في الشعر العربي كما في شعر الشعوب الأخرى تخرج من القصائد الطويلة التي مهما بلغ شأنها، أبيات متفردة لتنطبع في الوجدان الشعبي ولتستمر نابضة بالحياة في كل زمان ومكان. يستعرض لنا فريق التحرير بعضاً منها.
في البدء كان بيتُ الشـِّـعر؛ قبل أن تكون القصيدة. وكان هذا البيتُ كافياً لسُكنى الفكرة، أو الشعور، أو الموقف. تماماً كما كان بيتُ الشـَّـعر – بفتح الشين وتشديدها – كافياً لسُـكنى الإنسان، واحتضان خصوصيته..! والفرق بين البيتين – الشـِّـعر والشـَّعر – هو أن الأول يعيش مع الدهور والأزمنة محتفظاً بقدرته على الإدهاش وإنعاش الفكر والإحساس معاً.
وقد انتقل الشعر العربي إلى القصيدة الكاملة وجعل بنيتها ووحدتها أساساً في قيمتها، إلا أن البيت الواحد بقي هو المأثور بين محبي الشعر بالذات. ولم يكن ذلك غريباً فـ “البلاغة” هي “الإيجاز”، في كل لغات العالم، وما يقال بقليل من الكلام أشدّ وقعاً مما يقال بالكثير. وهو ما يشير إلى أن من وظيفة الشعر – بل الفن عموماً – إنما هي تجسيد للحظات الانفعالية القليلة الكثيفة.
ألم يقل كولريدج الشاعر الإنجليزي قولاً مأثوراً في ذلك مصرحاً بـ: “أن قصيداً على درجة معينة من الطول لا يمكن أن يكون كله شعراً”..؟!
آباؤنا العربُ وصفوا البيت الواحد بـ “اليتيم” كناية عن أهميته، لا عن انكساره ووحدته. وما “يتيمة الدهر” إلا صفة صارخة لكتاب رأى فيه مؤلفه التميز والتفرد معتمداً على وصف أُطلق – أصلاً – على الدرر النادرة الـ “يتميمة”..!
وحين تـُناقش قضية البيت الواحد فإن الأكثر حضوراً هو أبو الطيب المتنبي الذي يكاد لا يـُنافس، ومنذ عصره حتى عصرنا ذهبت أبياته اليتامى مذهب الأمثال: فـ “الرأي قبل شجاعة الشجعان”، و”ما كل ما يتمنى المرء يدركه”، و”حتفي كأني حتفه”، و”إذا أتتك مذمتي”.. كان المتنبي الشاعر الذي أسمعت كلماته “من به صمم”…! لقد استفاد المتنبي من جعل البيت مسكناً للحكمة التي يبحث عنها الناس، واستفاد أغلب الشعراء، أيضاً، بقدرتهم على جذب انتباه الآخرين إلى بيتٍ جميلٍ يسكنه إحساسٌ ما، أو فكرة مضيئة.. أو تساؤل جاد..!
وعلى نسق بقاء البيت الواحد في الذاكرة والوجدان، وتأثيره فيهما، كان الشعراء يجربون ويجربون على أمل أن يترسخ لهم شيء في ذاكرة الناس.. قبل المتنبي وبعده كان همّ الشعراء أن يبنوا لهم ولو بيتاً واحداً..
