التعلّم طوال الحياة ليس بالأمر الجديد، فقد أكدت المجتمعات في جميع أنحاء العالم ضرورة التعلُّم من المهد إلى اللحد. واليوم، في القرن الواحد والعشرين، نجد أنفسنا من جديد وسط أصوات تتعالى منادية بأهمية التعلُّم مدى الحياة. وما يتضح منها اليوم هو أن التعلُّم مدى الحياةلم يَعُد مسألة اختيارية من أجل تطوير الذات فقط، بل بات توجّهاً حتمياً، وضرورة اقتصادية لمواجهة التحديات الحالية المتعدِّدة.
من بين أبرز التحديات التي يواجهها العالم اليوم هو التأثير الدوري للأزمة المالية وآثارها الاقتصادية، إلى جانب مسألة العرض والطلب في سوق الكفاءات، حيث ازداد عدد حاملي الشهادات الجامعية في العالم، فانخفض بالتالي المردود المادي مقابل هذه الشهادات. ولعل أبرز القضايا التي أثَّرت على حركة سوق العمل وشكَّلت تحدياً له، التطور السريع في تقنيات الذكاء الاصطناعي التي بدأت تؤثِّر بالفعل على عملنا وحياتنا اليومية. فقد أصبحت تقنيات الذكاء الاصطناعي موجودة في الأشياء والأعمال اليومية مثل المساعدين الافتراضيين، والمحاسبين في السوبرماركت والسيارات بدون سائق وأدوات الكشف عن الاحتيال في معاملات بطاقات الائتمان وأمور عديدة أخرى.
التحدي الأكبر: الذكاء الاصطناعي
وعلى الرغم من أننا ما زلنا بعيدين عن “مجتمع العقل” الذي تحدّث عنه مارفن مينسكي في كتابه الذي يحمل العنوان نفسه وصدر في الثمانينيات من القرن الماضي، حيث تحدَّث عن تعاون عديد من أدوات الذكاء المتطوِّرة التي تمتلك قدرات للاستنتاج والتعلّم، فضلاً عن طرق مختلفة لتمثيل المعرفة والمنطق، إلا أنَّ هناك في الوقت الحالي ثلاث نقاط مهمَّة بالنسبة للذكاء الاصطناعي: أولاً، الذكاء الاصطناعي وما ينتج عنه من أتمتة العمليات الصناعية والتجارية، سوف يؤثِّر علينا جميعاً، وهو هنا ليبقى. ثانياً، أنه في مهده أو في بدايته هناك فرصة كبيرة للتغلُّب على الاضطراب الذي ينتج عنه. ثالثاً، مع مراحل تطور الذكاء الاصطناعي المتعدِّدة، سوف يتكرَّر هذا الاضطراب مراراً وتكراراً. وغالباً ما يؤدي أي تقدّم إلى اضطراب لا مفر منه يُخشى منه بشدة.
ولكن موجة التغيير الحالية، التي يغذيها التقدُّم التقني، لا تختلف عن سابقاتها من التطورات التي حدثت خلال الحضارة الإنسانية. ومع ذلك، مثل الأجيال التي سبقتنا، علينا أن نتعلّم تجاوز الفوضى والاضطراب بطريقة مناسبة. وقد تكون الطريقة الأنسب تغيير الطريقة التي ننظر بها إلى التعليم من أجل تطوير قدرة البشرية على تحقيق أفضل النتائج من خلال استخدام التقنيات الجديدة.
العلاقة بين التعليم واستثماره مدى الحياة
لطالما كانت العلاقة بين التعلّم والكسب تميل إلى اتباع قاعدة بسيطة واحدة: الحصول على أكبر قدر من التعليم في وقت مبكِّر من الحياة، وجني المكافآت المقابلة خلال بقية الحياة المهنية. ولكن المعادلة اختلفت كثيراً اليوم. فكما كتب توم فريدمان في صحيفة نيويورك تايمز: “انتهت الفكرة القائلة إننا نذهب إلى الكلية لمدة أربع سنوات، ثم نستثمر تلك المعرفة التي اكتسبناها لمدة الثلاثين سنة التالية … فإذا كان الفرد يريد أن يكون موظفاً مدى الحياة في أي مكان اليوم، عليه أن يسعى للتعلّم مدى الحياة”.
