في الجلد، وتساعد في علاج مرض البهاق.
بقايا الحيوانات لصناعة الجيلاتين
يُصنع الجيلاتين المستعمل في الحلويات والطبخ من بقايا الحيوانات كالأبقار والخراف. فبدلاً من التخلص من البقايا غير المرغوبة كالعظام والأطراف والآذان والجلد، يتم جمعها لتُنقل إلى مصانع خاصة، حيث يتم تقطيعها وتنظيفها وشيّها وتجفيفيها جيداً، ثم يتم تغطيسها في محلول حمضي لعدة أيام للتخلص من أية بكتيريا أو معادن ملتصقة بها. وأخيراً، تُضغط في شكل صفائح وتُجفف وتُعلب. هذه باختصار حقيقة الجلاتين. أما بخصوص فوائده، فهو يحتوي على البروتين، واثنين من الأحماض الأمينية المهمة: “الجلسين” و”البرولين” المفيدين لصحة المفاصل والجلد والشعر والأظافر، ناهيك عن خواصهما المضادة للالتهابات.
الماء: صلاحية غير منتهية
ليس للماء تاريخ صلاحية. فلماذا إذاً يوضع تاريخ انتهاء الصلاحية على زجاجات وقناني المياه؟
إن هذا التاريخ يحدِّد صلاحية القنينة وليس الماء. فالماء خالٍ من البروتينات أو السكريات التي يمكن للمكروبات أن تتغذَّى عليها فتغير طعمه بمرور الزمن كالطعام والمشروبات الأخرى مثلاً. ولكنك لو تركت قنينة الماء مفتوحة ومعرّضة للهواء فإن تركيبة الماء الكيميائية ستتغيَّر بكل تأكيد بسبب امتصاصه لثاني أكسيد الكربون، الذي يستطيع مقدار صغير منه (أقل من 0.1 بالمئة) أن يحوّل الماء إلى حامض الكربونيك، فيصبح مذاقه حمضياً بعض الشيء. وهذا ما يفسر التغيّر الحاصل في مذاق الماء في القدح الموضوع بالقرب من سريرك والمعرَّض للهواء والبكتيريا طوال الليل. أما تاريخ الصلاحية المطبوع على القنينة فهو يحدِّد صلاحية القنينة البلاستيكية نفسها، التي عادة ما تكون مصنوعة من مادة “تيريفثاليت البولي أثلين”. وبالتالي، فإن بقي فيها الماء بعد تاريخ الصلاحية، فإنه سيتفاعل معها ليأخذ رائحتها ومذاقها، لأن البلاستيك يبدأ بتسريب بعض مواده الكيميائية إلى الماء.
لماذا تتفجّر حبات الفشار؟
نعرف أنه عندما يتعرَّض الفشار للحرارة ينفجر، ولكن لماذا لا يحصل الشيء نفسه مع حبَّات الرز أو الشعير؟ ولا حتى أحياناً مع بعض حبوب الفشار التي تحترق من دون أن تنفجر؟ والجواب هو أن قشرة حبوب هذا النوع من الذرة غير مسامية. فالفشار يحتوي على الماء بنسبة 13.5 في المئة. لذا، عندما نقوم بتسخين الفشار، سيغلي الماء الموجود في لبّه وسيتحوّل إلى بخار. وبما أن القشر الخارجية، أو الصَّدَفة، غير مسامية فإنها تحبس الضغط داخل حبة الفشار. فإن وصلت درجة الحرارة إلى 180 درجة مئوية، سيرتفع الضغط داخل حبَّة الفشار إلى 1000 كيلوباسكال، فتنفجر الصدفة الخارجية. ولكن إن لم تتفجر حبة الفشار كما هو متوقَّع منها، فيعود السبب في ذلك إلى حصول خلل في أحد هذه العوامل. كما أن كمية الماء الموجودة داخل الفشار تتحكم أيضاً في شكلها النهائي، فإن كان المحتوى المائي أكثر من 13.5 بالمئة، فستتفجر حبة الفشار بشكل سميك ودائري، ولكنها تكون هشة ومقرمشة، وإن لم تحتوِ على كمية كافية من الماء، فلن تتراكم فيها كمية كافية من البخار، وإن لم تتفجر أبداً فهذا يعني أن البخار استطاع أن ينفذ، وبذا تفشل عملية التفجير!
