بيئة وعلوم

سباق بين زراعتين: الطبيعية والمعدلة وراثياً

  • 42a
  • 38b
  • 41

في كل يوم تخرج من المختبرات أنباء جديدة عن إنجازات غير مسبوقة في تعديل النباتات وراثياً. ذُرة مقاومة للآفات، حبوب خالية من مسببات الحساسية، سنابل قمح تحمل حبوباً أكثر.. وحتى الطماطم التي تحتوي على لقاحات ضد الأمراض الجرثومية التي تصيب البشر. ومع ذلك، ومن تحت تربة هذا التطور العلمي والتكنولوجي، عادت الزراعة الطبيعية المبتعدة عن كل مؤثر كيميائي أو تغير وراثي لتنمو وتزاحم الزراعة الإنتاجية. الزميل ماجد نعمة يروي لنا قصة السباق بين هاتين الزراعتين.

في مطلع القرن العشرين، كان السؤال المطروح بإلحاح أمام علماء السكان والتخطيط والاقتصاد: هل ستكون الموارد الطبيعية قادرة على اللحاق بالتزايد السكاني المطرد في العالم نتيجة تقدم الطب والعلوم وارتفاع المستوى العام للمعيشة؟ ولم تكن هذه التساؤلات جديدة، بل كانت صدى لكتابات الفيلسوف الإنجليزي توماس روبرت مالتوس الذي كان قد تنبأ منذ عام 1798م بأن بريطانيا مهددة بنضوب مواردها الطبيعية ومقبلة على أزمات اقتصادية ومجاعات وأوبئة ما لم يتم تحديد النسل بسرعة.. كان عدد سكان بريطانيا آنذاك لا يتجاوز الثمانية ملايين نسمة، وهو اليوم يتجاوز الستين مليونا.. وبدلاً من أن تتحقق توقعات مالتوس التي كانت تنذر البشرية بالويلات وبعظائم الأمور، فقد صارت بريطانيا تنعم بوفرة لم يسبق لها مثيل.. وفوق هذا وذاك لم يعد الانفجار السكاني المنتظر هو الذي يشغل بال علماء الإحصاء والتخطيط في بريطانيا وغيرها من الدول المتقدمة صناعياً وحتى في بعض دول العالم الثالث بل هرم السكان وكيفية تشجيع العائلات على الإنجاب. والأهم من كل ذلك هو أن الشغل الشاغل في هذه البلدان لم يعد التفتيش عن لقمة العيش فقط، بالمعنى الحرفي للتعبير، بل عن نوعية هذه اللقمة: هل هي نتيجة الزراعة الصناعية المكثفة ومختبرات المنتجات المعدلة وراثيا أم ثمرة طبيعية لما تجود به الأرض؟ هل اللحوم التي يستهلكها هي من أبقار أصابها الجنون أم دواجن مصابة بالإنفلونزا الآسيوية أم أسماك مدجنة مليئة بالدهون والهرمونات ومعلوفة بالعلف الصناعي أم أنها نتاج الحقول والمراعي والمحيطات..

فمن دون التقليل من واقع سوق التغذية في العديد من البلدان الفقيرة، يمكن القول أن البشرية عموماً نجحت في تلافي المجاعة العالمية التي كانت مرتقبة نظرياً بفضل سلسلة من التطورات التي شهدتها الزراعة في القرن العشرين والتي يندرج معظمها في إطار تدخل الإنسان في مساراتها التقليدية وفي الطبيعة عموماً.

من الكيمياء إلى الوراثة
أدى تطور علم الكيمياء وتصنيع موادها في القرن العشرين إلى الاعتماد على الكيماويات لزيادة المحاصيل الزراعية: الأعلاف الصناعية للماشية، المبيدات للتخلص من الحشرات والآفات الزراعية، والمخصبات لزيادة سرعة نمو النبات ومقاييس الثمار.. ولكن العلم نفسه الذي كان وراء تفشي استعمال المواد الكيماوية في الزراعة هو الذي راح يفضح آثارها المدمرة على صحة الإنسان والبيئة.

