بيئة وعلوم

المضادات.. تواجه مصيرها؟

  • 46-47(full color)

المضادات الحيوية، التي بقيت لأكثر من نصف قرن تشكِّل العامود الفقري للصيدلية الحديثة، تواجه اليوم مأزقاً يتمثّل في تضاؤل فاعليتها وقدراتها العلاجية، حتى إن الأبحاث لم تعد تتركز على تصنيع مضادات جديدة أو أقوى من السابق، بل على إيجاد سبل علاجية مختلفة تماماً. الدكتور أحمد سعادة* يحدثنا هنا عن الاستعمال السليم للمضادات، والخطورة الكامنة في استهلاكها كيفما اتفق، وما أدى إليه هذا العبث.

*طبيب أخصائي مقيم في باريس

في سنة 1928م اكتشف الطبيب البريطاني الكسندر فليمينغ أن الجراثيم لا تنمو بوجود “البينسيليوم” وهو الاسم العلمي للعفونة. فقد لاحظ هذا العالم بمحض الصدفة أن أحد أنواع الفطريات المعروف باسم “بينيسيليوم نوتاتوم” قد أفرز مادة البينسيلين التي أتلفت هذا الفطر بالكامل. وكان لا بد من انتظار بضعة عقود من الزمن لتتم ترجمة هذا الاكتشاف إلى ثورة علاجية كبرى، كانت الأساس في القضاء على أبرز الأمراض المعدية التي كانت تفتك بمئات الآلاف من المصابين. وهكذا، لم يكن فليمنغ على قيد الحياة عندما بدأ اكتشافه يستعمل كعلاج رئيس في الحياة اليومية.

ففي سنة 1940م بدأ ظهور مادة البينسيلين في الأسواق كدواء لعلاج الأمراض المعدية والالتهابات المختلفة وتم إنقاذ حياة العديد من المرضى. وفتح هذا الاكتشاف الطريق أمام اكتشاف مضادات حيوية أخرى مثل “الستربتومايسين” الذي استحق مكتشفه العالم الأمريكي سلمان واكسمان جائزة نوبل للطب عام 1952م. فحتى القرن التاسع عشر، كانت الأمراض المعدية، أي التي تتسبب بها الجراثيم السبب الرئيس للوفيات في العالم. وحتى منتصف القرن العشرين، وفي الولايات المتحدة على سبيل المثال كان ربع المصابين بالأمراض المعدية مثل الالتهابات الرئوية والسل والأمراض الجنسية يموتون. وانخفضت هذه النسبة عام 1990م إلى 4 في المئة فقط، بفضل استعمال المضادات الحيوية.

ما هي هذه المضادات؟
هي مواد كيميائية تنتج بواسطة أجسام صغيرة حية تملك القدرة على منع نمو الجراثيم، وفي بعض الأحيان القضاء عليها حين يتم وضعها داخل محلول مخفف جنباً إلى جنب مع الجراثيم. ومع التقدم العلمي والتكنولوجي، تغيرت طريقة إنتاج المضادات الحيوية فأصبحت تنتج داخل المختبرات بواسطة التركيب الكيميائي المحض أي بالاعتماد على مركبات صناعية غير طبيعية.

ولكل مضاد حيوي مساحة فاعلية تعني مجال تأثيره على الجراثيم. وكلما كان باستطاعة هذه المضادات القضاء على أوسع طيف ممكن من الجراثيم كلما كان مجال فعاليتها أوسع. ولا بد هنا من الإشارة إلى أن المضادات الحيوية عديمة التأثير على الفيروسات ويقتصر تأثيرها على الجراثيم وأحياناً على الطفيليات وبعض الجسيميات الحية.
وتنقسم المضادات الحيوية إلى عدة فئات أو كما يشاع في الوسط الطبي إلى عدة “عائلات”. وهذا التصنيف يستند إلى ثلاثة أسس: الطبيعية الكيميائية للدواء، طريقة تأثيره على الميكروبات ومدى تأثيره. ولكي يكون استعمال المضادات الحيوية ناجعاً فلا بد من احترام عدد من القواعد العامة:
1 – 
لا بد من تحديد نوعية العامل المسبب للالتهابات (بكتيريا أو فيروس أو فطر).
2 – 
وضع المريض العام (العمر، وجود أمراض مرافقة، إدمان على التبغ أو غيره، القصر الكلوي).
3 – 
حساسية الميكروب المسبب للالتهاب إزاء المضادات الحيوية الموصوفة.

