الثقافة والأدب

فردوس

..قصة قصيرة فازت بالمركز الأول في مسابقة القافلة الذهبية لمناسبة مرور خمسين عاماً على صدورها. كاتبها هو محمد عبدالمنعم زهران، من مصر، من مواليد عام 1972م. حائز على شهادة في الحقوق عام 1994م، ويعمل الآن في قصر الثقافة في بلدته سمالوط بمحافظة المنيا.
ويسر القافلة نشر هذه القصة لما تتمتع به من حساسية في مجالي التصوير الواقعي من جهة والخيال الشاعري والفانتازيا من جهة أخرى، متمنية للكاتب الشاب مزيداً من العطاء الأدبي المتميز.

في هذا الشارع ضحك الناس حتى دمعت أعينهم؛ لأن البقال استمر يصرخ لفتاة قصيرة وبالغة النحافة تقف أمامه، لمجرد أنها تباطأت في جمع مشترياتها ووضعها في كيس، ولأنه يكره أن تظل واقفة طويلاً أمام المحل، حيث لا أحد يرغب في رؤية وجهها بالغ القبح.

كان شيئاً مسلياً؛ لأن الناس في هذا الشارع ببيوته القديمة باهتة الطلاء، يفتقدون البهجة، لذا فقد ضحكوا بملء وجوههم البائسة، كنت تستطيع أن ترى النسوة على عتبات البيوت يضحكن من الأعماق، والرجال الذين يدخنون الشيشة في الشارع يهزون رؤوسهم واضعين قدماً على قدم، حتى الشرفات القليلة المتناثرة امتلأت بالشباب والفتيات الذين استيقظوا تواً وعلى وجوههم سيماء النوم، ورغم أنهم يفضلون النوم لأوقات متأخرة، فقد استيقظوا حتى لا يفوتهم هذا المرح النادر. ورغم أن الفتاة لملمت أشياءها ومضت باتجاه بيتها فقد أخذوا ينظرون جميعاً إلى مشيتها المرتبكة ووجهها الذي يكاد يخفيه إشارب ملون وواسع، حتى البقال الذي كف عن الصراخ شاركهم الضحك وهو يرمق الفتاة تبتعد. هكذا نصب الناس في الشارع شبكة من النكات الرائعة كانت تتحرك بسرعة وبهجة طلقات نارية بين الشرفات والمحال وعتبات البيوت، فيغرق الجميع في ضحك لا حدود له..

كانت فتاة تدعى فردوس. شعرت بآلام في كتفيها حين صرخ البقال في وجهها فاضطربت وغشى وجهها احمرار شديد، نكست رأسها واعتذرت له بصوت منخفض مرات كثيرة وهي تجمع مشترياتها.. ولكن الأشياء تساقطت من بين ذراعيها، فضج الشارع بالضحك، أصابها ارتباك شديد فعاودت جمع مشترياتها وهي تنظر للبقال بعينين تبعثان على العطف، وبعد أن فرغت مشت باتجاه البيت. ورغم أن البيت على بعد خطوات قليلة فقد بدأت تفكر حائرة في أن الباب لا يريد أن يقترب.

ما أن دخلت حتى أغلقت الباب ووقفت تلهث دافعة بأكبر كمية من الهواء إلى رئتيها آملة في أن يتوقف ذلك الألم في كتفيها، رفعت رأسها ففاجأتها أمها واقفة بعصبية ظاهرة تحكم ربط الطرحة على رأسها، لم تتكلم ورأتها تندفع خارجة.

أنصتت فردوس للصمت الذي خيّم فجأة على الشارع، بدا وكأن كل النكات التي تحلق في الهواء قد ارتطمت فجأة بالأرض. ظهر صوت أمها عالياً جباراً، سمعت فردوس شتائم بذيئة جداً وبدا صوت البقال مخنوقاً لا يكاد يُسمع، شعرت بشيء في حلقها ورغبة قاهرة في البكاء.. عاد الصمت مرة أخرى، وبعد قليل دخلت أمها بوجه ينفجر بالاحمرار، كانت جالسة منزوية تعبث في أصابعها، رأت أيضاً بعض النسوة من الشارع يدخلن معها وهن يهدئنها، عاودتها الرغبة في البكاء حين رأت الجارات يسلمن عليها وهن ينظرن إلى وجهها مأخوذات. بعد أن خرجن نظرت إلى الأرض وتجنبت النظر إلى أمها، كانت تسمع أنفاسها عميقة وساخنة. بعد قليل حدثتها فجأة فنهضت بجسمها الضئيل في استسلام، كان صوتها واضحاً وحازماً، كان على فردوس الآن أن تخرج مرة أخرى إلى ذات البقال لتشتري لأمها أقراصاً من الأسبرين، ترددت قليلاً إلا أنها لم يكن بإمكانها التراجع أمام عيني الأم. خرجت ومشت ببطء، أحست بصمت الشارع يعود مرة أخرى فاضطربت وعاودها ذلك الألم الرهيب في الكتف، وحين وقفت أمام البقال لم ينظر إليها، أخرجت صوتها بصعوبة فناولها الأسبرين صامتاً.