تراجع استعمال الكيماويات واستقر على مستويات “مقبولة” من قبل المنظمات والجهات الحكومية المعنية بمسائل الزراعة والتغذية. ولكن تطوراً آخر في مجال علم الوراثة اقتحم عالم الزراعة زاعماً لنفسه القدرة على الوصول إلى النتائج المتوخاة من الكيماويات من دون استعمالها. ففي العام 1973م تمت في أمريكا أول عملية نقل ناجحة للجينات على المستوى البكتيري، وبعد ذلك بعشر سنوات، تم إنتاج أول نبتة معدّلة وراثياً، وكانت نبتة تبغ. وفي العام 1994م، أنزلت إلى الأسواق الأمريكية أولى ثمار الطماطم المعدلة وراثياً.. وانفتح عالم الزراعة – والبيئة ككل من ورائه – على مرحلة قيل أنها بداية تاريخ جديد في الحياة الزراعية.

المبدأ العلمي بسيط ويقول أنه بتعديل الخصائص الوراثية التي تحملها البذور في المختبرات، يمكن جعل نبتتها وثمارها مقاومة للآفات والحشرات وحتى للعوامل الجوية، كما يمكن زيادة عدد الثمار في النبتة الواحدة، وإضافة فيتامينات إليها، وإزالة المواد المضرة فيها.. الخ. النتائج تبدو ظاهرياً باهرة: أبقار تدر حليباً أكثر، حقول ذرة لا تشوبها الحشرات والآفات، خضار وفاكهة خالية من المواد الكيماوية، وسنابل قمح تحمل حبوباً أكثر من السنابل التقليدية، ولكن..

في العام الماضي، بلغت المساحات المزروعة ببذور معدّلة وراثياً حوالي 58 مليون هكتار في العالم بأسره. وهذا الرقم ارتفع عن ما كان عليه في العام الأسبق، ولكنه قد يكون مرتفعاً أيضاً عن ما سيكون عليه في الأعوام المقبلة.. إذ عادت الزراعة التقليدية المجردة من الكيماويات بشكلها المُخصِّب والمبيد للآفات والمعتمدة على البذور الطبيعية لتطل برأسها بخجل أولاً، ومن ثم لتفرض نفسها بقوة على السوق خلال سنوات قليلة بحيث بات يمكن القول أن هناك سباقاً عالمياً متكافئاً بين النباتات المعدلة وراثياً والتي هي حصيلة الذروة في التقدم العلمي، ومنتجات الزراعة التقليدية الطبيعية.

خلفيات الانقسام
يخطىء من يتصور أن هذا الانقسام في العالم حول الغذاء هو مجرد اختلاف في وجهات النظر بين مدرستين فلسفيتين. إنه في الواقع يخفي صراعاً على مصالح هائلة وعن شهية لا حدود لها للسيطرة علىالأسواق وتكنولوجيا الإنتاج الزراعي في المستقبل القريب. وليس الصراع بين أوروبا والولايات المتحدة حول زراعة المنتجات المعدلة وراثياً وحقن المواشي بالهرمونات مجرد خلاف علمي أو طبي أو فلسفي أو تنافس على حماية الصحة العامة في هذا البلد أو ذاك، بل هو بالدرجة الأولى خلاف اقتصادي. فكل من هاتين القوتين الزراعيتين الغذائيتين المهيمنتين عملياً على سوق الغذاء في العالم اليوم تمارس في الواقع الأساليب الإنتاجية نفسها وتحاول الخروج منتصرة من السباق التكنولوجي الكبير الذي سيمكن الفائز فيه من التحكم عملياً بمستقبل التغذية في العالم عبر السيطرة على براءات الاختراع التي تحاول الشركات الغربية الكبرى احتكار القسم الأكبر منها.

