ديوان اليوم

عام على رحيل شيخ الصحافة السعودية
عبد الكريم الجهيمان: 

مشعل التنوير وسادن الأساطير

  • 603617_187629-gray
  • book-cover-british-official-red-cover
  • Editor Abdul Karim Juhaiman Examines A Proof Copy Of Dhahran News While Printers George Abu Diwan (Left) And Abd Allah Alwani Make Adjustments For Final Press Run. Dammam, August 1955.
  • Newspapers 2
  • portrait1
  • THE WRITER
  • 56-gray
  • 65-
  • 603474_187564-gray

بعد عام على رحيله، ما زال عبدالكريم بن عبدالعزيز الجهيمان «أبو سهيل»، يمثل علامة فارقة في الحياة السعودية. فقد كان رائداً حقيقياً من رواد الصحافة، وعموداً من أعمدة الكلمة، في الوقت الذي يقف فيه سادناً للأساطير وحافظاً للتراث، وحاملاً لشعلة التنوير، ومدافعاً عن حرية التعبير.
في هذا المقال، يتناول الباحث عبدالله العبدالمحسن، جوانب من حياة الجهيمان، ودوره في حمل رسالة التنوير، حيث تزامنت بداياته الصحافية مع مشروع الدولة الحديثة. فتبنى المهمات الأساسية المطروحة أمام الوطن. وحمل هموماً تدور في معظمها نحو تحديث المجتمع ونهضة الوطن.

طولاً وعرضاً..
وُلد عبد الكريم الجهيمان في بلدة غسلة، ونشأ في القرائن، وهما بلدتان متجاورتان قريبتان من «شقراء» وسط المملكة، التي تبعد نحو 200 كيلومتر عن العاصمة الرياض. وكانت ولادته في عام 1912م، (1332هـ). وانفصل والده عن والدته وهو لا يزال صغيراً، فعاش منتقلاً بين القريتين، وقد عانى من هذا الافتراق، فلم يحظَ بعطف الأمومة كاملاً، ولا عطف الأبوة كاملاً، مثلما عبر في مذكراته. خاصة بعد أن تزوجت أمه، فأُوكلت جدته برعايته، ومع أن هذه الحياة كانت تبدو بائسة، إلا أن الجهيمان يعبر عنها على نحو مختلف؛ حيث يقول في مذكراته: «إنني عشتها طولاً وعرضاً. وتمتعت بأنواع من الحرية والانطلاق، كما سعدت بلقاء العجائز، لا سيما جدتي». وكان عمره 5 سنوات حين اجتاح نجد وباء الكوليرا، فأوقع فيها القتل والتنكيل والتشريد، وسميت السنة التي تساقط فيها الناس قتلى بفعل الوباء «سنة الرحمة».

العلم نور
في سن السادسة، عاد الجهيمان لحضن أمه بعد وفاة زوجها. وهي التي أدخلته إلى الكُتاب، لتعلم القراءة والكتابة، وبهذا الإجراء رسمت الأم دون أن تدري درب رائدٍ من رواد التعليم والثقافة.

بعد أن أنهى دراسته في الكُتاب متعلماً فك طلاسم الحروف، قراءة وكتابة، توجه إلى الرياض وعمره 13 سنة. وهناك بدأ الدراسة لدى مشايخ المساجد، فدرس النحو، وعلم الفرائض، وعلم الفقه على يد الشيخ محمد ابن إبراهيم، واستمر هناك لمدة سنة واحدة، وفي العام التالي، 1926م، غادر إلى مكة المكرمة طالبا للعلم، فسكن مع الطلبة في قلعة أجياد، وراح يتلقى العلم في حلقات المسجد الحرام. وهناك التحق بسلاح الهجانة لمدة عام، ثم انتقل للدراسة في المعهد العلمي، ودرس فيه 3 سنوات، وتخرج من المعهد عام 1351هـ، وبهذا يكون تخرجه في المعهد العلمي في مكة المكرمة في السنة نفسها التي وحدّ فيها الملك عبد العزيز أرجاء البلاد.

