الفن السينمائي هو الأكثر جماهيرية في العالم من دون منافس قريب، يدل على ذلك النمو المتواصل لصناعته التي يُحسب لها حسابها الكبير في اقتصاد كبريات الدول المنتجة مثل الهند والولايات المتحدة. وفي هذه الأخيرة، ثبت أن صناعة السينما تشكِّل رافعة اقتصادية عندما تتعرَّض باقي القطاعات الاقتصادية لأزمة ما.
فكيف صمدت السينما التي توقَّع البعض تراجعها أو حتى زوالها عند ظهور التلفزيون وغيره من المرئيات الحديثة؟
من الصعب الحديث عن السينما ككتلة واحدة متراصة في مواجهة التحدّيات الكبيرة التي اعترضتها على مدار الزمن. فالصورة تختلف من قارة إلى أخرى، ومن سوق إلى أخرى ومن بيئة اجتماعية إلى أخرى، كما من مرحلة إلى سواها.
فقد اختُرعت السينما قبل أكثر من 120 سنة، وشهدت تطوّرات كبيرة على مرّ الزمن، إلا أنّها صمدت. غيّرت جلدها مراراً، تماهت مع كلّ مستجدٍ ومثير، عرفت كيف تبقى في عمق الوقت، لم يتبدّد وهجها البتة، بل على العكس، لا تزال الفن الجماهيري الأول في العالم. علماً أنّ الأخوين لوميير (مخترعا السينماتوغراف)، اعتبرا بعد فترة وجيزة على عرض أول أفلامهما أنّ السينما “فنّ وُلد ميتاً”، أي كُتب له عدم التبلور والذهاب أدراج الرياح. إلَّا أنّ السينما استطاعت القفز بسرعة قياسية من كونها مجرد اختراع تقني إلى مصاف الفنّ العظيم، فالتسلية والصناعة التي تدرّ الملايين. وهذا كله بفضل سينمائيين مثل سرغي أيزنشتاين أو جورج ميلييس وغيرهما، وجدوا فيها آنذاك ما لم يجده الأخوان لوميير.
للبعد التجاري دوره
لعل أكثر ما ضمَن استمرارية السينما هو تحولها إلى منتج تجاري يخضع لمنطق السوق ومتطلباته. في البلدان النامية التي شهدت أوسع ظاهرة إقفال للصالات التجارية في العقود الماضية (المغرب العربي نموذجاً)، باتت القرصنة السبيل الوحيد لمشاهدة فِلم. أما في الدول الغربية، فلا تزال السينما تحافظ على موقعها الريادي ووظيفتها الاقتصادية ودورها الحضاري. إلا أنّ التضييق عليها من وسائط أخرى، كالتلفزيون والإنترنت والـ “دي في دي”، هدّد وجودها لبعض الوقت، ما جعلها تحدّث نفسها دائماً لتخاطب مكوّنات مجتمعية أوسع وتُقنع المتفرِّج المحتمل بضرورة التوجه إلى الصالة المغلقة التي توفّر متعة لا توفّرها المشاهدات البديلة.
فاليوم، باتت الاستوديوات الأمريكية الكبيرة تراهن على الإبهار أكثر من أيّ رهان آخر. وبات على الفِلم أن يتضمّن أكبر قدر من المؤثّرات البصرية والسمعية. إذا كان فِلماً حربياً، فعلى المشاهد الشعور أنه وسط المعركة مع الجنود. أي كلّ تلك الأشياء التي تحتاج إلى شاشة كبيرة ينغمس فيها المتفرّج. علماً أنه في السنوات الأخيرة، ضاق حجم الشاشات السينمائية، خصوصاً تلك التي في مجمعات متعدّدة الصالة، فيما شاشات التلفزيون المنزلية راحت تتوسّع على سبيل المنافسة.
