يبدو أن «مسلسل عمر» الذي أنتجته مجموعة «إم. بي. سي» التلفزيونية وعرضته أغلب الفضائيات العربية والإسلامية في شهر رمضان الفائت، سيكون نقطة فاصلة في تاريخ الدراما العربية التاريخية، فظهور الخلفاء الراشدين وعدد من الصحابة والتابعين، سمعاً وبصراً، وبموافقة عدد من العلماء المرموقين هي خطوة لا بد أن تجر وراءها حبل الخلافات، لكنها في كل الأحوال، ستفتح لديننا الحنيف، بكل رموزه وفلسفته وحكمته نافذة على معترك الحياة المعاصرة، كما أنه سيقترب أكثر من عقول أجيالنا الجديدة ومشاعرها ووعيها.
نعرف اليوم أن الأزهر قد اتخذ قراره عام 1928م بمنع تجسيد نبينا المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وصحابته الأجلاء في الأعمال التمثيلية أو التلفزيونية، وقد مضت جلّ الدول العربية والإسلامية على ذلك النهج، وإذا كانت قوة المؤسسات الحكومية والواقع الاجتماعي قد كرَّسا ذلك المنع لزمن غير قصير فقد فقدنا فرصة تقديم السِير الناصعة للصحابة في أشد الوسائل الإعلامية والترفيهية التي ظهرت خلال القرن المنصرم، تأثيراً وهيمنةً على عقول المشاهدين.
وهنا فإننا نستطيع القول بلا خشية، إن الهدف من كتابنا المحكم ومن الأحاديث الشريفة، ومن آثار الصحابة والتابعين، ومن سيل عارم من كتب الفقه واللغة والسير والتاريخ والجغرافيا والعلوم، ومن كل نصوص ثقافتنا، هو ألاَّ تختبئ بين الأغلفة، أو أن تصبّ في رؤوسنا لنحفظها ثم نختبر فيها، كما كان يحدث في أساليبنا التعليمية الأولى، ولكن أن تتحوَّل إلى ثقافة يومية، إلى منبع للتفكير والتحليل، وإلى سند معرفي يساعد الجيل الجديد على الحفاظ على هويته، وجوهر دينه، وتحصينه ضد نوازع العزل والتطرف والجهل. كانت الوسيلة التعليمية الجائرة هي حفظ النصوص «صمّاً» ثم استعادتها على أوراق الامتحانات حيث سيتفوق دائماً أصحاب الذاكرة الصلبة، أما أصحاب الذاكرة المرنة فقد ينهار مستقبلهم التعليمي كله بسبب تلك الطريقة البالية في إعداد النشء.
اليوم، هذا الجيل لا يحفظ، وأكثر تلك المواد رهبة تلك التي تقتات على الحفظ والتسميع، وأعتقد أن الدراما التاريخية قد تقدِّم بعض الحلول المقنعة لهم، حيث تقترب تلك الشخصيات الباهرة منهم، ففي الدراما ومشهديتها التي تتجسَّد عبر المسلسلات التلفزيونية أو الأعمال السينمائية تخرج تلك الشخصيات من الكتب وتصبح نماذج حية، ذات طاقة خلاَّقة مؤثرة، رؤيتها للحياة ولواقعها المعاش مجسّداً عبر لغة محكمة، وعبر تصوير مكاني وزماني لمواقع الأحداث، وتتداخل المؤثرات الصوتية والموسيقية في العمل الدرامي لتمنح المشاهد فرصة الاندماج مع الرواية البصرية المتلاحقة على الشاشة.
هكذا إذاً، وبفعل هذه الأنماط الجديدة التي تعرض الأفكار والأحداث والتواريخ في قالب فكري وفني يحمل روح التسلية، فإن النصوص تغادر جمودها وتستعيد تأثيرها.
يثير «مسلسل عمر» أيضاً الفكرة المعروفة حول كتابة التاريخ التي لا يسطرها إلا الأقوياء.
فالتاريخ الإسلامي كغيره من التواريخ الكبرى، هو تاريخ كوني، اختلطت تحت ظلاله كثير من الأجناس والأعراق، كما أن الجغرافيا الإسلامية واسعة، وكل القوى الصاعدة لن تتردد في إعادة كتابة تاريخ الإسلام وفقاً لمفاهيمها، ورؤيتها الدينية، وطموحاتها في التوسع والتسيّد، وهو ما يلقي بمهمة عسيرة على القنوات الإعلامية والثقافية العربية تقضي بالبناء على مسلسل عمر بل وتطويره. والمطلوب هنا ليس منافسة إعلامية على كسب المنابر بقدر ما هو وضع أرضية درامية متكاملة لتاريخنا، ديناً ومجتمعاً وثقافةً وأعلاماً ورموزاً وسيراً وقصصاً يشرف عليها متخصصون في كتابة التاريخ وصناعة الدراما معاً.