أبو تمام قبل المتنبي له في الذاكرة العربية أبيات وأبيات.. قد يكون من ألمعها:
السيف أصدق إنباءً من الكتب
في حدِه الحد بين الجِـدِّ واللعب
بدوي الجبل من المحاولين، ومن حظه الجميل اختزال رؤية في قراءة الحياة:
قد تطولُ الأعمارُ لا مـجْـدَ فيها
ويضُمُّ الأمـجــــــاد يومٌ قصير
توأم معاصر لثابت قطنة كان معتدّاً بفعله متهاوناً بقصوره في الكلام.. والخطابة، في رؤيته، هي خطابة الشجاعة في الحرب:
فإن لا أكن فيكمْ خطيباً، فإنني
بسيفي إذا جد الوغى لخطيبُ
اختيارات البيت الواحد في شعرنا العربي لا تنتهي. والشابي كان يرى النور في قلبه ويقرر:
النور في قلبي وبين جوارحي
فعلامَ أخشى السير في الظلماءِ؟
والشابي هو نفسه الذي صار أحد أبياته شعاراً للأحرار والثوار:
إذا الشـعب يومـاً أراد الحـياة
فـلا بد أن يسـتجـيـب الـقدر
وقبله حافظ إبراهيم الذي أعطى للأم وساماً شعرياً لا يزال يردد كل يوم:
الأم مدرسة إذا أعددتـهـا
أعـددت شـعباً طيب الأعراق
وكثير هي نماذج البيت الواحد هذه ترى القارئ يكملها ولم يقرأ منها إلا كلمة أو اثنين، مثل قول طرفة بن العبد:
ستبدي لك الأيام ماكنت جاهلاً
ويأتيك بالأخبار من لم تزود
أو الوصف الدرامي الهائل لحركة الخيل في بيت امريء القيس:
مِكرٍّ مِفرٍّ مقبلٍ مدبرٍ معاً
كجلمود صخرٍ حطَّه السيل من علِ
وكثير من أبيات الواحد التي يستشهد بها لست شعراء ذائعي الصيت وقد تم تناقل بعضها وقد سقط اسم قائلها كليّاً. فهنا الشاعر مجهول يقول:
أتاها بعطر أهلها فتضاحكت
وقالت، وهل يحتاج عطرٌ إلى عطرِ
وآخر:
وما الناس إلاّ الـعاشقون ذوو الهوى
ولا خـير فيـمن لا يحب ويعشق
وآخر:
إذا ما بدت لـيـلى فكلّي أعـينٌ
وإن هي ناجتني فكلّي مسـامع
وعن أعرابيٌ مجهول أيضاً في وصف الغربة:
فلا تحسبي أن الـغريب الـذي نأى
ولكنّ من تنأيـن عنه غريب
اعتنى البيت بتلخيص الكثير الكثير من الكلام الذي قد يُقال ويذهب أدراج النسيان.. هذا الاعتناء جعل من البيت خلاصة لتجربة الشاعر وإحساسه بكل ما هو حوله، ومن حوله.. فالظلم عند محمود الوراق تجربة مختلفة عن الظلم الذي نفهمه:
ما زال يظلمني وأرحمه
حتى رثيت له من الظلم
وصراع الحياة والموت والمرض له حقيقته الصعبة في قول الربيع بن خيثم:
هَلَكَ المداوي والمداوى والذي
جلب الدواء وباعهُ والمشتري
أما المشاعر الخاصة بالحبّ والشوق واللوعة فهي بلا عدد حين نبحث عن يتامى الأبيات.. غير أن لحميد بن ثور أمنية مختزلة جداً:
أقلب طرفي في السماء لعله
يوافق طرفي طرفها حين تنظر
كل مضمون من مضامين الحياة يمكن أن يُختزل في بيت شعر واحد؛ إذا توافرت العبقرية والمخيلة والمقدرة الإبداعية. نزار قباني له بيتٌ ذائع يختزل فيه كل ما يمكن أن يقال عما يجهله العاشق في العشق:
عشرون عاماً يا كتاب الهوى
ولم أزل في الصفحة الأولى
ومثل هذا الاعتراف بانعدام المعرفة يشبهه اعتراف مختلف لشاعر عباسي آخر هو دعبل الخزاعي:
إني لأفتح عيني حين أفتحها
على كثيرٍ ولكن لا أرى أحدا..!
والبيت مُختزنٌ للرؤية والموقف المتذمر مثلما لدى أدونيس:
بكت المئذنهْ
حين جاء الغريب
اشتراها
وبنى فوقها مدخنه
والبيت مساحة للدهشة من الواقع، ذلك الواقع الذي يتكرر من أن تأتي الأيام بأي جديد في رأي عبدالله البردوني:
لماذا الذي جاء ما زال يأتي
لأن الذي سوف يأتي ذهبْ..!!