التعليم.. أول مشوار التنوير
بالنسبة لعبد الكريم الجهيمان، فقد كان التعليم رسالة تنويرية بامتياز، راح يؤديها من أجل نهضة بلاد تشق طريقها نحو التقدم. وفي مراحل لاحقة من حياته، راح يعبر عن قيمة العلم والتعليم في بناء الأمم ونهضتها وتطورها. يمكن ملاحظة ذلك، حسبما يشير الناقد السعودي الدكتور معجب الزهراني، في دراسة عن سيرة الجهيمان، من خلال كتابه «إلى باريس»، الذي ألفه في فترة لاحقة. فمما توقف الجهيمان عنده بإعجاب في رحلة باريس كان انتشار التعليم بين الفرنسيين. الذي رآه الدليل الأقوى على بلوغهم ذروة التقدم الحضاري.

بداية مشواره في التدريس كان في عام 1353هـ بمكة المكرمة، حيث عمل مدرساً بمدرسة المعلى، ثم الفيصلية، ثم انتقل لمدرسة البعثات والمعهد السعودي. ولم يقتصر نشاطه على التدريس، بل انكب على تأليف المقررات المدرسية في الفقه والحديث والمطالعة والتهذيب والتوحيد منفرداً، ومشاركا مع الآخرين كالأستاذ عبد الله عبد الجبار.

وبسبب صرامته في التدريس، نُقل إلى الدوادمي. وفي عام 1930م انتدب لإنشاء المدرسة الأولى في بلدة الخرج، بعدها بسنة واحدة انتقل للرياض لتدريس أبناء الملك سعود، ثم تولى تدريس أبناء الأمير عبد الله بن عبد الرحمن.

وتواصل مع التعليم أيضاً من خلال عمله مفتشاً في وزارة المعارف. وحمل هذا الهاجس حتى بعد تحوله إلى الصحافة، وتفرغه للعمل الصحافي. وتأتي عنايته بكتاب الطفل امتداداً لاهتمامه بالتعليم. فهو أول من عني بهذا الفن من جيل الرواد، حيث أسس «مكتبة الطفل في الجزيرة العربية» وأصدر عشر قصص للطفل. وتلتها «مكتبة أشبال العرب»، كما أصدر عشر قصص مماثلة.

كما تجسد اهتمامه بالتعليم من خلال تبرعاته السخية، فقد ذكر الدكتور حمود البدر أن عبد الكريم الجهيمان قدم له عندما كان البدر وكيلاً لجامعة الملك سعود مبلغ 200 ألف ريال لمساعدة الطلبة الذين تعوقهم أحوالهم المادية عن مواصلة دراستهم، وطلب منه تلمس حاجة الطلبة المعوزين لمساعدتهم. كما قدم مبلغ 300 ألف ريال لمركز الأبحاث بالجامعة.

سمح اليد سلفاً وتلفاً
وبمناسبة الحديث عن عطائه، فقد قدّم 200 ألف ريال لجمعية أصدقاء المرضى، و300 ألف لجمعية الأطفال المعوقين. ويذكر الكاتب المعروف محمد عبد الرزاق القشعمي في هذا الصدد أن للجهيمان مشاركات في أعمال الخير، منها مشاركته بمليون ريال في تأسيس «مركز المسنين» قبل أن يتحول لمركز الأمير سلمان الاجتماعي. وتبرعه السخي بمليون ونصف المليون ريال لبناء مدرسة ابتدائية ومتوسطة في السهباء بالخرج، والتي افتتحها محافظ الخرج الأمير عبد الرحمن بن ناصر بن عبد العزيز، بحضور وزير التربية والتعليم آنذاك الدكتور محمد الرشيد. وسميت المدرسة باسم الجهيمان.

في محراب الصحافة
على الرغم من أن الجهيمان عرف في بداية حياته معلماً، فإنه سرعان ما سلك درب الكتابة والنشر، في وقت لم يكن للصحافة السعودية وجود مؤسس، بل كانت التجارب الكتابية عبارة عن أنشطة للأدباء لنشر إنتاجهم الأدبي والشعري، فكانت الصحافة ملحقاً أدبياً، على الرغم من محدوديته.