كانت طرق المشاهدة البديلة (عن الصالة) التحدّي الأكبر أمام السينما في السنوات الأخيرة. وازدادت القرصنة لتصبح الطريقة الوحيدة للفرجة في بلدان كثيرة. فخلال وجودنا في الدار البيضاء، جلنا على الأسواق الشعبية التي تزدحم بكل أنواع المنتجات. ملابس بالية، وهواتف نقَّالة وعصائر منوّعة. تعايشٌ عجيب بين أنواع غير متجانسة. في تلك الدهاليز، محلات لبيع أفلام مقرصنة. رفوف برمّتها تنادي العيون وتعدها بعوالم سينمائية. الأمر نفسه نلحظه في مدن عربية وغير عربية كثيرة. فهذه الأفلام المقرصنة تأخذك بأقل من دولار إلى حيث لا يستطيع الموظف ذو الدخل المحدود الذهاب. أفلام أمريكية وفرنسية وعربية، وطبعاً نوادر من سينمات أخرى.
في الثقافة الأوروبية
“المشاهدة مشاركة للتجربة”
لكن، كما قلنا في بداية هذا المقال، لا يمكن الخروج باستنتاج يقدِّم مسحاً شاملاً لحال السينما وكيفية صمودها في وجه تكاثر سبل المشاهدة في زمن التقنية. فحال البلدان العربية التي تكتفي بالاستهلاك، تختلف كثيراً عن أوروبا. فأوروبا حاضنة السينما كنتاج ثقافي، بحيث يضرب هذا الفن جذوره في تراث طويل من الصناعة والمُشاهدة. وبسبب القدرة الشرائية للمواطنين في تلك البلدان وتفرّغهم للفن والترفيه، لا تزال الشاشة الكبيرة هي المحل الأول لمشاهدة الأفلام. وهذا مرتبط بـثقافة قديمة تُعد المشاهدة نوعاً من المشاركة للتجربة مع الآخر، وهذا أعلى شأناً من أيّ مشاهدة أخرى. المخرج جان لوك غودار مثلاً، وهو أحد روّاد “الموجة الفرنسية الجديدة”، كان يقول إنّ المشاهد يخفض رأسه عندما يحدّق في شاشة التلفزيون، ويرفعه عندما ينظر في اتجاه شاشة السينما. هذا نسق فكري واضح يمجّد الصالة وما تعرضه، في مقابل تتفيه الوسائط الأخرى، مع التذكير بأنَّ السينما انتقلت إلى التلفزيون في العقود الماضية، لا بل الشراكة بينهما في أوجها حالياً. أما زميله تروفو، من “الموجة” نفسها، فعبّر مراراً عن اقتناعه بأنّ الفرق بين مشاهدة فِلم في الصالة ومشاهدته على الفيديو، هو كالفرق بين كتاب نطالعه وآخر نستشيره.
أياً يكن، أتاح هذا كله لأن تكون في بلد مثل فرنسا اليوم قوانين تحمي صالات “الفن والتجربة” التي تُعدُّ آخر حصن منيع أمام تسليع السينما. وقد تبيّن الفرق في النظرة إلى السينما بين فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية في مايو الماضي، عندما حصل جدل حول رفض شركة “نتفلكس” عرض فِلمين من إنتاجها كان تم اختيارهما في مسابقة مهرجان “كان” السينمائي في الصالات الفرنسية، لكونهما مخصصيْن للعرض على منصتها الإلكترونية فحسب. إلا أنّ هذا يتعارض كلياً مع القانون الفرنسي الذي يمنع تسويق أي فِلم قبل عرضه في الصالة.
الدعم من التقنيات الجديدة
كانت تقنية “الأبعاد الثلاثة” منذ الخمسينيات، لحظة نجاة للسينما. فقد اضطلعت بدور مهم في جذب مشاهدين. وجاء هذا الابتكار على دفعات، حيث يغيب لفترات ويطلّ مجدداً. إلى أن بات استخدام هذه التقنية منتظماً مع حلول الألفية الثالثة، وبخاصة في الأفلام ذات الموازنة الضخمة. فبلوغ التقنيات الرقمية الحديثة مرتبة عالية من الكمال أسهم في تكريس هذه الظاهرة التي خاطبت الأطفال في البداية، لتنتقل تدريجاً إلى الكبار.
