طاقة واقتصاد

موظفون في منازلهم
مَنْ المستفيد؟
الموظف أم صاحب العمل؟

  • new-house
  • 3-1
  • 3-2
  • 3-3
  • home2

العمل من المنزل أو ما يسميه البعض العمل عن بُعد، هل هو جمع بين راتب يتقاضاه الموظف عن عمل مريح يجمع بين حياة العمل والحياة الخاصة؟ أم إنه ذكاء من بعض أرباب العمل في التخلص من أعباء وتكاليف إيجاد مكاتب وبيئة عمل مناسبة لهذا الموظف؟ ما هو حجم إنتاجية الموظف وما مقدار التزامه بالأداء المفترض عليه حينما يعمل من منزله مقارنة بالعمل داخل المكتب؟ وهل هناك سلبيات على العمل يحاول أرباب العمل التخلص منها، أو هل هناك انتهاكات لحقوق الموظف تعمل النقابات العمالية للحيلولة دونها؟ أسامة أمين يناقش في هذه المقالة العمل عن بُعد ويجيب عن هذه الأسئلة.

يتخيل البعض أن العمل من البيت، أو ما يعرف باسم (العمل عن بُعد)، يجعل الموظف قادراً على الاستمتاع بيومه، ينهض من النوم وقتما شاء، ويفطر على راحته، ثم يعمل متى شاء، ويقسِّم يومه بين العمل والحياة الخاصة، بحيث يستطيع العدل بينهما، ويجمع بين الحسنيين، نفس الراتب، مقابل عمل مريح، فلا إزعاج من زميله الذي يتحدث في الهاتف بصوت عال، ولا مدير يتدخل في كل جزئية من العمل، وفوق كل ذلك يرى أولاده، ويقضى وقتاً أطول معهم، فيشعرون بوجوده، ويشاركهم حياتهم.

نتائج غير متوقعة
هذا النوع من العمل لم يبدأ حديثاً، بل قامت شركات كبرى مثل (آي بي إم)، بتطبيق هذا النموذج في ألمانيا منذ أكثر من سنوات عشر، وارتفعت نسبة الموظفين العاملين بهذه الطريقة إلى الثلثين، وتبين أن الشركة لم تستطع أن توفر بذلك الكثير من التكاليف الناجمة عن خفض عدد المكاتب المخصصة للموظفين فحسب، بل ارتفعت إنتاجية الموظف، وتحسنت نوعية العمل بصورة ملحوظة.

ظهر جلياً أن الموظف الذي يعمل من بيته، غالباً ما يشعر بأن عليه أن يحقق نتائج ممتازة، لإثبات أن حصوله على ثقة صاحب العمل في مكانها، وأنه يستفيد من الحرية الممنوحة له لصالح العمل، وأن عنده دوماً ما يمكن تسميته بالشعور بالذنب، فلا يسمح لنفسه بالحصول على الاستراحة، التي تضمنها له القوانين، ولا يتوقف من العمل حتى في عطلة نهاية الأسبوع، ويواصل العمل لساعات متأخرة في الليل، وحتى في وقت المرض، لا يرضى أن يتمتع بحقه في الإجازة المرضية، بل يتحامل على نفسه، ليجلس على مكتبه، ويواصل العمل.

كل هذه الظواهر جعلت النقابات العمالية، تتساءل عن كيفية الحيلولة دون انتهاك حقوق الموظف، الذي يتحول إلى مدير صارم في التعامل مع نفسه، ويجعل نفسه مسؤولاً عن تحقيق نتائج أفضل للشركة، حتى ولو كان ذلك على حساب حياته الخاصة، لذلك طالبت النقابات أصحاب العمل، بأن يجري إعادة تأهيل للمديرين، الذين تغيرت مهامهم في ضوء هذا التحول في آلية العمل، بحيث أصبح مطلوباً من المدير الآن أن ينصت إلى صوت الموظف في المكالمة، لكي يطمئن على حالته النفسية والبدنية، وينتبه إلى مواعيد كتابة الرسائل الإلكترونية، وينبه الموظف إلى عدم جواز العمل في منتصف الليل، وإلى أن العمل في الفترة بين الثامنة مساءً والسادسة صباحاً ممنوع، حفاظاً على صحته وعلى حياته الخاصة.

الطريف أن كل التوقعات كانت تشير إلى أن هذا النوع من العمل من البيت سيقتصر على الموظفات العاملات، بحيث يستطعن الاستمرار في رعاية أطفالهن، إلى جانب ممارسة العمل المكتبي من المنزل، ولكن الإحصاءات الحديثة تشير إلى أن نسبة الرجال المستفيدين من هذا النوع من العمل، يفوق بكثير نسبة النساء المستفيدات منه.