حين عادت أغلقت الباب وشعرت بجسمها الضئيل ينهار وبأنها غير قادرة على حمله فدخلت حجرتها وأغلقت الباب.

استيقظت فردوس في اليوم التالي، أرادت أن تنسى كل ما حدث برمته، ابتسمت فجأة حين تذكرت أن ذلك يتكرر دائماً ومع أشخاص عديدين، فكرت أيضاً أنها تنسى كل شيء بسرعة تدهشها، إلا تلك المرات القليلة التي تعرف بها أمها – مصادفة – فيتعقد كل شيء كما حدث بالأمس. تذكرت أن أمها لم تحادثها طوال الأمس أيضاً، عرفت أن ذلك سيظل عالقاً برأسها وباعثاً على الألم لأيام قليلة. اقتربت من النافذة وواربتها ظلت واقفة تنظر إلى نافذة البيت المقابل ثم إلى مدخل البيت، لم يمر وقت طويل حتى رأته يخرج، كان شعره مصففاً لامعاً، وقف وأشعل سيجارة، فاستطاعت أن تتأمل وجهه لأطول وقت ممكن، فكرت في أنها لسنوات ظلت تنظر إليه كل يوم، وأنه ربما لا يعرف حتى اسمها، أغلقت النافذة مرة أخرى، تحسست وجهها بيديها.. وابتسمت في ضعف، سرحت قليلاً وقالت إنها كلما رأته تشعر بسعادة لا حدّ لها.. وأن روحها في الداخل يغمرها مرح، قالت أيضاً إنها تراه كل يوم وذلك يكفيها تماماً.

كانت أمها قد استيقظت أيضاً. جلستا تأكلان في صمت، أحست بعيني أمها رائقتين، تخفيان حزناً فآلمها ذلك، نظرت إليها وراقبتها تأكل في هدوء، التقتت أمها وحين رأت وجهها الصغير يبتسم ابتسمت أيضاً، بعد قليل ضحكا بصوت مرتفع، اقتربت منها وأمسكت كتفيها…
– ما زالا يؤلمانك…؟
– نعم… قليلاً…
أخذتها بين ذراعيها فشعرت فردوس بدفء جسمها، إلا أنها وفي الوقت نفسه لم تستطع أن ترى عيني أمها تلمعان، كل ما شعرت به رغبة هائلة في البكاء وهي ملتصقة بهذا الجسم، تدافعت الدموع إلى عينيها وبدا أن جسمها بأكمله يفتح طرقاً متسعة دافعاً بكميات هائلة من الماء إلى عينيها، ولكنها وفي اللحظة المناسبة التي أحست فيها بتنفيس لهذا الدفء، وهذا الجسم الضخم الذي يحتويها في رفق قررت ألا تبكي.

قررت أن تذهب للعجوز في كشكه، دائماً تذهب إليه حتى بعد أن أنهت دراستها، ودائماً يبدو لها هذا المكان القصي مكاناً أميناً للحديث والبكاء، خرجت وهي تشعر بجسمها مشبعاً بكمية هائلة من الماء، ذلك الذي تعودت في كل مرة تقف فيها أمام العجوز أن تتركه ينساب فيغرقها حتى لا تعود قادرة على تبين ملامح وجهها، عبرت الشارع وأبهجها أن مرت هكذا دون أن يشعر بها أحد، وفكرت في أنها من المرات القليلة التي يتركونها فيها تمضي لحالها وغشيها هدوء ونقاء وهي تتأمل الشوارع والناس التي تمشي والسيارات التي يتصاعد ضجيجها، تلتفت في كل اتجاه، وأحست أن الشوارع – رغم قذارتها – تشع طيبة وألفة، رأتها تتفرع إلى شوارع أضيق ثم إلى حارات وأزقة تمتلئ بالبشر، دائماً تتفرع بانسيابية ككائنات تحاول العيش أيضاً. رأت سرباً من الطيور فتوقفت وتأملته يرسم خطاً مرناً يقطع السماء.

