قبل نحو عشر سنوات، ظهر مصطلح “المواطن الصحافي”، بفعل انتشار شبكات التواصل الاجتماعي وتقنيات التصوير التي أتاحت للمواطن العادي أن يوثِّق بعض الأحداث وينشرها، وحتى أن يسبق في بعض الأحيان وكالات الأنباء المحترفة.
أين أصبح المواطن الصحافي اليوم؟ وما أثر صحافته على الصحافة التقليدية؟ وهل هناك أي علاقة تبادلية ما بين الطرفين؟ هذا ما حاولت القافلة بحثه في جلسة نقاش عقدتها في بيروت، وشارك فيها كلٌّ من الصحافي السعودي أحمد عدنان، والمسؤولة الإعلامية في مؤسَّسة الفكر العربي ثناء عطوي، والصحافية رنا حاج، والكاتب اللبناني عباس الحسيني، والمترجم والناقد السوري علي جازو، والناشطة على مواقع التواصل الاجتماعي يسرا عقيلي.
أدار الجلسة: وليد الحارثي
بدأت الجلسة بكلمة لوليد الحارثي تطرّق فيها إلى مفهوم “المواطن الصحافي”، متسائلاً عما يمكن أن يكون قد طرأ من تحوّلات على هذا المفهوم بعد عشر سنوات على ظهوره، الأمر الذي أجاب عنه أحمد عدنان بقوله: إن المواطن الصحافي مصطلح مؤلَّف من كلمتين، وهاتان الكلمتان تنتميان إلى فضاء الدولة الواسع إذ لا يمكن أن يكون هناك مواطن من دون دولة، كما أنّ الصحافي ينتمي إلى الصحافة التي تسمى في بعض الدول “السلطة الرابعة”، ولا يمكن للسلطة، أي سلطة، أن توجد إلَّا في دولة.
وتابع القول إنه يمكن النظر إلى مصطلح “المواطن الصحافي” من زاويتين: الزاوية الأولى تتعلَّق بالعالم العربي، وهي أن بعض الدول العربية تواجه تحديات كبيرة، تنعكس على الفضاء الذي يوجد فيه المواطن والصحافي. أما التحدي الثاني – وهو الأدق والأكثر مهنية – هو ما نشاهده اليوم أيضاً في العالم العربي، من انهيار صحف عربية عديدة بفعل العامل المادي، وهذا ظاهر بشكل واضح في لبنان.
لا يمكن أن يُعدُّ كل من صوّر أو كتب خبراً وبثّه عبر وسائل التواصل الاجتماعي صحافياً. لكنني أوافق على أنه أصبح بإمكان المواطن إيصال المعلومة، لكن ليس بإمكانه أن يكون صحافياً
ثناء عطوي
وتوسّع عدنان في ضرب الأمثلة مشيراً إلى أن في الأردن، حيث تملك الدولة أغلب الصحف، نجد صحيفة لم يتسلَّم العاملون فيها رواتبهم منذ تسعة أشهر، وفي مصر تلاشى كثير من الصحف، وثمة صحف أخرى تعاني معاناة مادية كبيرة على الرغم من الدعم الذي تتلقَّاه الصحف من الحكومة. وحال الصحافة في دول المغرب العربي مشابه لذلك، وقد يكون أسوأ.
وأضاف: “إن القضية التي تواجه الصحافة اليوم ليست في تقلّص السوق أو تضخمه، أو في أنّ منافساً أخذ حصة أكبر، أو أنّ المنافس الآخر لم يستطع أن يأخذ حصته، بخلاف السابق عندما كانت هناك صحافة ورقية تتنافس على السوق. فما أراه اليوم أنّ الصحافة نفسها مهددَّة وآيلة إلى الانقراض. ولربما سوف يصبح الصحافيون بعد 10 سنوات أو 20 سنة “كائنات منقرضة”.
الصحافة باقية
ولكن الورقي منها قد يموت
أثارت انطباعات عدنان حول مستقبل الصحافة ردود فعل متباينة، وكان عباس الحسيني أول المعقِّبين بقوله: “الصحافة لن تموت. لقد تراجعت قراءاتي للصحف الورقية أخيراً، وكذلك للمواقع الإلكترونية، واتجهت إلى القراءة في وسائل التواصل الاجتماعي. فمن الممكن أن تنتهي الصحافة الورقية، لكن الصحافة الإلكترونية سوف تبقى”.