تبادل الأدوار
في أماكن العمل التقليدية، هناك مدير يسير بين المكاتب، ليتفقد سير العمل وأوضاعه، ويتابع أداء موظفيه، يمدح من يبقى منهم في مكتبه حتى ساعة متأخرة، ويستاء ممن يغادر العمل فور انتهاء وقت الدوام، ويدعو لاجتماعات دورية، يصدر فيها التعليمات، ويعطي الأوامر، ويعيد إلى الأذهان أن بيده سلطة تقييم الموظف، فهو من يملك التوصية برفع الراتب، والحصول على علاوة، أو مكافأة خارج الدوام، أو إرسال الموظف في مهمة رسمية، أو يحصل على مبالغ إضافية، كما بيده أن يحرم الموظف من كل ذلك، وأن يقوم بتحويله إلى مكان آخر من العمل، لا يروق له، بل وربما يفصل الموظف، الذي لا يرضى عن أدائه.

لو تخيلنا هذا المدير في مؤسسة، غالبية موظفيها يعملون عن بُعد، فإنه سيشعر لا محالة، أنه «راعٍ بدون رعية»، أوامره وتوجيهاته لا ينتظرها أحد، لأن الجميع يعمل من تلقاء نفسه، المسؤولية التي يشتكي من ثقلها، لا وجود لها، لأن الموظفين تقاسموها بينهم، والعمل يسير بدون تدخله، ربما بصورة أفضل من ذي قبل، لابد أنه شعور مرير، إلا إذا أعاد التفكير في الدور الذي عليه القيام به، في ظل النظام الجديد للعمل.

أما الموظف الذي كان يعشق الحديث مع زملائه في العمل، عن آخر مباراة كرة قدم، وينتهز فترة الاستراحة لتناول الشاي أو القهوة معهم، ويتقاسمون علب السجائر، لأن التدخين لا يحلو إلا في جماعة، مع تكرار الأحاديث المعتادة مثل الشكوى من رئيس العمل، ومن الظلم الذي يقع عليهم من وقت لآخر، وانتقاد الزملاء الذين حصلوا على زيادة راتب قبلهم. هذا الموظف سيشعر أيضاً بالتغيير، لأنه سيجد نفسه فجأة وحيداً في مكتبه، الموجود في البيت، لا زملاء يتحدث معهم، ولا مبرر لتأخره في إنجاز العمل.

كل هذه التحولات اقتضت وضع آليات جديدة للعمل، بعض المؤسسات تفرض على الموظف مثلاً الحضور يوماً في الأسبوع إلى المكتب، بحيث يستطيع التواصل مع زملائه ورؤسائه في العمل، يتبادل معهم الرأي وجهاً لوجه، ولا يفتقد البعد الإنساني والاجتماعي.

وإذا كانت علاقة العمل قد تحولت من التزام الموظف بقضاء عدد معين من الساعات في المكتب، إلى علاقة مرتبطة بإنجاز مهام محددة في خلال فترة زمنية يجري الاتفاق عليها في كل مرة، فإن نقابات الموظفين لاحظت أن المهام المطلوبة من الموظف العامل عن بُعد، تفوق بكثير المطلوب من الموظف العامل في المكتب، ولذلك نشأت لجان مختصة داخل هذه النقابات، للفصل في حالة النزاع على حجم المهام المطلوبة.

المهم في العلاقة الجديدة أن تكون المهام المطلوبة من الموظف واضحة، والتوقعات دقيقة الصياغة، حتى لا يحدث سوء تفاهم، لأنه لا مجال للمتابعة المستمرة من جانب رئيس العمل، ويضاف إليها أن تكون قابلة للتنفيذ خلال عدد ساعات العمل، والتي تبلغ في كثير من الدول الأوروبية حوالي 40 ساعة أسبوعياً، بمعدل 8 ساعات يومياً، مع مراعاة وجود يومي عطلة أسبوعية.

وعلى الجانب الآخر فإن الموظف مطالب بأن يتعلم كيفية إدارة الوقت بطريقة صحيحة، بحيث لا يخلط بين العمل والبيت، ولا يجعل من الحرية التي يتمتع بها قيداً يمنعه من الاستراحة، وعدم الإصرار على الانتهاء من المهام المطلوبة منه في أقصر فترة ممكنة، بل يعطي أسرته الوقت الذي تستحقه، ومن البديهي أيضاً أنه لا يجوز له أن يهمل عمله ويتكاسل عن أدائه، باعتبار أنه لا رقيب عليه من إدارة المؤسسة التي يعمل فيها.