وأعتقد أننا إذا لم نتقدَّم لكتابة هذا التاريخ تليفزيوناً وسينمائياً ومسرحياً، فإن علينا ألاَّ نعض الأصابع حين نجد أمماً أخرى قد اهتبلت الفرصة، وأنتجت مجموعة من الأعمال الفنية المؤثرة على المشاهد المسلم في أية بقعة يعيش فيها. ليس كذلك، بل إننا نشهد استوديوهات عالمية غربية وشرقية تغامر بتقديم الرموز الإسلامية وفقاً لمنظومة الصراع التاريخي بين الإسلام والغرب، وبما أن تلك الاستديوهات تنتمي إلى صناعة ضاربة وساحقة التأثير، فإن الدول العربية والإسلامية لا يبقى لها سوى الاحتجاج أو إطلاق عبارات الشجب ثم يهدأ غبار الورق والتصريحات، بعد أن تكون رسالة الفلم أو العمل الفني قد حققت غايتها بنجاح…
إننا نستشهد كثيراً هذه الأيام بفلمي المخرج الراحل مصطفى العقاد: «الرسالة» و«عمر المختار»، كنموذجين مبكرين وناجحين في ميدان الدراما الإسلامية، لكن من شهد تلك الأيام يتذكر حجم الهجمة الشرسة عليه فقد كالوا له التهم بتشويه صورة الإسلام، والنتيجة أن تلك الأفلام التي دافع بها عن عقيدته وأمته لم تلق الترحيب المطلوب بين ظهراني أهليه، بل وتوقف عن مغامرته، وهكذا خسرنا أولى الفرص المبكرة لإيصال الرسالة الأصيلة لديننا، فيما استقبل الغرب الفلم باحتفاء نادر حتى إن مصادر تشير إلى أن فلم الرسالة اجتذب أكثر من ثلاثين ألفاً إلى الإسلام.
التحدي المباشر لنا هو أننا نعيش مع العالم عصر الصورة وانفجار قنوات ووسائط الاتصال والإعلام الاجتماعي، لكننا في تفاعلنا معه، نتردد عن تقديم صور أبطالنا أو رموزنا أو سيرهم وإنجازاتهم ونحن لا نكاد نحصي الأسماء التي اعتبرت مسلسل عمر خطأً تاريخياً، إلا أن الإقدام على عرض المسلسل قد خلق له أنصاراً ومتابعين كثر وأصبح العمل الدرامي أكثر متابعة على خارطة رمضان التلفزيونية.
ردود الأفعال الجماهيرية حول المسلسل هي الأكثر أهمية ولقد تابعتها قدر الوقت المتاح، لكننا لا نحظى للأسف بمعاهد متخصصة في قراءة الرأي العام واتجاهاته، وتبدلاته، ونسب رضاه أو غضبه، واستثمار اقتراحاته، وفهم ميوله، ورصد التحولات التي طرأت على تلقيه …الخ.
«مسلسل عمر» يقدِّم نموذجاً متفوقاً للكتابة الدرامية العربية، بل ويفتح باباً واسعاً لتقديم الشخصيات الإسلامية بمواصفات معاصرة، وقادرة على الاستحواذ على مشاهدها. قدَّم الشاعر والباحث وليد سيف والمخرج حاتم علي عملاً أساسياً بعد بحث وتقصٍ امتدا إلى سنوات، ونجحا في تقديم شخصية فارقة ومركزية في مرحلة الخلافة الأولى، لكننا نعرف أن المحاذير والحواجز تحيط بهذا العمل من كل جانب، يضاف إلى ذلك أنه عمل فني ربحي، أحد أعمدته التسويق واستمالة المعلنين، وهو ما يضيف أعباء غير مرئية للمشاهد، على الكاتب والمخرج والمنتج وقنوات البث الفضائي.
لكن يلزمنا الاعتراف بأن هذا المسلسل، رغم كل الجدل الذي أثير حوله، قد عبر من عنق الزجاجة دون أن يكسرها …!.