قول في مقال

رياضة الأسرة والطفل.. مضمار معطَّل

نشرت «القافلة» في عددها لشهر مايو – يونيو 2012م، مقالاً بعنوان «الألعاب الرياضية بين أسطورتي النبل والسلعة»، استعرض تاريخ الألعاب الرياضية واعتبر أنها تداخلت دائماً ضمن الاحتفالات الاجتماعية والدينية لدى كل الشعوب، لكنها بلغت اليوم محطة تكاد أن تحوِّلها إلى هدف استهلاكي. الكاتب والروائي عبد الحفيظ الشمري، يحوِّل النقاش هنا باتجاه تعميق مفهوم الرياضة في مدارسنا ومجتمعاتنا، ويتحدث عن الدور الذي يمكن أن تلعبه الرياضة كفعل وممارسة في تحسين صحة أفراد أسرنا.

الرياضة المتعلقة بالأسرة والطفل لدينا غالباً ما يقال عنها: إنها مشاريع إنسانية معطَّلة، وطاقات مصابة بالشلل أو الكساح، ومرد هذا التوصيف للحالة أنه ومنذ عقود تنقسم هذه الرياضة على نفسها جرَّاء رأي اجتماعي ملتبس، أو رؤية تمنعية مضطربة السلوك، أو فكرة مختلة التكوين تصرف الجميع عن ممارسة الجملة الأولى لمفهوم الرياضة للجميع، ألا وهي حرية الحركة والعمل البدني والنشاط الرياضي المعد بعناية وبوسائل مناسبة لجميع فئات المجتمع، رجالاً ونساء، كباراً وصغاراً.

ففكرة رياضة الأسرة والطفل تعلو قليلاً في بعض الأحيان على هيئة مطالب ملحة تنادي بتفعيل دور الرياضة لهذه الفئة ولا تلبث في أحايين كثيرة إلا وتختفي في ظل زفير المحظور وصهيل الممنوع وما اختلط من رؤى وتكهنات مضمرة ومعلنة حول معنى الرياضة.. أهو من قبيل لعب كرة القدم؟! أم اللهو؟، أو تراه من أسباب هدر الوقت، أو من حالات تبرج أو ظن بسفور، أو اعتقاد بخدش للحياء؟!

فيما يقف على الطرف الآخر من هذه المعادلة وهم القلة من يرى أن الرياضة فرصة ضرورية للبقاء أصحاء بين الناس، ليطالبوا على الدوام بأن يهب الناس بكافة فئاتهم وأعمارهم إلى تفعيل دور الرياضة في الحياة العامة من أجل أن يحمي الجميع أجسامهم من علل وأمراض محتملة، تبدأ بالسمنة وتنتهي باستجلاب أمراض مستوطنة لا شفاء منها بأي حال من الأحوال.
إذاً مفهوم الرياضة لدينا ملتبس ومعناه غير واضح، لعدة أسباب نحسب أنها موضوعية وتصب في خانة البحث عن إجابات مقنعة لهذه الأسئلة التي لا تكل أو تمل من التردد على أفواه الناس حول ما يرى أنها عديمة الجدوى، لا سيما أنها أصبحت الآن حالة من المتابعة والفرجة والتسمر أمام الشاشات التلفزيونية لمشاهدات حفلات الافتتاح والبدايات البراقة والنهائيات الملتهبة وما إلا ذلك من متابعة بصرية فقط.

وهناك سبب آخر لا بد من ذكره يتمثل في أن هناك من يشير إلى أن معضلة الرياضة هذه الأيام تكمن في تقديمها للمجتمع بوصفها شأناً استهلاكياً، أو ترويجياً فجاً لمستورد من خارج الحدود.. فلم تنبع هذه الرياضة -برأي هؤلاء- من عمق المجتمع كحركة وعي، أو توجه سليم يعي أهمية التدريب ويستشرف مضامين الرياضة بوصفها عملاً تفاعلياً للجميع يبدأ من رياضة تحريك الجسم وبذل طاقة وجهد تسهم في خلق روح جديدة للإنسان وينتهي بوضع ثوابت وقيم سليمة للرياضة تسهم في غرس معانيها المثالية في ذهن الجيل الجديد من الأطفال الذين ينظر إليهم بوصفهم اللبنات الأولى في بناء الصحة العامة للأسرة والمجتمع.