فالشهادة الجامعية في بداية المهنة العملية لم تعد تلغي الحاجة إلى اكتساب المهارات الجديدة بشكل مستمر، خاصة كلما امتدت مدة ممارسة المهنة. ولا شك في أن التدريب المهني خلال ممارسة المهنة مفيد لإعطاء الموظفين مهارات خاصة بمجال عملهم.
ولكن ذلك، أيضاً، سوف يحتاج إلى التحديث مراراً وتكراراً خلال المهنة التي تمتد على فترة عقود طويلة. وفي هذا الصدد، يقول أندرياس شليشر، مدير إدارة التعليم في منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي، المنظمة التي تضم معظم البلدان الغنية: “لطالما تميَّزت ألمانيا بتدريبها المهني، لكن الاقتصاد الألماني فشل في التكيف مع اقتصاد المعرفة”. ويضيف أن “التدريب المهني له دور، ولكن تدريب شخص في وقت مبكِّر للقيام بشيء واحد طوال حياته لم يعد هو الحل”.
انتقال مسؤولية التطوير المهني من المؤسسة إلى الفرد
على الرغم من أن المؤسَّسات نفسها كانت مسؤولة عن تزويد موظفيها بالخبرات المحدّدة المطلوبة ضمن المؤسّسة نفسها، يبدو أن أرباب العمل الآن أصبحوا أقل رغبة في الاستثمار في تدريب قواهم العاملة. فقد انتقلت مسؤولية التطوير المهني العملي من المؤسّسة إلى الفرد. وقد خلص التقرير الصادر عن مجلس المستشارين الاقتصاديين في أمريكا، في عام 2015م إلى أن حصة العاملين في البلاد الذين يتلقون تدريباً مقابل أجر أو أثناء العمل قد انخفضت بشكل مطرد بين عامي 1996 و2008م. وفي بريطانيا، انخفض متوسط ساعات تدريب العمال إلى النصف تقريباً بين عامي 1997 و2009م، أي إلى 0.69 ساعة فقط في الأسبوع. وتلخص جوناس بريزينغ، مديرة “مانبور”، وهي شركة استشارية في مجال التوظيف، هذه المسألة بقولها: “لقد انتقلت المؤسسات من بناء المواهب إلى مجرد استهلاكها”.
وتعود أسباب تراجع مكانة التدريب إلى عدة أمور أهمها أن ميزانيات التدريب معرّضة بشكل خاص للتخفيضات عند تعرّض الشركة لأية ضغوطات مالية أو اقتصادية. وقد تؤدي التغييرات في أنماط سوق العمل دوراً أيضاً: فالشركات لديها الآن مجموعة أوسع من الخيارات لإنجاز مهماتها، بدءاً من التشغيل الآلي ونقل الأعمال إلى الخارج لاستخدام العاملين لحسابهم الخاص والتعهيد الجماعي.