مضاد أو أكثر
من المعروف أن الغالبية العظمى من الالتهابات الشائعة يتم علاجها بسهولة بواسطة نوع واحد من المضادات الحيوية. ولكن في بعض الحالات ولمزيد من الفعالية في العلاج يتوجب استعمال نوعين من المضادات الحيوية في آنٍ معاً على شرط أن تكون فعالية هذين المضادين مجتمعين أكبر من فعالية كل منهما على حدة وأن يكون تأثير الأول مكملاً لتأثير الثاني.

من أهم الأسباب التي دفعت إلى استعمال مضادين حيويين أو أكثر في آنٍ معاً هي الحيلولة دون تمكين الجراثيم من التأقلم مع الدواء وبالتالي فرز جراثيم متحولة لا تتأثر بالمضادات الحيوية المعروفة. ويصح ذلك في علاج مرض السل لأن الميكروبات التي تسبب هذا المرض ليست متطابقة وتتفاوت حساسيتها إزاء المضادات الحيوية من مريض إلى آخر. فبعض هذه الجراثيم لا تتأثر بالعلاج من البداية في حين أن بعضها الآخر يتأقلم مع العلاج لتصبح مقاومة له. واللجوء لإعطاء أكثر من مضاد حيوي في آنٍ واحد ومن عائلات متعددة يفرض نفسه إذن كحل لمنع ظهور جراثيم مقاومة.

الهدف الأول من المضادات الحيوية كما رأينا كان ولا يزال القضاء على الالتهابات التي مصدرها جرثومي. ومعيار الشفاء هو بكل بساطة زوال العوارض السريرية والميكروبية. ولكن مع تطور الطب والتكنولوجيا الطبية أصبح استعمال المضادات الحيوية وقائياً في بعض الأحيان واستباقياً في أحيان محددة جداً، كما هو الحال بعد عملية جراحية أو التهاب للغشاء الداخلي للقلب. وفي بعض الحالات يتم إعطاء المضادات الحيوية بشكل احتمالي، بانتظار معرفة بعض الفحوصات المخبرية الطويلة التي تعطينا بشكل أكيد نوعية الجرثومة ومكان تمركزها. وفي مثل هذه الحالة الاحتمالية يكون المضاد الحيوي الموصوف من النوع الواسع التأثير. وكلما كان العلاج مستنداً إلى نتائج مخبرية أكيدة كلما كان المضاد متخصصاً ومحدود التأثير بالجرثومة المعنية.

عائلات من المضادات.. لماذا؟
أشرنا أعلاه أكثر من مرة إلى وجود “عائلات” من المضادات الحيوية، بعدما كان “البينسيلين” المضاد الوحيد المعروف. فما الذي أدى إلى تنامي هذه الصناعة، وإلى تعدد أنواع المضادات؟

النجاح الباهر الذي حققته المضادات الحيوية في القضاء على العديد من الأمراض الجرثومية، خاصة في السنوات الأولى من عصرها، أدى إلى إفراط في الاعتماد عليها. ولكن هذا الإفراط، بمعنى الحاجة الاستهلاكية إلى كم أكبر، ليس بحد ذاته وراء اكتشاف المزيد منها وتصنيعه. بل هناك أمر آخر. فالتغيرات التي حصلت في جسم الإنسان المستهلك لهذه العقاقير، وقدرة الجراثيم على التأقلم مع هذه المضادات، من جملة الأسباب التي أدت إلى ظهور جراثيم جديدة مقاومة. لأن الجرثومة “تعلّمت” خلال نصف قرن كيف تحمي نفسها من تأثير هذا المضاد أو ذاك وتعطل أداءه.

من ناحية أخرى، فإن تطور الطب والجراحة عموماً (مثل زرع الأعضاء، وزيادة المعرفة حول الأورام الخبيثة وما شابه) استوجب استعمال المضادات الحيوية بشكل أوسع، وأدى إلى تعود الجسم عليها، وتأقلم الجراثيم معها، مما استوجب، ولا يزال يستوجب، اختراع مضادات أقوى من السابق.