كان السرب قد اختفى ولكنها استمرت تنظر إلى السماء الخالية المشوبة بزرقة، تذكرت حين كانت تخرج من المدرسة ويمر مصادفة هذا السرب فتتأمله غائبة، أحياناً كانت تراه واقفة أمام كشك العجوز فيرفع عينيه معها ويتأمله، وتفاجئه دائماً، حين تراه لا يزال ينظر إلى السماء بعد مرور السرب، كان ينظر طويلاً فكان بإمكانها رؤية أدق تفاصيل وجهه العجوز. رأت الكشك على الرصيف المقابل للمدرسة، فاتجهت إليه ووقفت أمامه مباشرة، كان العجوز منحنياً يعبث في أشياء، رفع رأسه ورآها…
– فردوس…!
وكعادته صافحها وانحنى مقبلاً يدها.

بدأ العجوز يتكلم، فنظرت إلى وجهه وتأملته في سحر، أحياناً كان يتهيأ لها أنه وجه طائر أبيض يتلفت ويرمش بعينيه، وأحياناً أخرى كانت تشعر بضوء خفي ينبعث من عينيه حتى لا تعود قادرة على النظر إليها… صمت فجأة.

– آآه.. لم تأت بالأمس.
نظرت فردوس إلى الأرض فتجهم وجه العجوز.. أمسك يدها..
تكلمي، دعي كل شيء يخرج.. وعندها.. عندما يقول العجوز لها، دعي كل شيء يخرج.. تفتر مقاومتها، تنفجر في البكاء وتحكي.. تظل تحكي غير قادرة على إيقاف الدموع.. يستمر ذلك قليلاً والعجور منصت ينظر إلى عينيها، أحياناً يهمهم لها…
– 
إبكِ.. هل اكتفيت.. لا.. ينبغي أن يخرج كل شيء..
وحين تنتهي يكون قد خرج كل شيء، فتكف عن البكاء. أدخل العجوز يده في برطمان زجاجي رأته يخرج قطعتين من حلوى الكرامل بطعم القهوة التي تحبها..
– قطعتان.. لم تأتِ أمس.. ضعيها في فمك.
ضحكت فردوس، فبشّ وجه العجوز وتألقت عيناه، وضعت الحلوى في فمها.
– أنت طيب.
نظر العجوز إلى الأرض، ثم أمسك يدها مرة أخرى وقبلها.
– آه.. أنا لا أملّ من تقبيل هذه اليد..
تذكرت فردوس أنه كان دائماً ما يقبّل يدها هي فقط دون زميلاتها، فغمرها شعور بالامتنان والراحة، انتبه فجأة.
– آه. كدت أنسى. أمينة تسلّم عليك.
– هل زارتك في الحلم مرة أخرى؟
– 
أمينة دائماً تزورني، خمسون عاماً معاً، كيف لا تزورني؟
– وإذا انقطعت عن زيارتك؟
– 
آآآه. انقطعت مرة أو مرتان، فكنت أشعر بالتعاسة في كل مرة، وحين تتأخر أذهب إلى قبرها وأعنفها فتعود.. دائماً تعود..
ضحك بصوت مرتفع، كانت تتأهب للعودة، شكرته، فتظاهر بالغضب..
– لا تشكريني أبداً.
هزت رأسها ومضت فعاد صوته.
– فردوس.
التفتت إليه.
– …..
– هل وضعتِ الكرامل في فمك.
– نعم.
– .. إذن .. ابتسمي.. كوني مبتسمة على الدوام.

