الثقافة والأدب

في مهرجان سيت الشعري

الشعر يتنفس في الشوارع والمراكب والمقابر

  • sete
  • OLYMPUS DIGITAL CAMERA
  • OLYMPUS DIGITAL CAMERA
  • OLYMPUS DIGITAL CAMERA
  • OLYMPUS DIGITAL CAMERA

تحتضن مدينة سيت الفرنسية مهرجاناً سنوياً للشعر يحضره مجموعة من شعراء العالم وخاصة من دول البحر الأبيض المتوسط ويشتمل على أمسيات شعرية وموسيقية وحوارية. والمهرجان يهدف إلى تعميق الروابط الثقافية بين شعوب المتوسط، وتنمية فرص التلاقي بين ثقافات تلك الشعوب والثقافات والفنون المجاورة. يحضر تلك التظاهرة الموسمية سكان المدينة وجمهور زائر من فرنسا وأوروبا ودول أخرى.
محمد الدميني شارك في فعاليات المهرجان هذا العام وكتب انطباعاته في هذا التقرير.

لا أعرف ما إذا كان يمكن للمرء أن يضيق بمدينة مثل باريس دون أن تنهال عليه الشتائم قولاً أو إيماء..!. لكنني لا أنكر، وأنا من محبيها، أنني بلغت معها حدود العتاب وأنا أجرجر حقائبي في محطة قطاراتها الرئيسة وسط الألوف من البشر متبايني السحنات والهويات واللغات.

كانت اللغة هي العائق الكبير، وخاصة في الأماكن العامة حيث الناس يسرعون إلى قطع تذاكرهم واللحاق بقطاراتهم. وقتهم الراكض لا يسمح لهم بأن يتوقفوا لمساعدة أحد، أو الرد على أسئلته العابرة، فإذا أضفنا أننا بلا لغة مشتركة فما أسهل أن ينصرفوا عنك، ويصبح أملك معلقاً في شباك مركز المعلومات الواقع في عمق المحطة والذي يقف أمامه صف طويل من المسافرين هو موقع النجدة الوحيد..!

أخيراً هأنا في الطريق إلى «سيت» المدينة الصغيرة التي تقع في الجنوب الشرقي لفرنسا، ليس بعيداً عن الحدود الفرنسية – الإسبانية. أمامنا أربع ساعات لكي نصل فالمسافة لا تقل عن 800 كم، ورغم الارتباك الذي قادني إلى كابينة غير تلك التي عليها مقعدي فقد تحملت أكثر من ساعة لكي يتوقف القطار في المحطة التالية لأنتقل إلى مقعدي المحجوز وأواصل رحلتي.

لم أحمل أبداً هموم السفر بالقطار فأنا أحد عشاق هذا السفر وخاصة داخل الجغرافيا الأوروبية. المأكل والمشرب على بعد عربة، واستعددت لصرف الوقت بكتب ومجلات وكمبيوتر تكفيني مؤنة نهار كامل بالقطار. في هذه الرحلة الأرضية تتكشف طبائع الناس وتقرأ اهتماماتهم، وعبر النوافذ يمكنك أن تقترب من ملامح الحياة اليومية وتضاريس الطبيعة ووجوه النشاط الميداني لشعب عريق كالشعب الفرنسي. في هذه الساعات القليلة يمكنك أن تنقّل عينيك بين المساحات الزراعية الشاسعة، وبين القرى المتناثرة بمعمارها القوطي، وبين المصانع الكبيرة والصغيرة، فيما يواصل الطريق اختراقه للغابات والسهول والممرات المائية والمزارع دون أن تجفل الأبقار والأغنام والأحصنة الغارقة في مراعيها الشاسعة. كانت شمس الصيف المعتدلة تمنح الناس المزيد من الدفء وتقلل هواجسهم من الأمطار المفاجئة أو من كآبة الغيوم الداكنة.

حين وصولنا إلى «سيت» حيث ينعقد مهرجانها الثقافي السنوي،(من 20 – 28 يوليو 2012م) وحيث ألبّي دعوة للمشاركة فيه مع أكثر من مائة شاعر وشاعرة من دول العالم، بدت ملامح المدينة المتوسطية أكثر وضوحاً. درجات الحرارة والرطوبة هنا أعلى، لكن سكانها كأغلب سكان السواحل أكثر دفئاً ورأفة بالغرباء. على العكس من باريس فزحام المركبات لا نكاد نشعر به، والزوار وأبناء المدينة الذين يفيض عددهم على الخمسين ألفاً يطلقون سيقانهم للمشي، وبما أن المدينة تنتشر فوق منحدرات جبلية تطل على المتوسط، وأعلاها قمة سانت كلير، فإن الناس لا يتوقفون عن صعود شوارعها والتجول في ممراتها القديمة حتى الهزيع الأخير من الليل.