بين المقاومة والمقاومة المضادة
هناك علاقة بين العلاج بالمضادات الحيوية وظهور جراثيم مقاومة، لا بالطبع بل بالتطبع والتكيّف إلى درجة أننا أصبحنا نواجه جيلاً من الجراثيم الصامدة في وجه أنواع عديدة من المضادات الحيوية المتعددة العائلات والفعاليات. كيف نفسر هذه الظاهرة المقلقة؟ هناك عدة تفسيرات. فعلى المستوى الفردي هناك أكثر من عامل نذكر منها:
– التركيب العضوي للجرثومة.
– 
نوعية المضاد الحيوي المستعمل للقضاء عليها.
– موضع تمركز الجرثومة.
– 
إمكانية التخلص من بؤر الالتهاب (فالقضاء على الالتهاب الذي مصدره خُراج مليء بالقيح لا يُعالج إلا بعد إفراغ هذا القيح جراحياً وهذا ما يسهّل عمل المضادات الحيوية).
– 
المناعة العامة والموضوعية للمريض تلعب دوراً في سرعة الميكروبات المسببة للالتهابات. ففي حين يحتاج المريض العادي إلى بضعة أيام من العلاج للقضاء على التهاب ما فإن نفس هذا الالتهاب يحتاج إلى فترة أطول لدى مريض فاقد للمناعة.
– 
طول فترة تناول المضادات الحيوية وكيفية الالتزام بتعليمات الطبيب. فكلما خالف المريض هذه التعليمات سواء عن طريقة تجاوز مدة العلاج أو تقصيرها في حال شعوره بتحسن، كلما زادت المخاطر بنمو جراثيم مقاومة تعصى على العلاج.

أما على الصعيد الجماعي فإن تعميم تناول المضادات الحيوية في حضارتنا الحديثة، وسوء التعامل معها في كثير من الأحيان والأماكن، أدى إلى تغييرات عميقة في البيئة الميكروبية البشرية والتي تشتمل على جراثيم يحتاج إليها جسم الإنسان لإفراز موادٍ معينة تدخل في تركيبات كيميائية معينة داخل الجسم ضرورة لتوازنه الطبيعي البيولوجي. وهذه التغييرات أضعفت هذه البيئة وجعلت الجسم البشري بصورة عامة أقل مقاومة للجراثيم الخارجية. وكلما تكرر اللجوء إلى العلاج بالمضادات الحيوية كلما أدى ذلك إلى نمو جراثيم أكثر مقاومة وعصياناً على العلاج المتوافر. وهذا ما يدفع الباحثين إلى الدخول في سباق محموم من أجل ابتكار مضادات جديدة أكثر فعالية وأكثر ملاءمة لم تتعود عليها بعد الجراثيم القديمة.

تجمع الدراسات الطبية والمخبرية الحالية على أن هناك علاقة سببية أكيدة بين ظهور الجراثيم المقاومة وبين الاستعمال الجماعي للمضادات الحيوية بشكل عشوائي وغير مسؤول. وليس من قبيل المصادفة أن أشرس الجراثيم المقاومة هي تلك التي تنشأ في المستشفيات وتنتقل منها، عبر المرضى أو عبر الممرضين والجسم الطبي، إلى العالم الخارجي وفي بعض الأحيان بصورة وبائية. ومن المفارقات المذهلة أن المستشفيات الكبرى التي تستعمل داخلها كميات هائلة ومتكررة من المضادات الحيوية هي الأكثر تنمية للجراثيم المقاومة.

البحث عن مخرج
ما الحل إذن للخروج من هذا السباق المدمر المجنون؟
منذ سنوات وخاصة بفضل الوعي الطبي لدى الرأي العام في الكثير من بلدان العالم المتطورة والباحثة عن طرق علاج بديلة، أخذ الباحثون يفتحون طرقاً جديدة أكثر عقلانية وأقل هدراً لاستعمال المضادات الحيوية بحيث يتم الاعتماد أكثر فأكثر على التحاليل المخبرية قبل بدء العلاج وابتكار أدوية جديدة تستهدف الجرثومة بشكل محدد ودقيق. والثورة التي يجري الإعداد لها حالياً في المختبرات والجامعات ومراكز البحث الحكومية أو تلك التابعة لشركات الأدوية المتعددة الجنسية تدور حول محورين واعدين:
– المحور الأول: ويقوم حول دراسة أكثر تعمقاً وجذرية للجراثيم وطريقة عملها ومقاومتها.
– المحور الثاني: ويقوم حول دراسة الهوية الجينية للجرثومة بحيث يتم تعديل سلوكها وإفرازاتها السامة بدل إبادتها.

ولكن الموضوع هنا يكاد يتجاوز الطب لأنه مرتبط بالمجتمع وأولوياته وبالاقتصاد وكلفته. فهل هناك من يريد دفع الثمن؟

أضف تعليق

التعليقات