كانت أمها ترقب عودتها خلف الباب، وحين رأتها قادمة في أول الشارع دخلت وجلست ساكنة. وفردوس التي كانت تقترب أحست بأن الجميع ينظر إليها في الشارع، فكرت أن تبتسم ولكنها حالاً سمعت امرأة تضحك في شرفة فوق رأسها تماماً فتوترت، أسرعت في مشيها وهي تنظر إلى الأرض، عبرت خلف ظهرها مزحة قالها رجل على مقهى فأحست بكتفيها يؤلمانها مرة أخرى، تمتمت داعية أن يقترب البيت وأن يمر كل شيء سريعاً، كان عليها أن تجتاز أولاداً بالكرة، فمشت ببطء حتى تتحاشى الاصطدام بهم وهم يجرون، إلا أن الأولاد وبمجرد أن رأوا وجهها صرخوا بصورة مفاجئة وتراجعوا جميعاً ملتصقين بالحوائط تاركين الكرة في منتصف الشارع، احمرّ وجهها تماماً أرادت أن تسرع ولكن ارتعاشة ما كانت تجبرها على المشي ببطء، كان الباب مفتوحاً فدخلت، أحست بالآلام تزول ورأت أمها جالسة تحدق في الحائط، شعرت بغضبها لأنها تأخرت، فتصنّعت المرح..
– 
فكرت في شراء مرآة.. لا توجد مرآة في البيت منذ وقت طويل.
حدقت الأم فيها فأكملت.
– 
لا يوجد ما يمنع مرآة في البيت – اقتربت منها ضاحكة – الإيشاربات على رؤوسنا تبدو مائلة وغير منتظمة.

نظرت الأم إلى الحائط مرة أخرى، ثم عادت تنظر إلى فردوس، إلى جسمها الضئيل وحين لاح الانكسار في عينيها جاء صوتها حاداً..
– لم تنظفي البيت اليوم؟!
– فعلت بالأمس.
– 
ولكن.. هذه الأتربة التي تتساقط من الحوائط.
انكمشت البنت.
– فكرت في أنه ينبغي إصلاح الحوائط.
– 
وإذا لم نستطع إصلاح الحوائط.. هل سيظل البيت قذراً..
نهضت ودخلت غرفتها..

لم تستطع أن تفهمها أبداً، في الوقت الذي تبدو فيه رقيقة تفاجئها هذه الحدة، بدأت في تنظيف الصالة من الأتربة ورقائق الجير التي تتجمع أسفل الحوائط، بعد ذلك جمعت الأطباق المتسخة وحملتها إلى الداخل ولكنها تساقطت فجأة من يديها فأحدث سقوطها ضجة، أنصتت ولم تسمع صوتها، جمعت الأطباق وغسلتها وحين كانت تهم بدخول حجرتها سمعت صوتها كأنها على وشك النوم.
– 
لا داعي لشراء مرآة جديدة.. توجد واحدة فوق دولابي.

كانت الليلة حارة شديدة الرطوبة، خانقة من تلك الليالي الصيفية التي تنشب فيها أظافرك لتستخلص الهواء. ظلت تنتظره خلف النافذة لتراه، وغلبها النوم فنامت واقفة مستندة على الحائط، وحين فتحت عينيها رأته واقفاً في النافذة يدخن، فارتجف جسمها حاولت أن تغلق النافذة قليلاً لأن إحدى ضلفتيها قد انفتحت تماماً، ولكنها خافت أن يشعر بها، ظلت واقفة تتأمله، ثم غلبها البكاء فبكت أمامه من دون أن يراها، كانت تبكي وتنظر إليه فتشعر بآلام في كل جسمها، بعد ذلك رأته يدخل ويجلس على منضدة ويقرأ، تأملته جالساً عبر نافذته المفتوحة على آخرها، وغمرها فرح هائل لأنها ستراه طيلة ليلة كاملة، وشعرت بالامتنان لليلة حارة هواؤها ساكن ومتشبع بالرطوبة.

مر وقت طويل وهو منكب على القراءة، بينما روحها ترفرف في داخلها، لم تستطع أن تنام ففكرت أن تجلس على منضدة وتكتب، بحثت عن أوراق ووجدت قلماً وجلست في الظلام وبدأت تكتب على الضؤ الذي ينسكب من حجرته، أول ما واجهها اسمه، أحست بأنها لأول مرة تكتبه فارتعشت أصابعها قليلاً ثم عادت تكتب فأعادت كتابة اسمه مرة أخرى:
..”علي”
أنا أحبك…
ليس كما تحب البنات

توقفت مرة أخرى ونظرت إليه، وكان قد رفع رأسه وحدق في السقف وهو يفكر فأكملت:
..هل تستطيع سماعي.. هل أنت منصت.