وأضاف: “مهما وصل الناس إلى المعلومة، فهم بحاجة إلى صحافيين محترفين للكتابة لهم حول الأحداث القائمة، مثلما يحدث في بورما حالياً، فمثلاً كيف يمكن لمواطن عادي أن ينقل لنا أخبار بورما؟ فهناك حاجة إلى التحليل وتقديم المعلومات المحترفة كي يكون الخبر موثوقاً. لكننا يجب أن نعلم أن المواطن الصحافي كسر احتكار الصحافيين للصحافة وللخبر وللمعلومة، وكسر محاولات التضليل التي تتبعها الصحف، وصار مطلوباً منه أن يكون أذكى من الصحافي وأن يوصِّل المعلومة بصدق وحياد”.
أما ثناء عطوي فتحفظت على مصطلح “المواطن الصحافي”. فالصحافي هو في رأيها صحافي بالفعل، أما المواطن فليس كذلك. وليس كل مواطن هو صحافي. وقالت: “لا يمكن أن يُعدُّ كل من صوّر أو كتب خبراً وبثّه عبر وسائل التواصل الاجتماعي صحافياً. لكنني أوافق على أنه أصبح بإمكان المواطن إيصال المعلومة، لكن ليس بإمكانه أن يكون صحافياً. فليس بمقدورنا أن نقول: المواطن النجّار، أو المواطن الدهّان، كي يجوز لنا أن نقول المواطن الصحافي”.
يسرا عقيلي رأت أن المسألة تكمن في القدرة على الوصول إلى الناس في أماكن مختلفة من العالم من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، والتأثير في الناس من خلالها. وما يحصل اليوم أن البعض يكتب ويحلّل من دون براهين ولا معلومات صحيحة، ولكن يوجد من يتأثَّر به ويتابعه.
هل الصحافة التقليدية إلى زوال؟
أكمل أحمد عدنان مداخلته قائلاً: إنَّ الصحافي كان وسيطاً بين المعلومة والمتلقي، واليوم لم يَعُد المتلقي التقليدي موجوداً. فقد تبدّل نوعه، وتحوّل إلى الطرف الذي يقدّم المعلومة للصحافي. وهذا يقودنا للإشارة إلى أن سوق الإعلام في المملكة العربية السعودية شهد تراجعاً ملحوظاً في مجال الصحف الورقية. واللافت أن التراجع الذي حصل في حصة الصحافة الورقية، لم يذهب إلى الصحف الإلكترونية التي لم تستحوذ إلَّا على جزء بسيط منها، بل إنَّ أغلبها ذهب إلى مواقع التواصل الاجتماعي. وهذا يعني أن المعلن فضّل التسويق عبر مواقع التواصل الاجتماعي، لأنه أقل تكلفة وأكثر تأثيراً وانتشاراً. والنقطة الأهم هنا هي اعتبار معلومات هذه المواقع أدق من غيرها. فضلاً عن أن المعلن يستطيع من خلال هذه المواقع أن يعرف ببساطة عدد الذين شاهدوا الإعلان واستجابوا له.
ما أراه اليوم أنّ الصحافة نفسها مهددَّة وآيلة إلى الانقراض. ولربما سوف يصبح الصحافيون بعد 10 سنوات أو 20 سنة كائنات منقرضة
أحمد عدنان
وأنهى عدنان مداخلته بالقول: “إن الذي يحصل فعلياً هو ليس تراجع سوق الصحافة، وإنما هو تراجع الصحافة، وهذا شيء أراه جيداً رغم أنني محسوب على الصحافة. فهذا سينهي كل احتكار للمعلومة، الذي كان في رأيي يُعدُّ نوعاً من الاستبداد، فمعظمنا لم يكن يشاهد إلا التلفزيونات الرسمية، أمّا الآن فقد انفتحنا على كل أشكال الإعلام المختلفة، وبالتالي أدَّى تنوّع مصادر المعلومات إلى تنوّع آراء المتلقين الذين بدورهم باتوا يتمكَّنون من إيجاد وسائل للتعليق على الخبر، فلا تبقى أي معلومة صحافية وكأنها منزلة أو مكرّسة”.