وقد بدأت الصحافة في المملكة صحافة أفراد. وأبرز ما اتسمت به الصحافة في بواكيرها الانشغال بهموم الإصلاح والتغيير والتحديث. لم يعنها كثيراً إنتاج المعلومات وبثها للترفيه. وقد وجد الجهيمان في الصحافة الوسيلة الأسرع لنشر أفكار التنوير، وتشخيص مشكلات الوطن والمواطن من أجل معالجتها.

وقد تزامنت بداياته الصحافية مع مشروع الدولة الحديثة. فتبنى الجهيمان المهمات الأساسية المطروحة أمام الوطن، فغدت محور كتاباته الصحافية، ولا غرابة أن تتماس تطلعات الدولة الوليدة في الاستقرار والأمن والتعليم والنهضة، مع تطلعات الفتى اليافع الذي تسلح بالعلم البسيط المتاح في وطنه آنذاك. وأثرى حصيلة تعليمه بما توافر لتثقيف الذات. مما مكنه من امتلاك رؤية متقدمة على عصره. أعانته على تحديد أهداف طموحة وعريضة للنهوض بالمجتمع. لم يكتف بتحديدها، بل ألح على تحقيقها.

لكن الجهيمان لم يكن فاتراً على الإطلاق، فقد كان ينتقد بحدة ما يشخصه ببصيرته الثاقبة من جوانب القصور في المجتمع. متحملاً في سبيله التبعات بإيمان راسخ. ويطالب بما يراه ضرورياً للنهوض بالمجتمع حتى وإن كان ما يطالب به سابقاً لأوانه في نظر المسؤولين والمجتمع. وكان يرى أن التعليم بمختلف فنونه ومراحله بوابة التغيير والتطوير والإصلاح. ولم يغفل الشؤون الأخرى؛ فطالب بتوفير الرعاية الصحية، وتحديث الخدمات الطبية. وشدد في المطالبة بتطوير موارد الثروة الوطنية. وحمايتها من جشع الشركات الأجنبية.

ولأن التعليم يتصدر اهتماماته لم يتردد أن يطلق دعوته الجسورة لتعليم المرأة. وكانت دعوته هذه مستفزة لمجتمع محافظ يعارض أفراد منه تعليم الأولاد فضلاً عن تعليم البنات.

وعاود الجهيمان الكتابة في صحيفة «اليمامة» مع صديقه حمد الجاسر فكتب مقالات تحت عنوان «أين الطريق؟»، وخلال غياب الجاسر كان يتولى مسؤولية إدارتها. كما كتب بصحيفة «القصيم» عند صدور العدد الأول تحت عنوان «مع الزمن» في الصفحة الأولى، و«المعتدل والمائل» في الصفحة الأخيرة، وطرح في ذلك العمود أهم القضايا الاجتماعية والاقتصادية. وكان جريئاً في المطالبة بالاهتمام بشؤون البادية. كما طالب بإنشاء وزارة تعنى بالشؤون الاجتماعية. ودعا – ولأول مرة – لقيام جمعيات وطنية في المناطق لمساعدة الفلاح في الإنتاج وتصريف إنتاجه. كما طلب من وزير التجارة وضع تعاليم وقوانين لحماية التاجر من الكساد. والمستهلك من الاستغلال.

وتجاوز في كتاباته الهموم المحلية إلى هموم الأمة؛ حيث فضح الأطماع الاستعمارية في المنطقة. والأحلاف المشبوهة كحلف بغداد، والمؤامرة الصهيونية. وهاجم بشدة معاهدة «سايكس بيكو» التي استهدفت تقسيم الوطن العربي.

وقد ترك الأستاذ عبد الكريم الجهيمان بصماته الواضحة على الصحافة المحلية ليس بنهج الكلمة الصادقة الشجاعة والمسؤولة فقط، بل ومن خلال دعوته لحرية الصحافة، لتتمكن من أداء دورها المسؤول. وسعيه الحثيث لجعلها منبراً مسموعاً للتصحيح والتوجيه. وهذا ما تبرزه بوضوح كتبه التي جمع فيها مقالاته وكتاباته الصحافية. مثل كتاب «دخان ولهب»، الذي ضم مقالاته المنشورة في صحيفة «أخبار الظهران». وكتاب «أين الطريق؟» المكرس لما نشره في صحيفة «اليمامة». وكتابه «آراء فرد من الشعب» الذي ضم ما نشره في صحيفة «القصيم». وختم هذه الكتب بكتاب «أحداث وأحاديث»، وهو آخر كتاب في سلسلة مقالاته الصحافية وصدر عام 1407هـ مشتملاً على ما نشره من مقالات في الصحف المحلية.