ولكنها لم تستطع أن تكتب أي شيء آخر، فنهضت وظلت تتأمله حتى غلبتها آلام غامضة فانحنت في أسى وجلست على الأرض باكية.

وفي صباح استيقظت ولم يكن ثمة أي صوت لعصافير الصباح فانقبض صدرها، فكرت في أن هذا اليوم غريب نهضت ونظرت من النافذة، خمنت أنه قد خرج، فامتلأت كآبة، ولكنها دهشت حين رأته يخرج مندفعاً كأنما تأخر، لم تستطع أن تراه جيداً فمدت عنقها ورأته يمشي مسرعاً في الشارع ففاجأها دوار.

في المساء عادت من عند العجوز، وحالما دخلت إلى البيت كانت آلام الكتف في ذروتها، جلست بجوار أمها، أحست بأنها منبوذة كما لم تشعر من قبل، ذلك أنها حالما دخلت الشارع عائدة رأت صديقة لها كانت قد تزوجت وسافرت. رأتها جالسة على عتبة بيتها فاتجهت إليها كانت قد لاحظت بطنها منتفخاً. فابتسمت وغمرها فرح، إلا أنها وعندما وصلت كانت قد اختفت نظرت الجارات إليها بتجهم وقلن لها إنها نائمة..

ابتسمت بصعوبة وبوجه يرتعش وقالت لهن إنها كانت تحب أن تسلم عليها، فنظرن إليها صامتات. تذكرت فردوس ذلك وهي تنظر لأمها، وأحست كم أن قلبها دافئ، أحبتها كما لم تحبها من قبل. وفجأة سمعت صوته في الشارع، قاومت رغبتها في النهوض طويلاً، لم تكد تراه في الصباح، أخيراً نهضت ودخلت غرفتها وأغلقت الباب، كانت لا تزال تسمع صوته فمشت كالسائرة في نومها، فتحت النافذة في بطء فغمر ضوء الشارع وجهها.

كان صوته ينبض حياة، ليس من وراء شيء ولا عبر نافذة أو من جوف منزله، أغمضت عينيها وتركت كل صوته، مجموع نبراته، بتفاصيلها الدقيقة، المصدر البعيد كنبع صافٍ لصوته ينفذ إلى أعماقها، شعرت بالشتات للحظات وحين فتحت عينيها لم تحده، كان قد صعد.

رأت حجرته تضيء، وبعد قليل سمعت أمه تناديه للعشاء، فأظلمت حجرته مرة أخرى. ظلّت واقفة قليلاً حين فاجأتها عينان تتلصصان، دققت النظر قليلاً فرأت ثلاث جارات على سطح أحد المنازل يراقبنها، انتفضت وأغلقت النافذة، وقفت في حيرة وتساءلت عن ما جعلهن يراقبنها هكذا، وعلى الفور تذكرت أنه في الصباح رأت إحداهن على نفس السطح ولم تفهم، انهارت على الفراض وأصابها ارتجاف حين فكرت أنهن يراقبنها هي، عادت تتساءل: منذ متى يراقبنها دون أن تدري؟!!

بعد قليل سمعت ضحكات مكتومة فتأكدت. شعرت بجسمها يسخن ويعاود انتفاضه وفكرت في أن الناس في هذا الشارع عجيبون، وأن أسرارهم يحملها الهواء ليلاً إلى كل البيوت، أحست على نحو ما أنها لن تتحمل هذا، حاولت أن تنام، أن تنسى كل هذه الأشياء، على الأقل تؤجلها للغد، لكن عينيها ظلتا مفتوحتين، التقت يداها وقدماها بصدرها، زادت في انكماشها حتى بدت كقلب مدمٍ انتزع من جسمه وترك ليرتعش على فراش متسع، وفي كل حين يرتجف كل جسمها على هيئة نبضات قوية وعنيفة.

لم تكن نائمة فقط خائرة القوى حين جاءها صوت الجارات منخفضاً عبر النافذة مصحوباً بضحكات مكتومة “هل رأيتم…” “نعم” “ألم أقل لكم..”
وارتفع الصوت قليلاً في الشارع: “هل رأيت يا عبدالعزيز..”
فجاوبها صوت رجل يلعب الدومينو في الشارع ضاحكاً: “إنه المذاق المر للحب”. بدا سكراناً سأله اللاعب الآخر ضاحكاً: “هل يمكنك أن تحب مثلها…”
“أنا… أبداً…”.