في الشعر العربي، عموماً، مملكة يمكن اعتبارها مملكة البيت الواحد. وهي مملكة شغلت الأوائل والأواخر، المختصين والعابرين. شغلت الأوائل الذين اصطنعوا آراءً مطلقة في تقييم الأبيات.. لقد ادعوا أجمل ما قالته العرب في الغزل، والهجاء، والفخر، والمدح.. وكانت أفعل التفضيل رائدهم التي لا يمكن الوثوق فيها طيلة الوقت.
وانشغل المختصون بالبيت الواحد، وأبو منصور الثعالبي أحد أوائل المهتمين خاصة في كتابه “الإعجاز والإيجاز” الذي ولدت من بعده كتب كثيرة.. جواهر الأدب.. لآليء الشعر.. وغيرهما.
وخليفة محمد التلّيسي أديب ليبي يُعتبر من المهتمين بقضية “بيت الشعر” وقد ألف مجموعة كاملة من مختاراته من روائع الشعر العربي، منطلقاً من رؤية ثاقبة: “الحركة النقدية حول الشعر إنما ولدت وتطورت بسبب ما فجره البيت من صراع وخصام. فالمفاضلة بين الشعراء في القديم إنما اعتمدت على البيت الواحد”.
وقد يكون لكلٌ عذر ورأي خاص.. لكن الرأي العام في مسألة أهمية البيت الواحد له فعله، فقد ذهبت مئات الأبيات أمثالاً وشغلت الناس وملأت مواقفهم، وحين ينجح بيت من الشعر في أن يتحوّل مثلاً يسير بين الناس؛ فإنه يكون قد بنى مملكته الخاصة..!
———————————
ديوان اليوم
الحُروف القصيرة
لأنَّ لِسَاني
عَرِيضٌ.. طَويلٌ..
كَطُولِ الكَلامْ
صَمَتُّ..، وَصَمْتُ الُحرُوفِ
حَديثٌ شَهِيُّ
يَهُزُّ السَّلامْ
أُفَتِّشُ عنْ جُملةٍ لا تَحيدُ
عَنْ السَّطْرِ بَيْنَ الزِّحَامْ
أُفتِّشُ عن قِصَّةٍ تَنْتَهي..،
وتَكْتُبُ فِيَّ..
فُتُورَ الخِيامْ!!
فَراغٌ.. فَراغٌ.. ولا شَيْءَ
إِلاَّ هَديل الجِرَاحِ..
علَى مُقْلَتَيْكَ..
كَصَوْتٍ قَديمٍ تَمَزَّقَ
في رَدَهَاتِ السِّنِينِ
وَعَادَ بِلَوْنٍ فَقير
رَميمٍ.. تَعَلَّمَ نَبْشَ
العِظَامْ..
تَوَهَّمْتُ أنَّ عظَامَ العِبَارةِ
حَفْرٌ.. وَنَبْشُ العِظَامِ
حَرَامٌ.. حَرَامْ!!
كَأَنَّ التَّوَهُّمَ
لَمَّ الطَّرِيقَ..، وكَبَّ الطَّلاَسِمَ
بَيْنَ الوَرَاءِ..، وَبَيْنَ الأمَامْ!!
نُمُوٌ يَضُمُّ حُقولَ الكَلامِ
وَمَوتٌ يصُدُّ إِنَاثَ الخِتَامْ
تُرَابٌ تَسَاقَطَ، يَحْثُوا
البَشَائِرَ.. – عِنْدَ اللِّقَاء –
كَنَقْصِ التَّمَامْ!!
بأيِّ اللُّغَاتِ..
تُريدُ اللِّقَاءَ
وَنَحْنُ نُحَيِّي – على غَفْلَةٍ –
دُرُوبَ المَمَرِّ
– وَلاَ فَرْقَ عِنْدِي –
لِمَا بَيْنَنَا
سَواءً أَتَيْنَا نَحُثُّ الخُطَى..
سَواءً أَتَيْنَا نُمِيتُ المَدَى..
فَإِنَّ النِّهَايَةَ مَا بَيْنَنَا
إمَّا الظَّلامُ بِظِلِّ الجِدَارِ
وَإِمَّا التَّوَحُّدُ – في صَمْتِنَا –
لِنَدْخُلَ – نُطْقاً –
جِدَارَ الظَّلاَمْ!!