لماذا يتغيَّر لون الاستاكوزا إلى الأحمر بعد الطبخ؟
يكون الاستكوزا في بيئته البحرية الطبيعية بلون بني أو رصاصي أو أخضر زيتوني أو أزرق (وهو النوع النادر جداً) أو أبيض، كما هو الحال مع باقي أنواع القشريات كالروبيان وسرطان البحر. وتحتوي القشرة أو الصدفة الخارجية لهذه الأحياء على صبغة كاروتينية حمراء طبيعية مخفية تدعى “الأستاكسانثين”، ولكن لا يمكن ملاحظتها لأنها تكون ممزوجة مع باقي الألوان الطبيعية للصدفة الخارجية لهذه الأحياء، فتساعدها على التمويه ضمن محيطها وتحميها من المهاجمين. وفي البيئة الطبيعية، تكون هذه الصبغة الحمراء مغطاة بإحكام بغلاف بروتيني يدعى “كراستاسيانين”. ولكن حالما يتم سلق الاستاكوزا أو شيّه على النار، تختفي كل جزيئات “الكراستاسيانين”، أو علمياً، تفقد تركيبتها الأساسية، وهذا ما يسمح لصبغة “الأستاكسانثين” الحمراء بالظهور لأنها، مع باقي المواد البيوكيميائية الأخرى الموجودة في صدفة الحيوان، تتفاعل مع الحرارة، فيتلوَّن بالأحمر.
ليس للماء تاريخ صلاحية. فلماذا إذاً يوضع تاريخ انتهاء الصلاحية على زجاجات وقناني المياه؟
إن هذا التاريخ يحدِّد صلاحية القنينة وليس الماء
ويشبه الاستاكوزا الأشجار في هذه الخاصية المذهلة. فألوان أوراق الأشجار في فصل الخريف تتراوح بين الأحمر والأصفر والبرتقالي والبني. ولكن في ما تبقى من أشهر السنة تكون كل هذه الألوان مغطاة بطبقة من مادة الكلوروفيل لونها أخضر. ولكن في فصل الشتاء ومع انخفاض درجات الحرارة وبهتان أشعة الشمس، ينخفض مستوى الكلوروفيل، فتظهر الصبغات الأخرى للأوراق بشكل واضح.
ختاماً، وباختصار، إن كل ما تضعه في فمك يومياً هو توليفة مذهلة من المواد والعناصر والتفاعلات الكيميائية التي قد تؤذيك أو قد تدعم جهازك المناعي أو تحفِّز حواسك وتغذي عقلك وتبني جسمك. فاختر من الطبيعة ما يناسبك. فكل شيء موجود حولنا له تفسير علمي ومنطقي ولا يجب أن نعدّه من المسلَّمات. ولا بد من أن نفكِّر بماهية الأشياء ونتعرّف على سلوكياتها الكيميائية والفيزيائية، ونتساءل: لماذا حصلت؟ ولماذا تكوّنت بهذا الشكل؟ ما سبب تغيرها وما أصلها وما نشأتها؟ فبهذه الطريقة سنتعلَّم كثيراً وسنحمي أنفسنا من أمور كثيرة مثل التعرّض لحساسية الطعام الناجمة عن الإفراط في تناول الكاجو أو الفول السوداني أو حتى التوابل كجوزة الطيب التي تُكسب الطعام طعماً مميزاً ولكن زيادتها تؤدي إلى اضطرابات نفسية وهلوسات. وكل ما استعرضناه هو من الأشياء التي نصادفها يومياً، ولكننا نعدُّها من الأمور الاعتيادية أو المسلَّم بها، ولكن في حقيقة الأمر، لكل منها تفسير علمي علينا أن نكشفه.