سمعت كل ذلك من دون إرادة، في أوقات كانت تشعر بأنهم يتحدثون بالقرب من أذنيها فتحاول إبعادهم، بيت مفتوحة العينين حتى الصباح.

تسلل ضوء الشمس عبر فجوات الشيش وظلت في سكونها، سمعت صوته يهبط من البيت ولكنها كانت غير قادرة على النهوض أو حتى الحركة، حاولت مرة أخرى، وأخيراً نهضت ومشت حتى النافذة، وهي تتمايل في دورانات مباغتة كإناء خزفي على وشك السقوط، ومن ثم التحطم. نظرت عبر فجوات الشيش ورأت النسوة على الأسطح المتعددة، رأت حتى البقال بجلبابه يميل برأسه مراقباً، فعادت إلى فراشها، كان شيئاً ما في حلقها يخنقها، وحين خدَّرها التعب، تحسست حلقها، وشعرت بأنه ذهب، وأن كل شيء على ما يرام، فنامت.

..ورأت آلافاً من الحشرات الزاحفة سوداء ومقيتة تتقدم نحوها، وتقف على أقدامها، صرخت وبدأت تبعد الحشرات عن قدميها، ولكن الحشرات ظلت تعاود تسلق قدميها…

وفجأة انبثق بياض هادئ يتحرك في نعومة، كانت أرنبة كبيرة، حالما ظهرت اختفت كل الحشرات، كانت الأرنبة دافئة، اقتربت من وجهها ولعقته وظلت ملتصقة به.

حين فتحت عينيها رأت أمها تحضنها بقوة، ثم شعرت بها تتحسس كتفيها وتضغط على كل منهما، رأت وجهها، كان جزعاً. أسدلت عليها الغطاء وخرجت، فعادت إلى النوم.

أيقظتها أمها فرفعت رأسها مذهولة، رأتها تتحسس كتفيها مرة أخرى، انتبهت إلى أن كتفيها قد تورما فجأة، تحسستهما بيديها، كانا صلبين كالعظم، كان الورم يمتد حتى منتصف كل ساعد، نظرت إلى النافذة ورأتها مفتوحة على مصراعيها، خمنت أن أمها لا بد عرفت، وأن الجارات قد أخبرتها فشعرت برغبة لا يمكن إيقافها في البكاء، بدت كرغبة من يتشبت بالحياة لأنه عرف أن البكاء طريق وحيد لاستمرارها.
– حالتك تسوء.. سنذهب إلى طبيب.
كان صوت الأم متقطعاً.
– سأخرج قليلاً..
– أخرج معك.

نظرت إليها فردوس ورأت عينيها تعرفان كل شيء، فتحاضت النظر إليهما أحست بوجهها وكأنما تراكمت عليه طبقة رقيقة من الثلج.
– اطمئني.. مجرد أن أخرج فقط..

ارتدت ثيابها، وضعت الإيشارب الملون والواسع على رأسها وخرجت. كان الحر شديداً لذا كان الشارع شبه خالٍ، القليلون الذين تطلعوا من النوافذ ضحكوا ساخرين حين رأوها، ولكنهم حالما نظروا إلى كتفيها المتضخمين أصابهم وجوم.

رأت الكشك مفتوحاً. كانت تمشي بأقصى ما تستطيع، وأخيراً أصبحت أمامه، رأت العجوز منحنياً برأسه إلى الأرض، ظلت واقفة ولكنه لم يرفع رأسه ولم يقبل يدها، كان يرتعش، همت بأن تحدثه، أن تتكلم وتخرج كل ما بداخلها لأنها كانت تحن إلى لحظة البكاء الساحرة أمامه حيث تتصاعد آلام كتفيها إلى أقصى حد، أحست بأن بكاءها الآن سيبدو عميقاً وصاخباً إلى أبعد مدى، ستقف حيث اعتادت أمامه، في غيبوبة من ماء عينيها، لا ترى إلا وجهه، تجاعيده، عينيه وهما تخرجان ضوءاً خفيفاً، ومن ثم تصل إلى الراحة الكاملة، يقول لها ابتسمي فتبتسم ثم يقبل يدها ويتركها تمضي. ولكنه لم يرفع رأسه وقفت حائرة. بعد قليل مدت يدها ولمست ذراعه، فتحرك في بطء، شعرت بأن ذلك استغرق وقتاً طويلاً جداً، نظرت إلى وجهه، كانت التجاعيد قد تكاثفت، وتكسرت التجاعيد الكبيرة إلى مئات التجاعيد الصغيرة وخطوط لا تكاد ترى، كان وجهه أصفر وعيناه خبا ضوؤهما، تحدث في صعوبة..
– فردوس!.. هل أنت مبتسمة..
غالبت رغبتها في البكاء وابتسمت.
– نعم..
– إنها أمينة..