المواطن الصحافي
مشاركاً في صنع المعلومات
أما علي جازو فرأى أن دور الوسيط (أو الذي يقدِّم هذه الخدمة الصحافية) سواءً كانت خبراً أم تعليقاً أم مقالاً هو دور من أعلى إلى أسفل، من الوسيط إلى المواطن، وقد أصبح في هذه العلاقة نوع من التوازن، وصار المواطن شريكاً فيها، بحيث صار بإمكانه أنّ يعّلق ويداخل، ويرفض ويسخر، وهذا ما قرّب المسافة بين الصحافي والمتلقي، وحفّز الصحافيين – في الوقت نفسه – على أن يفكِّروا بطريقة أخرى.
وأضاف في السياق نفسه أنّ لغة الصحافي عند الشخص العادي، الذي يقوم بالتعليق أو المداخلة تعتمد على شيء لا علاقة له بالمعرفة، فأغلب الناس الذين درسوا المهنة وتعلَّموها تكَّونت لديهم خبرة ولغة معيَّنة وقاموساً صحافياً، بخلاف الناس العاديين الذين يكتبون بلغة عامية، أو بخليط من العامية والفصحى. وقال إن ذلك أضفى شكلاً من العفوية على الأخبار، وأزال عنها الطابع الطقسي للصحافة الذي يعتمد على أصول وطقوس وأساليب كتابية معيَّنة، الأمر الذي أحدث نوعاً من الخلل في شكل المهنة.
دور المواطن الصحافي في تنمية الوعي؟
هنا أثار مدير الجلسة تساؤلاً حول ما إذا كانت ظاهرة المواطن الصحافي قد أدَّت بمرور الوقت إلى تنامي الوعي عند عموم المواطنين. فكان عباس الحسيني أول المتحدثين في هذا الشأن، حيث قال: “في سياق التوعية يجب وضع الأخبار السياسية على الهامش لأنَّ كل مؤسسة إعلامية تقدِّمها حسب مصلحتها، لكنَّ الأمر يصبح ذا جدوى في ما يتعلَّق بالثقافة العامة التي كان الناس يتلقّونها من خلال وسائل الإعلام التقليدية، والجيد في صحافة المواطن أنها أتاحت للمواطنين عرض أفكارهم بشكل منفتح وبقيود أقل وسقف مرتفع عما كانت تقدِّمه وسائل الإعلام التقليدية، وفي موضوعات لم يكن من المسموح الحديث عنها، فقد كُسرت محظورات كثيرة فرضتها وسائل الإعلام التقليدية على نفسها. وكنا بحاجة كبيرة إلى التخلص من هذه القيود. وبغض النظر عن القول بأنَّ وسائل التواصل الاجتماعي أجّجت الفتنة بين الناس، فأنا أرى أنّ هناك جوانب إيجابية كثيرة لها، منها: الكشف عن إنسانية كثيرين ممن يعيشون في هذا العالم، على الرغم من اختلافنا معهم في الفكر أو الانتماء”.
دور الوسيط (أو الذي يقدِّم الخدمة الصحافية) سواءً أكانت خبراً أم تعليقاً أم مقالاً هو دور من أعلى إلى أسفل، من الوسيط إلى المواطن
علي جازو
أما ثناء عطوي فرأت أنَّ تأثير المواطن الصحافي يختلف من بلد إلى آخر، كما يختلف باختلاف طبيعة المادة التي ينشرها. وضربت مثلاً على ذلك بقولها إنَّ المواطن الصحافي في منطقة محاصرة من سوريا مثلاً، أو في أي بلد من البلدان التي تعاني من حروب ومشكلات سوف يكون دوره أساسياً ومؤثراً، بخلاف البلدان التي تعيش أمناً واستقراراً.