والحديث عن أيهما أفضل، منتجات الزراعة الإنتاجية المكثفة أو إن صح التعبير “الزراعة الصناعية”، بما في ذلك المنتجات الزراعية المعدلة وراثياً أم المنتجات الطبيعية، يبدو في الواقع سوريالياً بعض الشيء، لأن ذلك يفترض أن الزراعة التقليدية كانت فعلاً طبيعية وأن الزراعة الإنتاجية المكثفة هي بالضرورة مضرة بالبيئة والصحة والذوق. الواقع هو مزيج من كل هذه المعطيات في آنٍ معاً، لأن الزراعة التقليدية كانت هي الأخرى في مرحلة فاصلة من مراحل تطورها نتيجة فرز غير طبيعي. فأنواع الحنطة التي طورها المزارع في بلاد الشام منذ أكثر من اثني عشر ألف عام كانت نتيجة ملاقحة وتقاطع بين أجناس متعددة من الحنطة كان للإنسان دور أساسي فيها. فهي، بشكل من الأشكال، نتيجة تعديل وراثي بدائي. كما أن المنتجات الزراعية المعدلة وراثياً بشكلها الحديث، إذا ما تركنا جانباً المصالح الاقتصادية التي تقف وراءها، ليست شراً كلها خاصة وأن إمكانية تحسينها نوعياً ومذاقاً واردة لا بل حتمية على ضوء تطور حاجات المستهلك الذي أصبح أكثر تطلباً ووعياً.

ولفهم أبعاد المعركة الدائرة حالياً بين الشركات الزراعية المتعددة الجنسيات (في الواقع تنتمي كلها إلى جنسيات أمريكية وأوروبية) المتحكمة بسوق البذور والتكنولوجيا الغذائية الزراعية الصناعية وكذلك بتجارة اللحوم والأسماك والحبوب، لا بد من التذكير أن هذا السباق من أجل تأمين الغذاء للإنسان، قد بدأ في الواقع مع بداية الزراعة المنظمة في منطقتنا منذ الألف العاشر قبل الميلاد. عندما لم يعد يكتفي الإنسان بقطف ما كانت تجود به عليه الأشجار المثمرة البرية أو طرائد الصيد وبدأ ينظم إنتاج غذائه بشكل منهجي وعقلاني من خلال البذار والحصاد في مواسم محددة ومن خلال تربية المواشي والدواجن لاستهلاكها عند الحاجة. وكان ذلك بداية مسار طويل وبطيء لتدجين منتجات الأرض أدى عملياً إلى إدخال تعديلات وراثية ومظهرية في بعض المزروعات وبالدرجة الأولى الحبوب. وفي أقل من ألف عام بدأت المزروعات المدجنة والمنتخبة تحل تدريجياً محل النباتات البرية. ويقول عالم الآثار النباتي جورج فيلكوكس حول هذا الموضوع إن “أول تغيير وراثي بارز في التاريخ حصل عندما لم تعد النباتات المتحولة تنثر بذورها على الأرض أثناء الحصاد بل تبذر عن طريق الانتخاب الطبيعي”. وبذلك أصبحت الزراعة تخضع لتجارب طويلة لاختيار أفضل الأنواع وأكثرها إنتاجياً وملاءمة للتربة والمناخ والبيئة.. هذا المسار الذي استغرق آلاف السنين أصبح الآن وبفضل الهندسة الوراثية والأبحاث المكثفة يستغرق سنوات معدودة ولا يكاد يمر عقد من الزمن إلا وتخرج من المختبرات الزراعية أنواع معدلة من الحبوب والخضار والفاكهة ناهيك عن الأجناس المعدلة من الأبقار والدواجن والأسماك. وهذا التطوير السريع لأجناس جديدة هو الذي دفع ببعض العلماء إلى دق ناقوس الخطر لانعدام الفترة الزمنية الكافية لدراسة الآثار البعيدة المدى لهذه المنتجات المعدلة ليس فقط على الصحة العامة بل أيضا على البيئة.