حين رفع رأسه إليها، شعرت على نحو غريب بأن العجوز تنسحب منه الحياة ببطء، كان صوته يشبه صوت طفل بكى لساعات طويلة. نظر إلى وجهها طويلاً..
– أنت مبتسمة.. نعم.. إنها مبتسمة يا أمينة.. إنها الشيء الوحيد الذي أحبه في هذا العالم.. لذا كان ينبغي انتظارها يا أمينة..

أشار لها أن تقترب فاقتربت، حدثها بصوت منخفض، بلكنة طفل على وشك أن يعود إلى بكائه.

– 
إنها أمينة.. تناديني منذ الصباح، تقول تعال الآن، قلت لها.. انتظري يا أمينة، انتظري إلى الليل، في البيت، سآتي إليك وأنا نائم في الفراش، تعرفين أني أتمنى أن أذهب إليك..

اتسعت عيناه بصورة مفاجئة وكأنما شعر بألم مفاجئ لا يحتمل، مد لها يده فاقتربت وأمسكتها، أشار لها بعينيه ففهمت أنه يريدها أن تضغط بصورة أكبر، أمسكت يديه في قوة، في طمأنينة لم تستطع تفسيرها. أخذ نفساً طويلاً..
– 
ولكنها أصرت يا فردوس.. قالت الآن. قلت لها.. حسناً.. انتظري حتى تأتي فردوس.. انتظري..

انتفض جسم العجوز، أحست بذلك في كل جسمها، ابتسم ورفع عينيه إلى السماء. فابتسمت له فردوس وهي تراقب تجاعيد وجهه ترتعش. بعد قليل انحنت رأسه في سكون، توقفت كل تجاعيد وجهه عن الارتعاش وصمتت تماماً. كانت يده لا تزال بين كفيها، انحنت وقلبتها، ثم وضعتها في مكانها النهائي حيث لن تتحرك أبداً، ومضت.

فكرت في كل شيء على نحو سلس وأحست وكأنما تفهم العالم، رأت سرب الطيور البيضاء يمر في السماء، تخفق أجنحته في لين، هادئاً رقيقاً كحلم، انتبهت أخيراً إلى يديها التي كانت تمسك بيد العجوز، كانت حلوى الكرامل بطعم القهوة ساكنة في كفها، تضغط عليها بكل قوة، وفكرت بأنه حتى آخر لحظة، كان يريد أن يجعل فمها يبتسم، فتذكرته باعتزاز. توقفت والتفتت إلى الكشك، كان بعض المارة قد التفوا حوله. مدت يدها الصغيرة والتقطت بإصبعها قطرة ماء صغيرة وحائرة في جنب عينيها.

شعرت فردوس بأنها لن تبكي بعد الآن مرة أخرى، ليس لأن العجوز قد مات وأنها لن تتمكن من البكاء أمامه مرة أخرى، ولكنها بدت لها رغبة موازية لموته، كما شعرت في الوقت نفسه بأن آلام الكتف قد زالت إلى الأبد، نظرت إلى وجهها القبيح في واجهات المحلات وإلى جسمها الضئيل الذي يشبه جسم طفلة، واندهشت لأن وجهها كان مبتسماً على الدوام. تذكرت أن عليها أن تعود إلى البيت، وأن تعبر الشارع بناسه الذين تحبهم والذين دائماً ما يرمقونها باحتقار، ولكنها فجأة فكرت في أنهم ربما يحبونها على نحو غامض. داهمتها رغبة في أن تمشي في الشوارع فقط، فواصلت تجوالها، قادتها قدماها إلى حيث الهواء البارد على ضفة النيل، وقفت تتأمله وأحست بحزن لأنها طالما تجاهلت بهاءه وعذوبة سير الماء به، جلست طويلاً وشردت.