وأعربت يسرا عقيلي عن تأييدها لما ذهب إليه عدنان، ورأت أنَّ إشكالية هذا الصحافي تكمن في تحليل الأحداث، وذلك إذا افترضنا أن المواطن العادي أو المتوسط لا يتمتع بالقدرة الكاملة على التحليل، فإننا من جهة أخرى قرأنا تحليلات لصحفيين كبار ومعروفين تدعو إلى الضحك. لكن الجديد هنا أنه أصبح لدى الناس الجرأة على القول بأن فلاناً لا يفقه شيئاً، أو أنه غير مدرك لحقيقة ما يجري في الواقع، وأننا نفهم أكثر منه لأننا نعيش الواقع بخلافه هو.
وتضامن الحسيني مع عقيلي في هذا السياق، وأشار إلى أن الصحافي كان يَعُدُّ نفسه في ما مضى ملك الفهم والقراءة والتحليل، ولكننا صُدمنا بحقيقته بعد ذلك.
موت صحافة المواطن
عندما ظهر مصطلح “صحافة المواطن” احتفلت به الأوساط الإعلامية والأكاديمية لأنَّه يحقق هذه المشاركة الإيجابية في جمع الأخبار بشكل سريع، مع التفاؤل بأن يحمل “المواطن” صفات المواطنة الحقة مع ما تعنيه من إحساس بالمسؤولية الاجتماعية والأمانة في النقل والحرص على دعم قضايا المهمشين وغيرها.
لكن الاهتمام بالمصطلح بدأ يضعف في السنوات الأخيرة، مع ظهور مصطلحات صحافة الشبكات الاجتماعية، حيث تحوّل المواطن إلى وسيلة إعلام متحركة، تلاحقه وسائل الإعلام وتنشر عن اهتماماته.
ولو بحثت في أي موقع إخباري إلكتروني، ستجد نسبة لا بأس بها من الأخبار هي عبارة عن نقل وتطوير لما نشره الجمهور على الشبكات الاجتماعية، أو لنقاشات تمَّت على “هاشتاق”. ولم تعُد الوسيلة الإعلامية ممتنة على المواطنين لأنها تستفيد من مشاركاتهم، بل صارت في حاجة ماسة لهم، وتحوّل الصحافي المشهور إلى مواطن أيضاً على الشبكات الاجتماعية في طريقة نقله للأخبار، حتى تداخل الإعلامي مع غير الإعلامي، وصار من الصعب التفريق بينهما.
لكنَّ التحدي الأكبر الذي تواجهه صحافة المواطن ظهر بشكل واضح في حملة الانتخابات الأمريكية الأخيرة، حيث ظهر عدد هائل من الحسابات التي تكتب وتنشر أخباراً مزيَّفة أو صوراً تم التلاعب بها. وإذا كان النشر عادة يأتي من حسابات مجهولة، فإنه في حالات كثيرة أعاد نشرها مؤثرون كبار وصحافيون، وأحياناً وسائل إعلامية بارزة، وتطوّرت أساليب التزييف، إلى درجة أن هناك مواقع إخبارية كاملة مزيَّفة تبدو وكأنها مواقع محترفة، ويتم استخدام روابط منها لأخبار مزيَّفة بالكامل.
هذا التغير الضخم سيؤثِّر بشكلٍ حاد على كل ما ينشره الناس على الشبكات الاجتماعية، لأنَّ هذا الأسلوب سيستخدم في كل أزمة سياسية من الآن ولاحقاً حتى إيجاد حلول تقنية ومهنية لردع هذه الظاهرة، ولكن كل الحلول التي اقترحت حتى الآن تقضي على صحافة الشبكات الاجتماعية بشكل نهائي، مع ضياع المصداقية.
وقد كتبت في السابق دراسة عمَّا سمّيته بـ “الصراخ الإلكتروني”، وكنت أعني به هذه الحالة من الصوت المرتفع لدعم قضية معيَّنة، بحيث يظهر للجمهور أن رأياً معيناً يمثل رأي الأغلبية، تماماً كما لو جلس شخص يصرخ في غرفة مملوءة بالناس، وهذا الصراخ يمثِّل صوتاً واحداً، ولكن لا أحد في الغرفة سيسمع صوتاً غيره.