في الليلة الافتتاحية للمهرجان التي احتضنتها الحديقة المركزية للمدينة، وقفت مديرة المهرجان، مايتي فاليس بليد لتتحدث عن الأواصر الأصيلة التي يعقدها الشعر بين الشعوب، وتكرس الأمل في الفن والأدب كخلاص للكائن الإنساني الذي يواجه عصراً عولمياً معقداً. لم يكن هناك مسؤولون، ولا رجال أمن، ولا أناشيد وطنية ولا قصائد تطنب في مديح المناسبة أو رعاتها. لقد أتى الناس لكي يحتفلوا بالشعر والموسيقى وبالغناء مع ضيوفهم الذين أتوا من أطراف العالم. لا فائدة من الخطب الحماسية ولا من تكرار فضائل المدينة المضيفة، ولا من أكداس المديح التي يمكن كيلها للتقاليد الثقافية الفرنسية، لا شيء من ذلك، ولا حاجة له. بعدها اصطففنا (حوالي 40 شاعراً وشاعرة) ليقرأ كل منا قصيدة قصيرة واحدة متبوعة بترجمتها إلى الفرنسية. بين موجة وأخرى من القصائد كان الموسيقيون والحكواتيون الشعبيون والمغنون الذين بدت على أعمالهم مناخات جنوب المتوسط بإيقاعاته وروحه الموسيقية يقدمون فنونهم وبعضهم يرتجل وصلاته الكوميدية.

احتشدت الحديقة بالناس من كل الأعمار، لم تكن الكراسي تكفي لعددهم الكبير فافترشوا الأرض وبعضهم استند إلى جذوع الأشجار، وآخرين تزاحموا على الكراسي القليلة.

بدأت اللقاءات الشعرية منذ اليوم التالي بعد أن قدموا لكل شاعر وشاعرة برنامج مشاركاته اليومية. قبل ذلك قضى كل شاعر وقتاً مناسباً مع مترجمه. كان مترجمنا العربي هو الكاتب اللبناني، أنطوني جوكي، وأعتقد أن ثقافته وخبرته النوعية وحساسيته المزدوجة تجاه اللغتين العربية والفرنسية قد أفضت إلى ترجمة أنيقة تصالحت معها الأذن الفرنسية سريعاً، والحقيقة أن المترجمين الآخرين عن اللغات الأخرى لم يقضوا مع الشعراء الآخرين وقتاً طويلاً، فقد وجدت أغلبهم يقرأون من كتب صدرت بالفرنسية، ما يعني أن قصائدهم ترجمت منذ سنوات وتأهلت للصدور في كتب نشرت بالفرنسية.

الشعر قريباً من الناس
لكنني أريد أن ألقي ضوءاً موسعاً على المكان والطريقة التي تدار بها تلك الفعاليات. أقول هذا لأننا طالما انتقدنا وضقنا بالأسلوب الجامد الذي تدار به مهرجاناتنا الثقافية والأدبية والذي أسفر عن انحدار واضح في عدد الجمهور الذي يحضر تلك الندوات، بل إن عدداً من الأدباء والمحاضرين أصبح متردداً أو متبرماً من مناخ تلك الفعاليات. وقد تمنيت حقاً أن ترسل وزارات الثقافة العربية والمراكز الأدبية مندوبين نابهين يتعرفون إلى القواعد والأساليب التي تنظم بها المهرجانات الدولية ليعودوا بها ويضعونها على محك التطبيق.