كان المساء قد حل، فانتشرت أضواء خفيفة على شاطئيه. نهضت وقررت أن تعود، داخلها خوف حين تذكرت كل شيء وفكرت في أي شيء يمكنّها من عبور الشارع دون أن ينظر إليها أحد، فعاودها اختناق.

وقفت في أول الشارع الذي غمرته أضواء الأعمدة الكهربائية، ضئيلة واهنة، رأتهم يتجمعون، يخرجون من البلكونات والواقفون بدأوا ينادون على من دخلوا بيوتهم، التصق الأولاد الصغار بالحوائط حين رأوا كتفيها، استطاعت أن تلاحظ أيضاً أن بعض الذين يمشون في الشارع بطريقة عابرة توقفوا أيضاً، قالت لنفسها إنهم جميعاً هنا.. ليعاودوا الضحك على البنت القبيحة والضئيلة كقردة، والمتيمة حباً بجارها الشاب، والتي تضخم كتفاها فجأة كورمين خبيثين. اتسع الشارع أمامها بصورة لا يمكن تصورها، اتسع مستقيماً ومحتشداً بالوجوه، تحركت وخطت بقدميها، شعرت بأن جسمها يدفعها إلى التحرك فخطت أخرى وأخرى، انتظمت أنفاسها فجأة، لم تكن تعرف من أين تسلل الهواء إلى داخلها فأنعشها.

وعلى وقع خطواتها تلاشى احمرار الوجه بصورة مباغتة، شعرت بحيوية لا تفسير لها في جسمها، في أعمق عروقها الداخلية، وفي عينيها اللتين بدأتا تريان كل الأشياء وكل الوجوه، كأنما ترى كل شيء على حدة، محدداً دقيقاً وبكل تفاصيله، ابتسمت في اللحظة التي رأى الجميع فيها وجهها يتحول إلى الأبيض الباهت. عندما وصلت إلى منتصف الشارع تماماً تعثرت قدماها في الكرة فوقعت على وجهها، بينما تحركت الكرة بعيداً، جرى ولد في سرعة والتقط الكرة في حضنه وعاد إلى مكانه لصق الحائط، عندما وقعت تبدلت كل الوجوه المستطلعة، بدا أنهم يرونها لأول مرة كائناً يائساً…

تحولت العيون في خجل ووضعت النساء أيديهن على وجوههن، رأت أعينهم المذعورة فزادت في ابتسامتها وازداد تألق وجهها الذي تحول إلى الأبيض البلوري، كانت عيناها تتطلعان إليهم في سكينة بينما جسمها يرتعش بغير إرادة، استطاعت أن ترى أمها واقفة أمام الباب كانت تبكي، فكرت أنها لأول مرة تراها تبكي، بدأ يصدر عن فمها آهات، آهات تشبه آهات مريض يتماثل للشفاء، انتفض جسمها عنيفاً هذه المرة، وفجأة ظهر من كتفيها المتورمين نتوءان ما لبث أن استطالا حتى اخترقا الملابس.

رأى الجميع جناحين أبيضين ينفردان ويتسعان، في كل كتف جناح، لزج ولامع كأنما خرج من بيضة، كان ثمة صراخ يصدر من النساء من أفواههن، والرجال تراجعوا في ارتجاف، تحرك الجناحان الآن، وجهها ما زال هادئاً باسماً يرنو متلفتاً في بطء، ارتفع جسمها قليلاً عن الأرض، نظرت إلى جناحيها، تأملت الشارع، كل رجل وكل امرأة، نظرت طويلاً إلى أمها التي انهارت بجوار الحائط، ثم أغمضت عينيها، تحرك الجناحان في عنف فخلّفا غباراً، وطارت فردوس، طارت إلى أعلى، إلى أعلى، بعيداً في عمق السماء حتى اختفت.

وكانت تظهر ليلة في كل عام فينتظرونها في الشوارع والشرفات، ودائماً ما تكون الليلة صيفية حارة، هواؤها ساكن ومشبع بالرطوبة، فيسمعون رفيف أجنحة تهبط، ويرون حجرة “علي” غارقة في ضوء أبيض سماوي، يسمعون صوتها هادئاً رقيقاً، ينفذ إلى كل بيوت الشارع مغلفاً بهالات من السحر…

“علي… علي…
أنا أحبك
ليس كما تحب البنات
هل تستطيع سماعي… هل أنت منصت…”
فيجاوبها صوت “نعم. أنا منصت…”.

أضف تعليق

التعليقات