فمن المواقف الطريفة حول الرياضة البدنية وعلاقتها الملتبسة في رسالة التعليم لا سيما في الريف لدينا، أن الأطفال أو الطلاب في الصفوف الدنيا يُعرِّفُون الكُرة بأنها «البدنية» كأن يقول البعض منهم للمعلم: «يا أستاذ.. البدنية انفجرت، أو سُطحت في الجوار»، وحينما تفتش عن سر هذا الاستخدام لملفوظ البدنية الذي يطلق على كرة القدم تكتشف ودون عناء أن المادة في الجدول المدرسي اليومي تُعرَّف أو تُكتب بعبارة: «تربية بدنية» وهم لا يرون في هذه المادة غير الكُرة، فجاء الارتباط الذهني بمفهوم ما يمارسه، بأن التربية البدنية هي الكُرة، ليأخذ اسم هذه اللعبة وأداتها «كرة» ملفوظة في المنهج محرفاً ولا ينم عن واقعه.
فنحن إذاً بحاجة إن كان الأمر ولا بد -كما يقال- إلى منهجين للتربية الرياضية، واحد ثابت ومألوف هو حصة كرة القدم، وأخرى هي حصة التربية البدنية، وذلك للخروج برؤية تربوية رياضية سليمة تنقذ هذا الجيل الجديد من مشكلات السمنة المفرطة والجهل بقواعد الرياضة المدرسية التي تبدو هذه الأيام وكأنها مكرَّسة على الدوام لهذا النوع من الأداء الرياضي الذي يغلب عليه طابع هجمة ما لتسطيح مفاهيم وقيم العطاء الرياضي المثالي.

أما إن أردنا أن نقيل الرياضة المدرسية من عثارها في هذه التجربة فيجب أن نفكر بعمق في أسباب الرياضة ومضامينها وأهدافها الرئيسة في التربية والسلوك الذي يمكن لنا أن نحققه للجميع دون تفريق أو تفضيل.

فلا ينبغي أن تقتصر الرياضة المدرسية وعلى مدى عقود تناهز الخمسة على المرحلة التعليمية لفئة البنين وحسب، بل من الأجدى أن تشمل هذه الرياضة مدارس البنات، بل وتتعداها نحو الأسرة والمجتمع من أجل تشجيع الرياضة باكراً عند الأطفال.

ومن الأهمية بمكان أن تسن أنظمة جديدة ترعى الرياضة وتوازن بين فئات المجتمع في مطالبها الجادة، وأن يكون محور هذه الأنظمة رعاية رياضة الطفل والأسرة من أجل أن تصبح حالة ضرورة في حياتنا يمكن للجميع من خلالها أن يؤدوا دورهم المأمول في خدمة مجتمعهم وبلادهم، وقبل هذا صيانة صحتهم وأجسامهم من الترهل والعجز وتكوّن الدهون.

فلا نبالغ إن قلنا إنه للأسف قد تم استيراد الرياضة كسلعة، حينما حشرت في خانة أو فكرة الزيّ القديم الذي كان يفرض في المدارس، حيث جاء في بدايات التعليم النظامي قبل عقود بهيئة ربما لم تشفع للرياضة أن تستمر فقد كان زياً لا يلبس إلا من أجل التخلص من هذه الحصة الثقيلة في المدرسة، وحينما تحوَّلت إلى مجرد تسلية في كرة القدم انطلقت إلى حد ما لتتحرر الفكرة من إسارها وتكون مشاعة، لكنها للأسف انحرفت إلى ما يشبه الوجبة الكروية -كما أسلفنا- دون وجود للرياضة بمفهومها الواسع.

من هنا يمكن لنا أن نقول إن الرياضة المدرسية تجربة غير موفَّقة، لأنها لم تضع رياضة الطفل أو الشاب بفئتيه الذكور والإناث في مكانها الصحيح، وربما ما ضاعف الأمر وجعله أكثر اجتزاءً واغتراباً هو تجاهل فئة الإناث عن تفعيل دور الرياضة لهن مما أسهم في بناء هذه الفكرة المزدوجة.