مخاطر محسوبة
يقول معارضو المنتجات المعدلة وراثياً إنه يفترض بالمسؤولين عن الصحة العامة وعن الأمن الغذائي في العالم أن يطبقوا في مثل هذه الحالة مبدأ الحيطة والترقب وأن يعطوا لأنفسهم مهلة زمنية طويلة نسبية قبل السماح بإدخال هذه الاكتشافات العلمية الثورية على نطاق واسع وشامل. ويمكن تلخيص “مبدأ الحيطة” أو “الوقاية المسبقة” بما أعلنته في بيان شهير عام 1998م مجموعة من الباحثين في بريطانيا وقالت فيه: “عندما تحوم الشكوك بإمكانية أن يؤدي نشاط ما إلى تهديد لصحة البشر أو للبيئة فلا بد من اتخاذ إجراءات لمنع مثل هذا النشاط حتى ولو لم يتم تقديم الدليل العلمي القاطع عن وجود علاقة أكيدة بين هذا التهديد الملوح به ونتائج هذا النشاط. وفي مثل هذه الحالة فيتعين على صاحب النشاط المذكور، لا على الحكومة، تقديم الدليل على أن النشاط الذي يقوم به ليس خطرا”.

ويرد أنصار المنتجات المعدلة وراثياً على ذلك بالقول إن الإنسانية لم تتقدم إلا عندما دخلت في مخاطرات محسوبة وهذا لا يعني بأي حال من الأحوال تجاهل الخطر المفترض. ولو اعتمد العالم باستور هذا المبدأ لما كان توصل أبداً إلى ابتكار اللقاح ضد داء الكلب ولما تمكنت عالمة مثل ماري كوري من عزل الأشعة.

ويضيف هؤلاء أن فوائد هذه المنتجات على التغذية والبيئة والصحة العامة تشجع على الدخول في مثل هذه المخاطرة المحسوبة.

صورة مشرقة ولكنها غير مقنعة
من المبالغة طبعاً اتهام المنتجات المعدلة وراثياً بتهديد الجنس البشري والمقامرة بالصحة العامة وبمستقبل الكرة الأرضية. ويفضل بنيديت هرمولان، الأمين العام لإحدى أبرز اتحادات المزارعين في أوروبا التزام الحذر رافضاً اتخاذ موقف واضح مكتفياً بالقول أن: “لا أحد يستطيع أن يقدم أي دليل على ما يسوقه”. ولكن الأكاديمية القومية للطب والصيدلة في فرنسا ليست من هذا الرأي. ففي تقريرها الأخير اتخذت موقفاً مؤيداً بدون تردد لهذا التقدم العلمي: “إن التحسينات الوراثية على الإنتاج الزراعي لا تشكل أي خطر على الصحة”. ويذهب جان إيف لوديو، وهو رئيس جمعية غير حكومية تهدف إلى توعية الرأي العام بحقيقة هذه المنتجات الزراعية، في الاتجاه نفسه فيشير إلى ضرورة “عدم المبالغة في التهويل أو التقليل من النتائج الإيجابية لهذه التقنية التي ستسهم في تحسين مستقبل الإنسانية. فهي تجعل بعض الأطعمة أقل خطورة لأنها تلغي منها المواد المسببة للسرطان أو للحساسية. وهي ستحمي البيئة لكونها تحد من استعمال مبيدات الحشرات والأعشاب الضارة. إضافة إلى ذلك فهي تعطي دول العالم الثالث إمكانيات جديدة لاختبار نباتات مقاومة للجفاف وقادرة على النمو والعيش في مياه ذات درجة معينة من الملوحة وإضافة بعض المكونات الغذائية إليها مثل الفيتامين (أ) الذي يعاني من نقصه سكان العديد من بلدان الجنوب”.

هذه الصورة الملمعة لهذه الثورة الغذائية العتيدة التي تروج لها هذه الشركات وتصورها على أنها اختراق علمي هائل سيقضي على كل إمكانية مجاعة في العالم تخفي وراءها في الواقع حقيقة أقل لمعانا وهي الارتهان الغذائي الذي سينشأ نتيجة الاعتماد على هذه الزراعة. فعلى عكس الزراعة التقليدية حيث يستطيع المزارع أن يستعمل قسماً من محصوله من القمح أو الأرز أو الذرة كبذار لموسمه القادم فإنه في حالة الزراعة الجديدة لن يستطيع تأمين البذور من محصوله بل عليه أن يشتري هذه البذار وبسعر مرتفع من الشركات المنتجة له بموجب براءة اختراع مسجلة.