الزوجة بديلاً للزملاء
ربما يسعد الزوجة أن ترى زوجها يشاركها في عملها، فيحكي لها عن المهام التي يقوم بها، ويشرح لها العقبات التي تواجهه في تنفيذها، والكثير من التفاصيل التي كان يناقشها من قبل مع زملائه في العمل، لكن الزوجة قد تعاني من هذه المهمة الجديدة، لأنه أصبح المطلوب منها أن تستمع إلى قضايا ربما لا تهمها على الإطلاق، ولا تستطيع أن تشارك فيها بالرأي، ولعلها تشتاق إلى الزمن الذي كانت حكايات زوجها عن العمل، لا تزيد عن القضايا العامة، مثل زيادة الراتب، أو تغيير الوظيفة، أو تعيين مدير جديد.

يروي أحد الموظفين المتخصصين في البرمجة، يعمل عن بُعد، أنه قام بإنجاز برنامج جديد، وأرسله لزملائه، لإبداء الرأي فيه، فوصلته كثير من الانتقادات، مما أصابه بخيبة أمل، وانتابته نوبة غضب شديدة، فأرادت زوجته أن تخفف عنه، فاقترحت عليه أن يخرج معها ليمشيان على النهر، ويحكي لها بهدوء عما حدث، لعله يهدأ، فاستجاب لها، وخرج معها، وأخذ يقص عليها ما حدث، لكن صوته أخذ يرتفع، وصراخه يعلو، حتى كان كل من في الطريق، ينظر إليهما باستنكار، اعتقاداً أنهما يتشاجران في الطريق العام، ثم أقسم الزوج أن يرسل لجميع زملائه رسالة على البريد الإلكتروني، يتهمهم جميعاً بالغباء، لأنهم لم يفهموا ما يتضمنه البرنامج من أفكار إبداعية، فحاولت زوجته أن تثنيه عن ذلك، فرفع إصبع الإبهام في وجهها، محذراً إياها أن تدافع عنهم، وزادت نظرات الناس إشفاقاً على الزوجة، ولما فاض بها، طلبت منه أن يعودا إلى البيت لأنها لا تستطيع أن تتحمل أكثر من ذلك، خاصة وأنها (لا ناقة لها في الأمر ولا جمل)، فإذا بالزوج يترك مشكلته مع زملائه في العمل، ليسألها بغضب، ما إذا كانت تقصد أنه جمل، وأنها ناقة، فتركته وسارت أمامه مسرعة إلى البيت، والدموع في عينيها، وهي تتمنى أن يعود للعمل في المكتب من جديد، بدلاً من العمل من البيت.

عاد الرجل إلى المنزل بعدها، وذهب إلى مكتبه المنزلي، وقد هدأت أعصابه، وذهب كل ما به من غضب، وكتب لزملائه، رسالة يشكرهم على ما أبدوه من ملاحظات، وشدد على أنه سيراعي هذه النقاط في تعديلاته على البرنامج، فجاءته في اليوم التالي رسالة من رئيسه، يشيد بذوقه، وبقدرته على عدم الغضب من نقد زملائه لعمله، رغم كل الجهد الذي بذله في البرنامج، فأخذ الموظف الرسالة لزوجته، وقال لها إن الفضل يعود لها في امتصاص غضبه، وأنه مدين لها بالكثير.

من هذا يتضح أن التغير في آلية العمل، لا تتطلب تغييراً في أداء المديرين والموظفين فحسب، بل يتسع ليشمل الزوجات والأبناء، الذين سيكون عليهم أن يدركوا أن وجود الأب في البيت لا يعني أن الحديث معه ممكن، أو أنه قادر على ترك ما في يده، وتناول طعام الغداء معهم، بل هو موجود كموظف في محل عمله، وليس كأب يقضي الوقت مع أسرته.

أما إذا كنا لا نستطيع التكيف مع كل هذه المتغيرات، فالأفضل أن يبقى الوضع على ما هو عليه، أب يأتي في نهاية اليوم من العمل، متعب ومنهك القوى، وأم تعود من العمل وقت الظهيرة، لديها ما يكفيها من المهام مع الأبناء والبيت، وأبناء يعودون من مدارسهم، لتأدية واجباتهم المدرسية، ثم تجتمع الأسرة في الليل على العشاء، والشوق يجمعهم للحديث سوياً، بعد ساعات طوال من الفراق.

أضف تعليق

التعليقات