… وتحت سقف السماء
على خلاف عاداتنا العربية حيث يجري الشعر والفكر والفن دائماً تحت سقوف صلدة، فقد آثر منظمو مهرجان» سيت» أن يلقي الشعراء قصائدهم ويتحادثون تحت السماوات المفتوحة، والبرنامج ينطلق منذ التاسعة صباحاً ولا يتوقف إلا قبيل الواحدة صباحاً وهو يختتم عادة بالقصائد الرومانسية أو بحفلات غنائية وموسيقية يشارك فيها فنانون مرموقون من الدول المطلة على البحر المتوسط. اختار المنظمون لإقامة الفعاليات مجموعة من الساحات والممرات المفتوحة داخل الأحياء السكنية، ونصبوا فيها سرادق صغيرة تتسع منصتها لخمسة أو ستة أشخاص فيما بسطوا أمامها صفوفاً من الكراسي، ودعوا ضيوف المهرجان، عبر جدول يومي صارم، إلى لقاء الجمهور الشغوف على هذا النحو البسيط والفريد. وعقدت بعض الندوات في باحات المدارس وأمام أماكن العبادة وفي الأماكن الأثرية، وفي الحدائق العامة والخاصة، لكن ما فاجأنا هو أن يلتقي الشاعر بصحبة مترجمه، بخمسة أشخاص على ظهر مركب يمخر عباب إحدى القنوات البحرية للمدينة، أو مع مجموعة تبحر في إحدى السفن الشراعية، وقد تسنى لي أن أرافق هذه الجماعات البحرية أربع مرات، كانت إحداها «فزعة» لشاعر فرنسي تعرض لأزمة صحية مباغتة.

جمهور المراكب والسفن البحرية يدفع مبلغاً يتضمن جولة بحرية ولقاء شعراء، سبق له وأن اختارهم من جدول المهرجان الذي فاضت فعالياته عن 200 صفحة، ولعلها من المرات القليلة التي يدفع فيها مواطن أو سائح لقاء ما يسمعه من قصائد. وعلى العكس من ذلك فجمهور المنتديات الشعرية التي تقام داخل الأزقة والأحياء لا يدفعون شيئاً. يأتون وحداناً وأحياناً مع أزواجهم أو أبنائهم وربما حيواناتهم لسماع أصوات قادمة من جغرافيات بعيدة، لغة وتراثاً وصوراً، لكنهم يأتون، وخلال تلك الملتقيات يصدف أن يفتح أحد سكان الحي نافذته ليستمع، وقد تهبط حمامة أو طائر بحري على الشجرة المجاورة لتطلق غناءها، وقد يفاجأ شاب بأمسية أمام بيته فيضطر إلى الجلوس مع الحضور أو يعبر خجلاً إلى منزله. والمهم ألاَّ واسطة مع هذا الجمهور الذي يتناثر بين ندوة شعرية وأخرى سجالية، فهو يأتي لأن للشعر حيّزاً في مشاعره وثقافته، وربما يأتي لشغفه بأشعار الأمم الأخرى وتلمس غرابة أصواتها ودلالاتها، فلعلها توقظ في ذاكرته ما لا توقظه الموجات الحديثة في الشعر الفرنسي.

لقد عبر بعض مرتادي جلساتنا الشعرية عن متعة الإنصات لشعراء يكتبون بلغات خارج ترددات سمعهم، وناقشونا أحيانا في صلب القصائد ومناخاتها ومجازاتها، بل إن إحداهن تحدثت عن متابعتها الدائمة لما ينشر من أشعار فرنسية لكنها كثيراً ما وجهت انتقاداتها إلى غرق القصيدة الفرنسية في فخ الاستعراض الثقافي مشيرة إلى نخبويتها وأنها لا تكتب للقارئ العام الباحث عن صور وأخيلة أكثر تبسطاً وفطرية وألصق بالحياة اليومية. تذكرت أن هذه الأسئلة نفسها توجه أيضاً إلى أشعارنا الجديدة التي تظهر وكأنها على قطيعة مع الذاكرة الشعرية العربية، ولم أعرف ما إذا كانت هذه المستمعة تمتدح تجاربنا أم إنها تطلق سهامها على كل التجارب الشعرية الجديدة..!

لكن ينبغي الإشارة إلى أن أولئك الذين انتدبوا لقراءة قصائدنا بالفرنسية كانوا مؤهلين للقراءة فأغلبهم طلاب وطالبات يدرسون المسرح وفنون الإلقاء في المعاهد الفرنسية لذا فهم أكثر تأهيلاً لمخاطبة المستمع وتحريك حواسه ومشاعره. هناك أيضاً تجربة أخاذة في العمل التطوعي الاجتماعي، فأغلب العاملين في تنظيم المهرجان هم متطوعون من أبناء وبنات المدينة يعملون بصبر ودأب على تقديم كافة أسباب العون للمشاركين، يرافقونهم إلى الملتقيات المترامية في المدينة داخل الأحياء أو على رؤوس الجبال أو في المراكب البحرية، وبعضهم يقرأ النصوص المترجمة، وآخرين يقودونك إلى المتاحف أو إلى مواقع الحفلات الغنائية والموسيقية، لا يتذمرون من كثرة الأسئلة والطلبات والشكاوى، ويعملون بكفاءة تنافس أولئك الموظفين النظاميين، ويقدمون أجمل الانطباعات عن مدينتهم الحافلة بالشعر والناس والفن.