وهذه الصورة المشرقة لا تبدو مقنعة تماماً للمستهلكين الذين ما زالوا رغم التطمينات الكثيرة غير مرتاحين إلى هذه المنتجات المعدلة وراثياً. والرأي العام في أوروبا وإفريقيا ومعظم دول العالم لا بل حتى في الولايات المتحدة نفسها ما زال بغالبيته معارضاً لها. فالوضع الغذائي في العالم يعاني من فائض يكاد يقترب من التخمة وأولوية المستهلكين لم تعد الكم بل النوع. إضافة إلى ذلك فإن زيادة الإنتاجية للإنتاجية كما حدث في أوروبا في العقود الماضية حين وجدت هذه القارة نفسها أمام جبال من الزبدة وبحيرات من الحليب ناهيك عن الإهراءات العملاقة الفائضة ملايين الأطنان من الحبوب، لم تعد مقبولة من المستهلك ومن دافع الضرائب الأوروبي ولا حتى من بلدان العالم الثالث المتلقية لهذه المساعدات الغذائية لأنها أدت عملياً إلى القضاء على أمنها الغذائي، فباتت كلفة الحبوب والمنتجات الغذائية المستوردة من البلدان الصناعية والمدعومة أقل بكثير من كلفة إنتاجها المحلي وأقل جودة.

عودة إلى الطبيعة
من جهة أخرى، حصل تطور مهم في الغرب أولاً ثم في دول الجنوب، ألا وهو رفض المجتمع الاستهلاكي القائم على تلبية حاجات هامشية على حساب الحاجات الأساسية. حدث ذلك في الستينيات من القرن الماضي مع الحركة الطلابية والحركة الهيبية وحركة الدفاع عن المستهلكين. وتطور هذا التمرد وتعقلن مع بروز الحركات البيئوية واستطراداً مع ظاهرة العولمة المضادة. وما يجمع هذه التيارات على تناقضها الظاهري هو خيط رفيع عنوانه أولوية الإنسان على السوق، والمصالحة بين الاقتصاد والطبيعة. من هنا يمكن فهم موجة الرفض العارمة التي اجتاحت العالم منذ عقدين من الزمان وكانت تنادي بالعودة إلى الغذاء الطبيعي وإلى تبني أنماطاً جديدة من الاستهلاك. ولكن هذه الانتفاضة المشروعة على الإنتاجية المفرطة سرعان ما استوعبت من قوى السوق فتحولت بدورها إلى موضة استهلاكية جديدة وإلى دورة اقتصادية لها قوانينها وزبائنها ومستغليها.

ورغم انخراطها في الدورة الاستهلاكية التي قامت أساساً على رفضها، فلا بد من الاعتراف بفضلها على تكوين جيل جديد من المستهلكين الواعين المتطلبين من جهة، ومن جهة أخرى على دفع الحكومات إلى التدخل أكثر فأكثر في مراقبة قوى السوق وضبطها ومنعها بالتالي من التصرف بشكل يهدد الصحة العامة والذوق السليم وهذا ما جعل القوى الاقتصادية تستثمر أكثر فأكثر في النوعية.

هذا التركيز على النوعية هو ما أعطى زخماً كبيراً للزراعة الطبيعية التقليدية بعدما كادت تصل إلى حدود الانقراض. وتغذى هذا المذهب الزراعي من موجات القلق التي اجتاحت العالم نتيجة تفشي أوبئة ومخاطر هي في النهاية حصيلة التلاعب بالمعطيات الطبيعية للزراعة وتربية المواشي مثل مرض جنون البقر قبل سنوات، وانفلونزا الطيور اليوم وربما طاعون التفاح غداً!! وهكذا، لم يعد هناك من متجر كبير في أوروبا إلا ويتضمن أجنحة خاصة لبيع المنتوجات الزراعية التي تنطبق عليها مواصفات الإنتاج الطبيعي الخالي من المبيدات الحشرية والعشبية، أو التي تزرع خارج الخيام البلاستيكية، أو الدواجن التي تُعلف بالحبوب الطبيعية وفي الهواء الطلق ولا تُحقن بالهرمونات ولا بالمضادات الحيوية.. وغني عن القول أن هذه المنتجات هي أغلى ثمناً بشكل ملحوظ من غيرها، نظراً إلى طول المدة التي استغرقها نضوجها، وصغر أحجام الثمار وقلة إنتاجية النبتة الواحدة منها.

