قول آخر

الأنسنة قبل النسونة

بعد عقود عديدة من بداية حركة الإبداع في المجتمع السعودي يصعب على الدارس أو الباحث العثور على “كم” يُعتدّ به من إنتاج النساء والرجال في المجال الإبداعي، أو قراءات نقدية تفحصه أو تؤرخ له فيما عدا اجتهادات شخصية استطاع بعض منها أن يوجد خارج الفجوات بالنشر خارج الوطن.
كم عدد الذين يعرفون أطروحة عبدالله عبدالجبار النقدية إلا من خلال شذرات ما يكتب عنه في الصحف..؟ وكم امرأة أو رجلاً يملك مشروعاً إبداعياً أو فكرياً أو نقدياً استطاع أن يعممه خارج حدود الوطن ويكتسب به حضوراً عربياً وعالمياً لافتاً ومتفاعلاً غير أسماء تعد على أصابع اليدين أو أكثر قليلاً.؟

رجاء عالم، تركي الحمد، عبدالله الغذامي، سعاد المانع أمثلة. أما غازي القصيبي فتخطيه لمتاح الخطاب استثناء في الاستثناء. هذا بالإضافة إلى تخطيات اجترحها عدد أقل من أسماء الشباب الجدد، كمحمد علوان، والتعزي، والتراوري، على أن مستقبل هؤلاء وسواهم لا يزال أمامهم. والملاحظ أن معظم من تجرأ على فعل ذلك ظل وجوده ظليـّاً في الداخل فلا يعرف إنتاجه إلا عبر السماع أو المناولة باليد. وهنا لا أتكلم عن أزمة نشر في الداخل ولكنني أتحدث، بشكل محدد، عن النقص الحاد في أوكسجين المناخ الثقافي بحيث أن أزمة النشر تصبح مجرد جزئية في إشكاليات كبرى مشتركة تخص حيز الإبداع سواء كتبته المرأة أو كتبه الرجل.
وهذا ما يجعل، في رأيي، النقد الأدبي النسوي الحديث في بعض جوانبه مناسباً ليس فقط لقراءة الحالة الإبداعية التي تخص كتابة النساء كما في المجتمعات الغربية التي أنتجتها.. بل أنه عندنا يمكن في ضوء بعض مقولاته التنظيرية قراءة الحالة الإبداعية لما ينتجه الرجال والنساء.

إذا كان ما تكتبه المرأة قد استدعى تطوير توجه نقدي يسعى لاستعادة الصوت النسوي والتجربة المعيشية للمرأة فإن معظم أطروحات هذا التوجه النقدي تمت على أساس من التبادل المعرفي بينها وبين الفكر الغربي النقدي الذي كان هو نفسه كتابة تحاول أن تموضع خطابها البديل على هامش خطاب الهيمنة السائد والمستتب . وقد استعار دريدا و فوكو بعض مفاهيم التنظير النسوي مثل مفهوم “Ecriture” للكشف عن الهوة بين المؤشرsignifier والمؤشر إليه ignified ليس في بعدهما اللغوي وحسب بل في التعبير عن الفجوة بين الخطاب أو الخطابات السائدة وبين ما يحاول أن يتخلق خارج هيمنتها. فهناك الحضور مقابل الغياب، النقص مقابل الاكتمال، التعدد مقابل الكلية، والمعلن مقابل المستتر من أشكال التعبير. وذلك في محاولة لإيجاد أساليب جديدة تجعل إمكانية لقراءة كل ما كان مبعداً أو معتماً عليه في الفكر الغربي.

هذا الغياب ومحاولة الحضور من خلال الفجوات اكتسب أسماء عديدة لدى كل من النقد النسوي ونقد الفكر الغربي ككل. وثمة أسماء تعددت مضامينها حسب ارتباطها التاريخي بمرحلة كتابتها أو مرحلة محاولتها إعادة كتابة التاريخ بأصوات احتاج سماعها إلى نوع من الحفريات ,الأركولوجي.
الحيز الهامشي هو مساحة “الحجرة التي تخصها” تعود للمرأة الكاتبة ليكون لها عالم من الإبداع ترى فيه نفسها بغير عيون الـ “غير” التي لا ترى لها أهمية إنسانية إلا في علاقتها بالجنس الآخر عند فرجينيا وولف.
وهذا المكان الذي كان يضيق وكأنه كمين هو “غرفة العلية أو السطوح “في جين اير لتشارلوت برونتي عند الناقدتين الأمريكيتين ساندرا جيلبر وسوزان جوبر.

إنها المساحة الكفيفة و الجانب المظلم الذي تهتكه ضحكة ميدوزا لدى الشاعرة و الناقدة الفرنسية هيلين سيكسو ليس باستعارة أدوات الكتابة من الآخر بل بترك الحرية للمرأة أن تكتب بالحبر الأبيض دون التعصب ضدها بسبب اختلافات لون الحبر.
كانت أمي تحدثني عن أمها ماحدثتها فيه أمها عن أمها فتقول لي بالحرف الواحد: “كانت تلبس ثيابها على حزنها وتقفل الباب لئلا تنكشف قروح روحها”
ألسنا جيلا محظوظا أتيح له تجريب كتابة مجرى النهر بأصوات عديدة؟

أضف تعليق

التعليقات