مدينة الصيادين
توقفت منذ وصلتني دعوة المهرجان عند اسم هذه المدينة «سيت» وتاريخها، فاسمها مغمور وهي بعيدة عن باريس، معقل الأدب والمتاحف والفنون التي لا تكف عن الولادات في جميع الحقول الأدبية والمعرفية، كما أن صداها لم يتردد كثيراً في مدونات الثقافة الفرنسية، فلماذا اختيرت هذه المدينة الصغيرة لهذا التجمع السنوي؟!

أعتقد أن فرنسا تواصل إحياء شواطئها الجنوبية على المتوسط الساحر، هناك بالطبع كان ونيس ومرسيليا ومونبلييه، لكن هناك حاجة إلى مدينة تنطق بثقافات المتوسط حتى أن المهرجان اتخذ شعاراً له هو: «أصوات حية، من متوسط إلى آخر».

إنها مدينة فرنسية صغيرة يقطنها حوالي خمسون ألفاً، تعبرها القنوات المائية من عدة جوانب، وتنتشر بيوتها وشوارعها على سفح جبل سانت كلير. عرفت أدبياً بأنها مسقط رأس الشاعر الفرنسي الكبير بول فاليري وكتب عنها وفيها أجمل قصائده وأشهرها «المقبرة البحرية» التي أعادته إلى الشعر بعد انقطاع استمر اثني عشرة سنة.

اعتبرت مدينة للصيادين، ولا تزال المبارزات البحرية إحدى الرياضات الشهيرة فيها حتى اليوم. في عام 1666م اختارها الملك الفرنسي لويس الرابع عشر لتكون مرسى السفن الملكية وبينها وبين المدينة الإيطالية العريقة» فينيسيا» وجوه شبه كثيرة وخاصة في القنوات المائية التي تنتشر فيها، وقد اعتبرت سيت واحدة من عشر مدن عالمية تتقاطع ملامحها مع فينيسيا الأثيرة. جبل سانت كلير الذي كان ملجأ للقراصنة هو الآن أحد أعلى قمم الجنوب الفرنسي التي يمكن الإطلال منها على سيت بمرفأها الشهير وبالمشاهد المتوسطية الخلابة. إنها أيضاً ميناء تجاري فهي إحدى أكبر موانئ الاستيراد على ساحل المتوسط، وهي مدينة الأسماك بامتياز حيث تقام صالات المزاد بالقرب من صفوف المطاعم التي تقدم أشهى وجبات السمك. أما أشهر معالمها فهي المقبرة البحرية ومتحف بول فاليري ومتحف الشاعر والفنان الفرنسي جورج براسنس، وأولاً وأخيراً شاطئها وقنواتها المائية الهادئة التي تحف بها المراكب والسفن بشتى الأشكال والألوان.

في محطة القطار المغادر إلى باريس التقيت شاعراً فرنسياً مرموقاً انتدب على عجل ليحل محل زميله الفرنسي بيرنارد مازو الذي يعد من الشخصيات المعروفة المكلفة باختيار الشعراء المشاركين لكنه توفي قبيل انعقاد المهرجان. تحادثنا على عجل وبما أن مقاعدنا متباعدة فقد اتفقنا على مواصلة حديثنا حال وصول القطار إلى باريس. حين غادرت مقعدي وانغمرت وسط الزحام بحثت عنه، ولا بد أنه فعل الشيء نفسه، ولكن بدا جليّاً أننا مضينا في طريقين لا يلتقيان.

المشاركون العرب: علاء خالد وغادة نبيل من مصر، وظبية خميس من الإمارات، وأمجد ناصر من الأردن، ومهدي سلمان من البحرين، وسعيد حاذف والطيب لسلوس من الجزائر، وعبد الرحمن طهمازي وصلاح الحمداني وعبد الزهرة زكي من العراق، وصلاح ستيتيه وفينوس خوري – غاتا وغسان علم الدين وشارل شهوان من لبنان، ومحمد بنيس وعبدالله زريقة ورشيدة مدني من المغرب، وعبدالسلام العجيلي وسعاد سالم من ليبيا، وعبد يغوث وفاطمة الشيدي من عمان، ومحمود أبو حشاش وعثمان أبو حسين من فلسطين، وأكرم القطريب من سوريا، وعبدالوهاب مؤدب وطاهر بكري وصالح بن عياد من تونس، وحمد الفقيه ومحمد الدميني من السعودية.

أضف تعليق

التعليقات