من جهتها فإن المختبرات الزراعية بعد أن كانت تهتم فقط بالإنتاجية أصبحت تستثمر في تطوير منتجات ذات نكهة طبيعية شهية. إضافة إلى ذلك فقد أصبحت الحكومات الأوروبية تشجع العودة إلى الزراعة التقليدية وتمنح الشهادات والعلامات المسجلة لكل منتج تتوافر فيه النوعية العالية. وفوق هذا وذاك فقد اكتشفت الهيئات التي كان تناط بها مسؤولية زيادة الإنتاج والتصدير أن هذه السياسة قد أدت في الواقع إلى القضاء على التعددية النوعية في الزراعة فبات عدد الأنواع المعروضة في الأسواق من العنب والفاكهة والخضار محدوداً جداً، فبدأت تشجع على إعادة زراعة بعض الأنواع التي تم التخلي عنها لأسباب تجارية بحتة. ورغم كل هذه الإجراءات التشجيعية ورغم ولادة ثقافة استهلاكية متطلبة ووعي ثقافي واجتماعي متزايد فإن حصة المنتجات الغذائية الطبيعية في الميزان الاستهلاكي العام في العالم ستبقى هامشية خلال المستقبل المنظور، ومقتصرة على نخبة من المستهلكين الذين يملكون من قوة الإرادة ومن الإمكانيات المادية ومن الثقافة المدنية والذوقية ما يمكنهم من السباحة عكس التيار ومن رفض ابتلاع ما تفرضه عليهم المختبرات الزراعية.

————————————

كادر

إقرأ للبيئة
“تاريخ المناخ”
..من دون مبالغات

في صيف 2003م، داهمت القارة الأوروبية موجة نادرة من الحر قضت على آلاف الأشخاص معظمهم من المتقدمين في السن. وقد حصدت هذه الموجة في فرنسا وحدها ما يزيد على خمسة عشر ألف قتيل. صحيح أن هذه الظاهرة كانت استثنائية في عتوّها ونتائجها ومدتها على الصعيد المناخي ولكنها جعلت الكثيرين من الباحثين والعلماء وكذلك أصحاب القرار السياسي يطرحون العديد من الأسئلة المقلقة حول مصير الكرة الأرضية مناخياً وبيئوياً. بمعنى آخر، هل كانت هذه الموجة مجرد ظاهرة عابرة استثائية أم أنها نذير بتحول مناخي عميق ومستديم قد يحول الكرة الأرضية، كما يخشى محترفو التنبؤات الكوارثية، إلى مكان تصعب فيه الحياة الإنسانية؟

كتاب العالم الفرنسي باسكال أكو يحاول الإجابة عن هذه التساؤلات المشروعة من خلال تتبع تاريخ المناخ منذ بداية الحياة البشرية على كوكبنا وحتى يومنا هذا. ومن خلال هذه الرحلة المشوقة والموثقة عبر الأزمنة الساحقة نكتشف أن الإنسان قد استطاع دائماً ترويض البيئة والمناخ، بحيث تمكن من بناء أرقى الحضارات في ظل أقسى الظروف المناخية، سواء في بيئات مرتفعة الحرارة كما حدث في الشرق الأوسط الذي كان مهد الحضارات والأديان أو في المناطق الجليدية التي شهدت بدورها نشاطاً حضارياً مكثفاً.