قد لا تتحوّل “كل” السينما (خلافاً للتأكيد الذي جاء سابقاً من مدير قسم التحريك في “دريمووركس” جيفري كاتسنبرغ) ثلاثية البُعد، لكنّ فكرة هوليوود منها كانت أولاً وأخيراً محاربة القرصنة المنتشرة في كل مكان وتوفير تفاعل سينمائي لا يمكن الحصول عليه إلَّا في الصالة. وأيضاً الوقوف ضدّ فكرة تحوّل المشاهدة المنزلية الوسيلة الوحيدة للمشاهدة عند البعض، وهو الأمر الذي جرى التصدّي له سابقاً بأفلام الكوارث الكبرى والأكشن التي تتطلّب مشاهدتها شاشة كبيرة. لكن ينبغي ألا ننسى أنّ التطوّر التقني بات أسرع من الهواء الذي نتنفسه، وهو ليس حكراً على السينما وحدها، إذ إنّ صنّاع التلفزيونات هم بدورهم انقضوا على “الأبعاد الثلاثة”.
فقد راهنت أسماء هوليوودية كبيرة في إنتاجاتها على “الأبعاد الثلاثة”، وهو رهان صعب وخطر ومكلف: ستيفن سبيلبرغ استعان بها لـ”تان تان”. تيم برتون أخذنا معها برفقة “أليس في بلاد العجائب”، إلخ. أما الموازنات فباتت مضاعفة. فلو سمعت في السبعينيات أنّ سينمائياً يوظّف في فِلم بالأبعاد الثلاثة مبلغ 315 مليون دولار، لاعتبرته مزحة. لكن جيمس كاميرون فعلها في “آفاتار”، وحصد أضعاف ما استثمره من أموال في الصالات. اللافت أنّه حتى مخرج “تايتانيك”، لم يكتفِ باسمه وبموازنة ضخمة لجذب المشاهد، فلجأ إلى الـ “ثري دي”، ليضمن الانغماس الكلي في العوالم الساحرة التي ابتكرها، ما لا يوفّره إطلاقاً أيّ نوع آخر من المشاهدة.
تقنية أخرى تجعل المشاهد ينغمس في الفِلم ويتشجّع للذهاب إلى الصالة، ظهرت في مطلع هذا العقد: الـ 4DX الذي يضخّم الإحساس بالبيئة التي تدور فيها حوادث الفِلم، مثل سقوط المطر أو هبوب الرياح أو حتى انبعاث الروائح. الكراسي تتحرَّك وترتجّ وهذا يحتاج إلى صالة مجهّزة خصيصاً لهذا الغرض. في المقابل، شقَّ الـ “أيماكس” طريقه بنجاج إلى صالات العالم، وهي تقنية تعتمد على تسجيل الصور وعرضها بشكلٍ أكبر بكثير في الحجم والدقة من تلك السائدة في أنظمة السينما التقليدية. ومعيار شاشة الـ “أيماكس” أن تكون بعرض 22 متراً وارتفاع 16.1 متر. وحظي فِلم “دنكرك” لكريستوفر نولان، الذي يغزو شاشات العالم حالياً، بأوسع انتشار لشريط مصوَّر بـ 70 ملم منذ ما يقارب الربع قرن. والعمل مطروح بنسخ أخرى أيضاً، من الـ 35 الرائج إلى الـ “أيماكس” النادر، ويتوقّف توزيعها على الشاشات المتوافرة في كلّ بلد. فنولان من الذين لا يزالون يتمسّكون بمقاربة معيّنة للسينما، قائمة على فكرة “الصفاء العرقي”. ويتحقّق هذا من خلال إصراره على التصوير بالشريط السينمائي التقليدي الذي نشأ عليه هذا الفنّ مند اختراعه، على الرغم من انحساره لمصلحة الرقمي في السنوات الأخيرة. وشأن نولان شأن عديد من المخرجين (منهم كوانتن تارانتينو) الذين لا يزالون مخلصين لفكرة تفخيمية عن السينما، وهي عندهم مادة لا تليق إلا للعرض داخل صالة. إنّها فنّ واحتفاء على السواء.