فقد ألِفَ الجميع -خطلاً- أن ينصح الصغار بأن يتدرَّبوا ويمارسوا الرياضة، ويخلعوا ملابس البساطة، ويرتدوا ملابس التدريب وأحذيته فيما لا يحرك ساكناً في أمر تدريس الطالبات، مما يجعل الأمر في خانة واضحة من الازدواجية والتمترس خلف رؤى حادة لا تقبل الجدل حتى في مفهوم الرياضة للجميع. فكيف يتسنى لنا أن نشجع أبناءنا الطلاب الذكور على الرياضة والانضباط التدريبي وإحضار مستلزمات وأدوات الرياضة ولا نقرّه لبناتنا وهما كائنان صغيران بحاجة إلى رياضة وتدريب.

نحن إذن في معضلة اكتمال مفهوم الرياضة للجميع، إذ لا يمكن لنا أن نقول عنها إنها بنية مفاهيمية واحدة، تسعى إلى إشراك الجميع دون تمييز أو إقصاء، إلا أن ما تنشره، أو تبثه هذه المقاربات هو من قبيل الإشارة القوية إلى أن هناك من يزعم أن هذه الرياضة ذكورية، نظراً لتكوينها التاريخي حينما يستدل البعض على أن الكثير من رياضات الإغريق أو الرومان على سبيل المثال طابعها رجولي مما يؤصل فكرة تنحية المثال الجمعي لفعاليات المجتمع على حد سواء، حتى وإن كانت تظهر اللعبة الجماعية في الكثير من أنشطتها.

أمر آخر ربما يحقق للرياضة الأسرية والاجتماعية بعض ما تريد وهو قيام مشروع وطني متكامل وواسع الصلاحيات ومتوافر في جوانب الصرف المالي، وأن تقوم على إدارته فرق مميزة في مجال إدارة العمل الرياضي الجماعي إضافة إلى استقطاب من سبق الاحتراف والحضور الرياضي الفاعل والأداء التميز في مجال التربية الرياضة من مدربين ورياضيين ولاعبي كرة سابقين لكي يستفاد منهم، وهم بالمناسبة كثر وينتظرون دورهم في خدمة المشروع الرياضي المتكامل خدمة للأسرة والمجتمع.

كما أن العمل على إنشاء مقرات رياضية جديدة على أحدث طراز لا شك أنه سيخلق نقلة نوعية للمجال الرياضي الذي تتطلبه المرحلة مع العمل على إعادة تأهيل المرافق التعليمية وتجهيز المدارس والمعاهد والصالات الرياضية، لتسهم في بناء منظومة رياضية بات المجتمع في أمس الحاجة إليها بعد أن ثبت أن قلة الرياضة وممارسة الحركة والجري هي السبب في تكاثر الأمراض ناهيك أن قلة المرافق وافتقارها للأدوات الرياضية هي السبب المباشر في تفاقم القطيعة بين المجتمع وأداء الرياضة. فالمدارس ستكون نواة مهمة للحركة الرياضية وخروجاً من نمطية فكرة التعليم وساعات العمل وإقفال المرافق، مما يعزز الشعور بالقطيعة فلو تم تفعيل دور المدرسة في الجانب الرياضي والمعرفي على نحو المسرح والحفلات والترفيه ستكون لها بلا شك أبعاد إيجابية تبني العلاقة الصحيحة بين الأسرة والعمل التعليمي.

في النهاية لا بد لنا -إن أردنا جميعاً تطوير العمل الرياضي الجماعي- وكخطوة أولى هو أن نسعى بصراحة ووضوح إلى إيقاف كل المحاولات الحالية في مجال ما يعرف بالرياضة الجماعية الحالية، أو النشاط الرياضي الأسري إن وجد .. فهو عمل يبدو من تكوينه ووجوده الهش أنه لا يستحق الذكر نظراً لأنه قام على أسس هشة ونظرة مجتزئة.

ولكي نكسب ود الرياضة وفعالياتها الضرورية والترفيهية فإنه يجدر بنا أن نعالج هذا الخلل الاجتماعي الذي ذكرناه سلفاً.. ذلك الذي تم بناؤه على أسس مغلوطة، ويمارس برؤية مضطربة، فالتحول الحياتي المتسارع من حولنا يتطلب منا إيجاد علاج مناسب يقرِّب المسافة بيننا وبين مفاهيم الرياضة التي يعيشها الجميع على وجه الأرض.

أضف تعليق

التعليقات