وأهمية هذا الكتاب العلمي تكمن في فتحه لبعض الملفات التاريخية الكبرى المرتبطة بعلاقة الكوارث البشرية والسياسية والاجتماعية بتقلبات الطبيعة والمناخ. هل كانت المجاعات والأوبئة المتكررة في القرون الوسطى بسبب موجات الجفاف والحر أو البرد أم بسبب سوء التنظيم والإدارة آنذاك؟ هل خسر نابوليون بونابرت معركة روسيا بسبب “الجنرال ثلج” كما زعم البعض، أم على الأرجح بسبب الارتجال والتهور والثقة الزائدة بالنفس خلال تلك الحرب؟ هل انهارت الامبراطورية الرومانية بسبب توسعها غير المدروس والصراع على السلطة فيها وعليها أم بسبب تعاقب سلسلة من الحقب المناخية القاسية التي أربكت الاقتصاد وولدت الاضطرابات الاجتماعية والسياسية فيها؟

من خلال فتح هذه الملفات يحاول المؤلف في الواقع دحض بعض الأوهام والأفكار المسبقة حول التأثيرالمبالغ فيه للمناخ على تطور الإنسانية والتي تستعمل أحياناً كأسلحة في الصراع السياسي والاقتصادي الدائر في العديد من دول العالم.

ولكن الكتاب في صفحاته الثلاثمائة لا يتوقف عند دحض هذه الأساطير بل هو يركز قبل كل شيء على تاريخ المناخ منذ بداية أشكال الحياة على الأرض. ففي قسمه الأول يتناول هذا التاريخ منذ تكون الارض وحتى بدايات الحياة البشرية فوقها. أما القسم الثاني فيتعرض لدور المناخ في التاريخ ونظرية الحتمية المناخية من خلال أمثلة تاريخية قديمة وحديثة. أما القسم الثالث والأخير فيتناول بالتفصيل ومن زاوية علمية بحتة ظاهرة التسخن المناخي الخالي والمستقبلي نتيجة للنشاطات الإنسانية وما تثيره من رعب وقلق على مستقبل الكرة الارضية.

وينتهي العالم بسرد نقدي لعواقب هذا الارتفاع الحراري الناتج عن النشاط البشري على الوتيرة الحالية. والسناريوهات المستقبلية تبدو محملة بالكوارث إذا ما استمرت إفرازات ثاني أوكسيد الكربون من دون وازع. وليس من المستبعد في الحالة هذه أن يشهد المناخ في القرن الواحد والعشرين ارتفاعاً في الحرارة يتراوح ما بين 1.5 و6 درجات. ولكن نتائج مثل هذا الارتفاع لن تنقلب وبالاً على جميع أصقاع الأرض. فالشطر الشمالي من الكرة الأرضية سيتأثر أكثر من الشطر الجنوبي. أما الفكرة القائلة بأن ارتفاع المناخ سيزيد من تصحر الأرض في الجنوب فيعتبرها غير واقعية لا بل يرجح أن يكون العكس هو الصحيح. وبالاستناد إلى دراسة الفترات المناخية الماضية التي شهدت ارتفاعاً في حرارة المناخ، استنتج الكثير من العلماء والمؤرخين أن ذلك انعكس تقلصاً في مساحة الصحارى في الشطر الجنوبي وزيادة في معدلات هطول الأمطار فيها.

يبقى أن كتاب “تاريخ المناخ” هذا، الذي يقرأ بشغف بسبب استعماله أسلوب السهل الممتنع في توعية القارئ بأهمية المحافظة على المناخ والطبيعة وضرورة انتهاج سبيل التنمية المستديمة سبيلاً وحيداً لذلك، هو نداء من أجل علاقة جديدة بين الإنسان والطبيعة، علاقة لا يمكن تصورها إلا من خلال تأسيس علاقة غير نزاعية بين البشر أنفسهم. لأن من الوهم بمكان، كما يختم باسكال أكو كتابه،” تغيير علاقات البشر المدمرة للمناخ وللبيئة، من دون تغيير علاقات التدمير الذاتي بين البشر أنفسهم”.

أضف تعليق

التعليقات