اختُرعت السينما قبل أكثر من 120 سنة، وشهدت تطورات كبيرة على مرّ الزمن، إلا أنّها صمدت. غيّرت جلدها مراراً، تماهت مع كلّ مستجدٍّ ومثير، عرفت كيف تبقى في عمق الوقت، لم يتبدّد وهجها البتة، بل على العكس، لا تزال الفن الجماهيري الأول في العالم
هذه الاعتبارات الاقتصادية والمصالح التسويقية والفتوحات التقنية، خلقت مستوى نظر جديد إلى السينما. صحيح أنّها فرضت نفسها، ولكن كان هذا طريقة لإطالة عمر السينما وتجديد استمراريتها وإبرام عقد جديد مع المتفرّج بَنْدَهُ الأساسي هو الإبهار. لا تزال في ذاكرتنا السينمائية الكيفية التي جرى بها الانتقال من عهد الصامت إلى الناطق. وكيف بدّل وصول الألوان نظرة السينمائيين إلى العالم، فأعاد النظر في مفهومهم للجماليات وللبُعد التشكيلي للكادرات. وكيف وظِّفت كل مرحلة من تلك المراحل، ليستدلّ المشاهد طريقه إلى الصالة المظلمة. لا تجوز المقارنة بين الاختراعين (النطق والألوان) و”الأبعاد الثلاثة”. ومع ذلك، بات معلوماً أنّ الإنجازات التقنية التي رافقت مراحل نمو السينما وتطورّها، كان لها فضل كبير في ضخّ روح جديدة داخل السينما، كجامع لكلّ الفنون وحامل لأمانتها.
قيمة الترفيه ثابتة أما أدواتها فتتغير
كُتبت للسينما العودة دائماً إلى جذورها، أي إلى التسلية والترفيه وتشتيت الحياة الروتينية للناس العاديين. الخدع التي طرحها أرباب السينما من “الأبعاد الثلاثة” إلى “الواقع الافتراضي” الذي يُعدُّ مستقبل السينما، تبدو وكأنها تقحم هذا الفن مجدداً إلى الصالون الهندي للـ “غران كافيه” الباريسي، حيث عُرض أول فِلم في العام 1885م. فكل هذا السعي المتواصل إلى جذب الجمهور، جعل من الفنّ الذي اعتنقه برغمان، كوبريك، وولز، تسلية تشبه إلى حدّ بعيد تسلية الأطفال في مدينة الملاهي. ألا تعيدنا “الأبعاد الثلاثة” مثلاً، بمنحها الشاشة عمقاً واقعياً، سواء إلى الخلف أم عبر ملامسة “وجه” المتلقي، إلى فِلم “دخول القطار إلى المحطة” (1895م) للأخوين لوميير وحادثة هروب المشاهدين من الصالة بعد خشيتهم من أن يدوسهم القطار؟
“السينما تُفبرك الذكريات فيما التلفزيون يفبرك النسيان”. هكذا كان يقول غودار في معرض كلامه عن العلاقة الملتبسة التي تربط السينما (وسيلة تعبير) بالتلفزيون (أداة لنقل المعلومات). بهذه العبارة الشهيرة، أشار مراراً إلى الشرخ الحاصل بين وسيلتين مرئيتين، ولدت الأولى من أحشاء الثانية، وعلى رغم ذلك، لا يجمعهما إلا مبدأ الاختلاف. ثمة دراسات أجراها باحثون في الشؤون المرئية، زادت المسافات بين هاتين الوسيلتين. فأكّدت أنّ نوعية التلقي تختلف بين المتفرّج القابع أمام شاشاته الصغيرة، والآخر الجالس في قاعة مظلمة قبالة شاشة ضخمة. على المستوى التقني، يستقبل الأول إشعاعات ضوئية “مباشرة” تجعله يمكث في مكانه ساعات طويلة، كما لو أنه تحت تأثير مغناطيسي ويفقد جزءاً من حواسه، في حين أنّ المُشاهد الغارق في الفانتازيا السينمائية، يتلقَّى إشعاعات ضوئية “منعكسة” تجعله يحافظ على وعي فكريّ معيَّن. أما نفسياً، فيمكن لمُشاهد التلفزيون استيعاب كلّ ما تلتقطه عينه من دون التدقيق في صدقيته، في حين يبدو أنّ لمُشاهد السينما قدرة على الدفاع عن وجهة نظره ومناقشتها والتمسّك بها، إذا احتاج الأمر إلى ذلك.