غير صحيح أبداً أن “الكتاب يُقرأ من عنوانه”، ليس في كل الأحوال على أية حال، والكتاب الذي بين يديَّ خير دليل على ذلك. مؤلِّف الكتاب هو الكاتب الأورغواني كارلوس ليسكانو الذي لم أقرأ له شيئاً من قبل، أما الكتاب فهو (الكاتب والآخر)، من إصدارات مشروع كلمة، عام 2012م، بترجمة متقنة وسلسة من نهى أبو عرقوب.
والآخر الذي يرد في العنوان ليس هو ما قد يتبادر إلى الذهن لأول وهلة بتأثير من الدراسات الثقافية الحديثة؛ أي المفهوم المجرد لمن ينتمون للثقافات أو الجماعات الأخرى بعمومها، وما يلحق ذلك من أطياف المعنى المتشعِّبة. الآخر هنا ليس سوى ذات الكاتب التي تنبثق منه وتنشق عنه (وربما عليه) لتبني عالمها الخاص بها وحدودها المرسومة بصرامة وجديَّة وتبتل في صومعة الكتابة.
يتحدَّث ليسكانو عن الكتابة بوصفها عملية ابتكار، ليس بالمعنى الدارج والمألوف باعتبار الابتكار مرادفاً للإبداع والتجديد، بل بوصفها علاقة مبتكِر بمبتكَر؛ حيث المبتكِر، أو ما يسميه “الخادم”، أيضاً، هو من يبتكر الشخصية الأخرى المبتكَرة التي تقوم بفعل الكتابة الحقيقي والفعلي، وقبل ذلك التأمل الطويل والتفكر العميق اللازمين لعملية الكتابة.
الكاتب، إذن، كما يراه ليسكانو هو دائماً اثنان: الأول منهما هو من يؤدِّي مهام ومفردات الحياة اليومية من ذهاب إلى العمل وتبضُّع وذهاب إلى الأسواق وتفاعل مع الناس، والآخر هو من يكرِّس نفسه للكتابة. ومن هنا أتى استخدام وصف “الخادم” للأول، فهو يكفي الكاتب مؤونة أداء كل ما ليس له مساس بالكتابة، وهي خدمة يؤدِّيها بكل سرور، حسب ليسكانو، ولكنه سرور ظاهري فقط “لأن التوق إلى الاندماج يظل موجوداً. فأن تكون اثنين ليس أسهل من أن تكون واحداً”.
يبدو ليسكانو مشغولاً بفكرة ما تعنيه له الكتابة، وكأنه يقدِّم لنفسه أو للآخرين تبريراً لانشغاله بها وانصرافه إليها، فأن تكتب يعني “أن تبحث عما لن تجده أبداً”، وهي عملية انشطار ووقوف أمام المرآة لتعرية الذات، ورغبة في التجسُّد، و”أن تكون موجوداً بعد أن يأتي الموت”، ومحاولة للإمساك باللحظة، وترك شهادة على الحياة.
واللافت للنظر هنا هو تواضع ليسكانو واحترامه المفرط لمن يسميهم “الأساتذة” ويعني بهم الكُتَّاب الكبار الذين سبقوه، والذين لا يجوز أمام أعمالهم إلا الصمت، أو أن نعيد على نحو رديء ما صنعوه، وأحسنوا صنعه. وفي هذا السياق أيضاً، يتحدَّث ليسكانو عما يسميه “الكتاب الكبير”، الذي لن يكتبه أبداً، كما يقول، ويعني به مجموع الكتب التي تحوز إعجابه وكتبها آخرون، و”التي أعرف أني لن أبلغها أبداً”.
وكل ما سبق لا يعني أن يفقد الكاتب ثقته بنفسه، بل على العكس من ذلك تماماً، فما يسميه ليسكانو “الإيمان اللاعقلاني بذاتك ككاتب” يكاد يكون الشيء الوحيد الضروري لإنجاز أثر أدبي، “فإذا كان الكاتب لا يؤمن بما يعمل، فلن يؤمن به أحد”.
خلاصة القول هي أن الرجل الذي كان عسكرياً، وطياراً في سن العشرين، وكان مناضلاً في إحدى المنظمات المسلَّحة، وأمضى ثلاثة عشر عاماً من حياته في السجن، وعاش أكثر من أحد عشر عاماً في ثقافة ولغة غريبتين عليه، وجد خلاصه في الأدب، الذي يهيمن على حياته، لا بمعنى أن لديه أشياءً يريد قولها، “بل لأنه من دون الأدب تفتقر الحياة إلى المعنى والمضمون، وإلى مكان للوجود”.