سبل التطوير المهني الذاتي أصبحت أسهل
مع هذه الصورة القاتمة وكل هذه التحديات، هناك مسألة إيجابية وهي أن سبل التطوير المهني الذاتي أصبحت أكثر سهولة. فهناك دورات مفتوحة على الإنترنت تقدِّمها شركات مثل “كورسيرا” و”أوداسيتي”، اللتين تبنتا النماذج العملية الجديدة التي تركِّز على التوظيف. كما اشترى موقع “لينكد إن”، موقع الشبكات المهنية، شركة أعمال التدريب عبر الإنترنت “ليندا” في عام 2015م، وهي تقدّم دورات من خلال خدمة تسمى “لينكد إن للتعلُّم” (Linkedin Learning)، كما أن لدى شركة التعليم عبر الإنترنت “بلورالسايت” مكتبة من أشرطة الفيديو للتدريب حسب الطلب، وهناك فرع للتعليم في قسم الحوسبة السحابية في “أمازون”. وإضافة إلى ذلك، أخذت الجامعات تتبنى مقرّرات للتعلّم عن بعد عبر الإنترنت. وهناك أماكن في العالم مثل سنغافورة أخذت تستثمر بكثافة في تزويد مواطنيها بمقرّرات تعليمية يمكنهم الاعتماد عليها طوال حياتهم العملية، فأنشأت مؤخراً ومولت “حسابات التعلم الفردية” لكل مواطن فوق سن الخامسة والعشرين للإنفاق على برامج التدريب في قائمة من 500 مؤسِّسة معتمدة للتدريب المهني. وفي عام 2015م، أنشأت فرنسا حسابات تدريب فردية يمكن للعاملين استخدامها لدفع تكلفة 24 ساعة من التدريب سنوياً على مدى ثماني سنوات في مجموعة واسعة من البرامج.
الشهادة الجامعية في بداية المهنة العملية لم تعد تلغي الحاجة إلى اكتساب المهارات الجديدة بشكل مستمر
وبالإضافة إلى سبل التعلّم عبر الإنترنت، برزت هنالك شركات مهمَّة متخصِّصة في تقديم خدمات التطوير المهني التقني مثل “وان مانث” و”كود أكاديمي” وغيرها. ولعل أبرزها شركة “الجمعية العامة” التي تقدِّم خدمات تعليمية مختلفة كالمهارات التي تسمى بالمهارات “القاسية” مثل الترميز والتنقيب عن البيانات وغيرها من الدروس التقنية، بالإضافة إلى المهارات “الناعمة” مثل القيادة والمرونة والقدرة على التحدي. وكان مصدر الإلهام في تأسيس هذه الشركة تجربتين شخصيتين تعرّض لهما مؤسِّس الشركة جيك شوارتز: أولهما، فترة من الضياع عانى منها بعد أن أدرك أن شهادته من جامعة “يال” لم تمنحه أية مهارات عملية مفيدة، وثانيهما، شعوره بأن شهادة الماجستير في إدارة الأعمال التي حصل عليها في مدة عامين قد كلفته كثيراً من الوقت و المال. ويقول الرجل: “أردت تغيير معادلة العائد على الاستثمار من التعليم، من خلال خفض التكاليف وتوفير المهارات التي كان أصحاب العمل بحاجة اليها حاجة ماسة”.
لأول وهلة، تبدو مكاتب شركة “الجمعية العامة” في لندن وكأنها تشبه مكاتب أي شركة ناشئة للتقنية. ولكنَّ هناك فرقاً كبيراً واحداً: ففي حين أن معظم الشركات تستخدم التقنية لبيع منتجاتها على الإنترنت، تستخدم شركة”الجمعية العامة” العالم المادي لتعليم التقنية. وتبدو مكاتبها كالصفوف في أي حرم جامعي، فالغرف مليئة بالطلاب الذين يتعلَّمون ويمارسون كتابة الرموز، وكثيرون منهم تركوا وظائفهم ليأتوا إليها. ويدفع المشاركون بدوام كامل ما بين 8000 و10000 جنيه إسترليني (13000 دولار) لتعلُّم اللغة الرمزية المشتركة للاقتصاد الرقمي في برنامج دائم يمتد ما بين عشرة واثني عشر أسبوعاً.
ولعل نجاح شركة “الجمعية العامة” التي أصبح لديها فروع في عشرين مدينة في العالم من سياتل إلى سيدني، وتخطى عدد خريجيها الـ 35000، أكبر مثال على زيادة الطلب على التعلّم المهني المتواصل، وعلى أهمية وجود مثل هذه المؤسسات التي أصبحت ضرورة في الاقتصاد الحديث.