لقد أسهمت التقنيات الحديثة بنشر الأخبار وتوزيعها على الشبكات الاجتماعية في ازدياد هذه الظاهرة بشكل حاد، حتى صار من الصعب الاعتماد على الشبكات الاجتماعية في فهم الرأي العام، لأنه لن يمكنك التفريق بين الحسابات “المدفوعة” في التعبير عن الرأي، والحسابات “العفوية” الصادقة.
د. عمار بكار
وأدلت رنا الحاج بدلوها في الموضوع، واعتبرت أنّ مفهوم المواطن الصحافي يصف الجيل الثاني من الصحافيين. وقالت: “لا نستطيع الجزم بسلبية الأمر أو إيجابيته، وذلك لأن التجربة جديدة وتحتاج إلى أن تأخذ وقتها، وأن يتعلّم الناس كيفية التفاعل معها، خصوصاً وأننا نفترض أن الجيل الثاني يعتقد أنه سبق الجيل الأول؛ لكننا نحتاج إلى وقتِ لنعرف هل سبق فعلاً الجيل الأول، أم لا”.
وعاد الحسيني ليشير إلى أمر لفت نظره بحكم عمله في الدراسات والأبحاث، وهو أنه عند انتشار خبر على الفيسبوك مثلاً، فإننا نعود لنتحقَّق من ذلك عن طريق البحث في وكالات الأنباء العالمية. واللافت هنا أننا نمرّ على أكثر من 10 وكالات أنباء ولا تكون أي واحدة منها قد نشرت الخبر إلا بعد مرور نصف ساعة مثلاً على نشره في وسائط التواصل الاجتماعي. وهذا لاحظه كثيرون في عدد من الأحداث والأخبار، وهو أن مواقع التواصل الاجتماعي تنقل أخباراً صحيحة وحقيقية، قبل أن تنقلها وكالات الأنباء الشهيرة. الأمر الذي يؤدِّي بنا إلى خلاصة مفادها أن لا وجود لـ”المواطن الصحافي” من غير وجود وسائل التواصل الاجتماعي وعالم الإنترنت، إذ إنَّ تقنية الإنترنت هي التي سمحت بوجود المواطن الصحافي.
أدوار المواطنين الإعلامية
ولفتت رنا الحاج النظر مرة أخرى إلى أن وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت مصدر موضوعات الكتّاب الصحافيين نظراً لما ينشره المواطنون الذين يقومون بأدوار صحافية على حساباتهم الشخصية (أو واقعهم الافتراضي) الذي أصبح هو الواقع الحقيقي فعلياً. وأضافت: “يبدو أن الناس بعيشهم الافتراضي أصبحوا يتقدَّمون خطوات على غيرهم في مجال الحصول على المعلومة ونشرها أو تحليلها أو إبداء الرأي فيها. والشواهد على ذلك الأحداث التي حصلت في العالم العربي منذ عام 2011م وحتى الآن، وهذا واحد من عدة أدوار للمواطنين الصحافيين.
ووافقت عقيلي على هذه الفكرة، وأشارت إلى وجود صحافيين يقومون بالدخول إلى فيسبوك وإلى شبكات التواصل الاجتماعي الأخرى ليقرأوا تحليلات الناس العاديين، وتُفاجأ وأنت تستمع إليهم أو تقرأ لهم، بأنَّ ذلك التحليل سبق وأن مرَّ بك في وقت سابق. بل إنَّ بعضهم يذهب إلى أبعد من ذلك، بحيث يجعل المانشيت الرئيس لمادته الصحافية جملة مقتبسة من حساب أحدهم على وسائل التواصل الاجتماعي.
المعلومة وامتلاكها وأهميتها
وكان التطرّق إلى مسألة الحقوق الفكرية مناسباً لأن يطرح مدير الجلسة سؤالاً حول صدقية المعلومة وامتلاكها ما بين الصحافة التقليدية والمواطن الصحافي، فعبّر عدنان عن دهشته من النقص في المعلومات لدى الصحافيين على الرغم من التقنيات الحديثة ووسائل التواصل المختلفة. وقال: هناك تنافس سياسي كبير في العالم العربي على شراء المغرِّدين، وشراء المشاهير على شبكات التواصل الاجتماعي، وهو ما يعرف بظاهرة “الجيوش الإلكترونية”، وذلك نظراً لتأثيرهم الكبير، ولذلك فإن المواطن الصحافي هو المسيطر، والصحافة هي التي سوف تنقرض”.
غير أن رنا حاج تطلَّعت إلى جانب آخر من المسألة، وقارنت الصدقية في الصحافة التقليدية بصدقية المواطن الصحافي، قائلة: “إنَّ المعلومة عند الصحافي التقليدي تمر بمراحل تدقيق عديدة قبل أن تصل مقالته إلى القارئ، وقد تنتهي في منتصف الطريق في سلة المهملات. بخلاف ما يحصل اليوم في زمن “المواطن الصحافي”، حيث يمكن كتابة خبر مثل: “الرئيس فلان يقدِّم استقالته”، فينتشر الخبر على مواقع التواصل، ويصبح “حقيقيةً” لمدة معيَّنة من الوقت، قبل أن يتلاشى بنفيه أو حتى من دون نفيها.
يجب أن نعلم أن المواطن الصحافي كسر احتكار الصحافيين للصحافة وللخبر وللمعلومة، وكسر محاولات التضليل التي تتبعها الصحف، وصار مطلوباً منه أن يكون أذكى من الصحافي وأن يوصِّل المعلومة بصدق وحياد
عباس الحسيني
وحول أهمية المعلومة قال جازو إن ثقافة المعلومات الطاغية عالمياً هي التي تبني المعرفة، وأن جمع المعلومات حول بلد معيَّن على سبيل المثال، أو حول أي موضوع محدَّد، يؤدي إلى معرفة كافية للخروج بنوع من الفهم أو التحليل الذي يوصِّل إلى رأي صائب ومنطقي. ويضاف إلى المعلومة البُعد المعرفي الذي يكون مبنياً على سياق معيَّن، ويكون له ماضٍ وحاضر ومستقبل.
ورداً على سؤال حول قدرة المواطن الصحافي على التأثير والتغيير في قضايا الحياة اليومية لمجتمعه من خلال نشاطه على وسائل التواصل الاجتماعي، قالت حاج إن ذلك يتوقَّف على قدرة المواطن نفسه، وإذا كان يعرف كيفية التفاعل مع الأحداث وقضايا الحياة اليومية بصورة صحيحة أم لا.
وعبّرت ثناء عطوي عن رأيها في هذا الإطار بالإشارة إلى أن المواطن الصحافي يقوم أحياناً بدوره بشكل مثالي، ولكنه أحياناً لا يعرف ما هو دوره. فهو يؤثّر حسب أهمية الحدث، كأن يقوم بنقل أحداثٍ مهمة لا تحظى لسبب ما بالتغطية الصحافية التقليدية من مواقع محاصرة أو لا يستطيع أحد الوصول إليه وهو موجود فيها في الحال.
أمّا عدنان، فأبدى وجهة نظر مختلفة بقوله إن تجربة المواطن الصحافي نجحت فيها 3 دول، هي: السعودية، ومصر، والمغرب. “ففي مصر لعب المواطن الصحافي دوراً بارزاً في اندلاع ثورة، وفي المغرب لديهم تجارب مذهلة كالإذاعة عبر النت، وفي السعودية، نستطيع أن نرصد في آخر ثلاث سنوات آلاف الحالات أو الشكاوى أو التعليقات التي تجاوبت معها الجهات المعنية في المملكة فور نشرها على وسائط التواصل الاجتماعي، وكان من آخرها حالة الشخص الذي قام بتعنيف طفل صغير، واستطاعت الحكومة الوصول إليه بفضل شبكات التواصل. ولا يمر يوم إلَّا وتجد تفاعلاً حكومياً مع خبر نُشر في شبكات التواصل الاجتماعي”.
ورأى جازو أنه ومع إلغاء دور الوسيط يتحصل لنا التأثير الأفقي أو المجتمعي بدل التأثير العامودي للصحافة التقليدية، ويتجاوز هذا التأثير الجوانب السياسية إلى أبعاد ثقافية واجتماعية. وبالتالي، فإنَّ التفاعل الذي كان يتم عبر الوسيط (الصحفي- الصحيفة- التلفزيون) اختفى. وأصبح الناس يتفاعلون مباشرة في ما بينهم، وأصبحت الديناميكية الاجتماعية أسرع. وأعرب عن اعتقاده أنّ الأثر الثقافي والاجتماعي أعمق من الأثر السياسي وأكثر نفوذاً منه؛ لأنه يتعلَّق بأفكار الناس وحياتهم اليومية وتعاملاتهم.
ولفتت عقيلي إلى جانب مثير للقلق في صحافة شبكات التواصل الاجتماعي، بقولها إنه بعد عرض فكرة مهمة أو نقل حدث بالغ الخطورة في يوم معيَّن، يطرح المواطن الصحافي في اليوم التالي موضوعاً آخر أو حدثاً جديداً ينسينا تماماً ما حدث بالأمس. فيغيب التراكم، وتبهت ردود الفعل والمواقف بسرعة، لأنَّ الاهتمام تحوَّل إلى شأنٍ مختلف تماماً.
ماذا يمكن أن يكون قد طرأ من تحوّلات على مفهوم “المواطن الصحافي” بعد سنوات عشر على ظهوره؟
وليد الحارثي
ويلتقط جازو الفكرة نفسها ليتوسَّع فيها بقوله: إن ما تفتقده صحافة المواطن هو ربط المعلومات والأحداث بسياق معيَّن، والخروج بخلاصة نهائية لما يحدث. وأضاف: “يحتاج ذلك إلى بحث اجتماعي وأكاديمي، فالدمج بين ما هو صحافي كمهنة وخبرة ولها أصول، وبين ما هو شعبي ويومي وحياتي سوف يحدث نوعاً من المعرفة المتماسكة التي يمكن الاعتماد عليها مستقبلاً. والفرق هنا هو أن الصحافي لا ينظر إلى اليوم الذي حدث فيه الحدث عندما يبني مقالاً أو رأياً، وإنما ينظر إلى الأثر التراكمي، ويرجع إلى ما يشبه هذه الأحداث في السابق ليبحث فيها، وليستكشف ما إذا تكرَّرت الأحداث نفسها، أم أنها اختلفت. وكل ذلك يحتاج إلى مزيد من الوقت، وإلى متابعة وإعادة قراءة”. وأشار إلى أن الصحافة تبني أرشيفاً يمكن الرجوع إليه، ومن خلاله يمكن بناء شيء يمكن الاعتماد عليه، بخلاف المواطن الذي يعرض الأحداث فور وقوعها وبشكلها الظاهر المنسلخ عن غيرها أو سياقاتها.
صحافة المواطن والمواطَنة
وقبيل اختتام الجلسة، أثير موضع دور المواطن الصحافي في تعزيز المواطَنة، وما إذا كان هذا الدور مجرد زعم أم حقيقة. فقالت عقيلي: هناك تعريف جديد للمواطنة. والإنسان في حالة بحث دائم عن معنى مفردة “مواطن”، وليس باستطاعتنا بناء إجابة دقيقة حول ذلك، لأنَّ العالم في حالة تغيّر وعدم ثبات”.
بينما رأى عدنان أن ظاهرة المواطن الصحافي ظاهرة ممتازة، على الرغم من أنها ضد مصلحته المهنية على المستوى الشخصي، “فأي شيء يجعل حياة الناس أفضل، أو يحمل السلطات على العمل من أجل معالجة قضايا الناس وتحسين أوضاعهم، أو يكسر احتكار المعلومة، هو تعزيز للمواطنة”.
مستقبل المواطن الصحافي
وفي الختام، طرح مدير الجلسة سؤالاً حول مستقبل المواطن الصحافي، وما يمكن أن نترقَّبه من تحوّلات أو تطورات قد تطرأ عليه. فقال جازو إن الرهان هو على تعزيز سلطة الأفراد، بمعنى أنَّ الناس العاديين صاروا أصحاب حضور قوي عند التعبير عن رأيهم ورغباتهم ومخاوفهم. فقد امتلأ الفرد بذاته. وعلى الرغم من حالة الإحباط الموجودة، صار يمتلك مساحة أوسع للتعبير، والرهان هو على أن تتعزَّز قدرة الأفراد على التعبير أكثر فأكثر، وهو منحى إيجابي تماماً”.
أما عطوي فاقتبست القول المعروف “إن المعرفة العظيمة تأتي من أكثر الأصول تواضعاً، لتؤكد على أن المعلومات المهمَّة والكبيرة يمكنها أن تأتي من أناس عاديين، وهذا ما سيحدث في المستقبل. فالمواطن سوف يكون أكثر ثقافة وأدق في نشر المعلومة أو التعبير. وقالت: “إننا نراهن على المواطن، علماً إنه لن يكون صحافياً كما هو حال الصحافي المحترف والمحلل الذي يُعطي وقته كاملاً لهذا العمل. ولكن كلما كان دوره أفضل في نقل الأخبار والأحداث كانت الصورة أحسن، وكنَّا أقدر على التعامل مع التحديات التي تواجهنا”.
المواطن الصحافي..
والمواطن القاضي
في عمله الشهير “مزرعة الحيوان” وصف جورج أورويل عالماً تخيلياً تستقل فيه حيوانات المزرعة برأيها وأمرها، وتتخلص من سيطرة الإنسان. بدأت الحيوانات عالمها الجديد بشعار “كل الحيوانات متساوية”، لكنها لم تلبث أن أضافت إليه بعدما قطعت شوطاً في درب التعبير عن الذات: “كل الحيوانات متساوية، لكن بعضها متساوٍ أكثر من الآخر”.
وحين نتأمَّل في العالم الذي خلقه “المواطن الصحافي”، سنجد أن المسيرة تمضي على النمط نفسه. ففي العام 2006م، نشرت مجلة “تايم” الأمريكية عدداً شهيراً يحتفي بـ “أنت”، وتكلفت غلافاً باهظاً لكل أعدادها، فيما الكل يبشر بإفلاس الصحافة الورقية. وكان الغلاف وقتها من مادة صقيلة تشبه المرآة ليسعك أن ترى عليه وجهك أنت. قالت التايم آنذاك، إننا في ظل حماسة التدوين وفورة منصات التواصل وما تبشر به من مستقبل رقمي حر، بات كل شخص بمنزلة رئيس تحرير.
لكن اليوم، وبعد أكثر من عقد، ألا نجد أن صوت المواطن مختطف من قبل فئة أجادت الصنعة هي الأخرى؟ فمن هم وجوه “الإعلام الشعبي”؟ هل هن الفاشنيستات؟ أم نجوم يوتيوب سريعو الاحتراق؟ وعلى الرغم من الأرقام المليونية للمتابعين الذين تعجز عنهم كبرى محطات التلفزة ودور الصحافة التقليدية، أليس هناك نوع من التنميط في الطرح الرقمي هو الآخر؟ أليس المواطنون الذين يجيدون لعبة الظهور والنشر هم الذين يخبروننا كيف نأكل ونسافر ونفكِّر وماذا نلبس وأي آراء نعتنق.
أعتقد أن حرية الرأي قد تمخضت عن واقع سوق جديد. بالمعنيين المادي والفلسفي. هناك من يدفع دوماً، وهناك من يروّج للمنتج. هناك دائماً قاعدة (ما يطلبه المستمعون). لا شك في أن مجال الحرية أوسع بكثير ويسع كل الأصوات والأذواق، لكن يظل هناك السائد والنمطي. تظل هناك الموضة في الطرح والرأي والإخراج والمنصة التقنية السائدة. إن صحافة المواطنين قد تكون قدَّمت أصواتاً مستقلة، لكنها خلقت حالة جديدة من الخوف. الخوف من هذا المواطن المسلح بهاتف ذكي ويزعم أنه أداة حريته في إحقاق الحق، فيما هو يمارس تنمراً ويقيم نفسه مقام القاضي والجلاد، ولا يلتزم أيّ معيارية احترافية. وتلك هي أزمة ثقافة “المواطن الصحافي” التي نرجو ألا تحوّل كلًّا منا إلى “المواطن القاضي”.
د. أشرف فقيه