وقد وصف الكاتب عابد خزندار هذه الكتب بأنها: «شهادة حق على عصره». ووصف الأديب عبد الفتاح أبو مدين الجهيمان الصحفي بأنه: «شجاع وصادق وصريح.. لا يتملق ولا يتدانى.. يقول كلماته وهو يريد الخير لأهله ووطنه». أما الكاتب الراحل فهد العريفي، فوصف الجهيمان بأنه: «مدرسة كنا من بين طلبتها».

دورة مع الشمس
كان الجهيمان محباً للأسفار، ليس للمتعة فقط، وإنما للوقوف على المنجز الحضاري، وللتزود بالمعرفة والخبرة. وهذا ما نلمسه من انطباعاته حول المدن والناس، المحملة بدلالات قوية تحيل بوضوح إلى ما عرفناه من همومه التي عبّر عنها في كتاباته الصحافية، التي تدور في معظمها نحو تحديث المجتمع ونهضة الوطن. فأكثر ما تدهشه في تلك البلدان المنجزات العلمية والثقافية والعمرانية، والسلوك الحضاري كاحترام الأنظمة والقوانين.

زار معظم البلدان العربية، ودول الخليج، ودول المغرب العربي، حيث انطلق بسيارة من القاهرة حتى طنجة ماراً بليبيا وتونس والجزائر.

وقام برحلة لأوروبا، زار فيها فرنسا وبلجيكا وهولندا وسويسرا وإيطاليا. وقد تركت باريس في نفسه انطباعاً خاصاً عبّر عنه في كتاب أصدره بعنوان: «من ذكريات باريس»، يقول عنها الناقد الدكتور معجب الزهراني، إن الكتاب هو «أول كتابة في أدبنا المحلي تنبثق عن اتصال وتفاعل مع باريس فضاء وبشراً وثقافة».

تضمن هذا الكتاب إعجابه بباريس وبأهلها وشوارعها النظيفة وساحاتها الكثيرة والآثار والحدائق والمقاهي والمتاحف. وأكثر ما يلفت انتباهه انتشار التعليم الذي رآه دليلاً على الرقي.

وقام برحلة أخرى سجل تفاصيلها في كتابه الثاني «دورة مع الشمس» انطلق من الرياض إلى أمريكا ماراً بلندن. وزار عدة ولايات في أمريكا. كما زار جزر الهاواي واليابان والصين وهونج كونج. وانتهي بالبحرين. مسجلا انطباعاته في كتاب يُعد من أبرز كتب الرحلات في المكتبة المحلية.

رائد بين رواد
ينتمي الجهيمان لجيل الرواد الذين استشرفوا المستقبل بشفافية نادرة ونظرة ثاقبة سابقين عصرهم. جمعتهم وقربت بينهم هموم التنوير والتحديث والإصلاح. فلا غرابة أن تتسم علاقة الجهيمان بمعاصريه بالود والاحترام والتعاون البناء.

عاصر الجهيمان جيل الرواد الأوائل أمثال: عبدالله العبدالجبار، وأحمد العربي حيث عمل معهما في تحضير البعثات. كما تزامل في درب الصحافة والكتابة مع حمد الجاسر في «اليمامة»، وعبد الله بن خميس في جريدة «الجزيرة».

وكان الجهيمان منصفاً وموضوعياً ومتجاوزاً لذاته، فهو يثمن دور مجايليه حتى وإن اختلف معهم في الرأي. وخير شاهد على مثل هذه المواقف علاقته بحسين سرحان التي اتصفت في مراحل منها بالمتوترة والمتشنجة، فقد نشب بينهما سجال حاد لم يوقفه إلا تدخل مسؤول كبير، لكن الجيهمان يصف تلك المعركة، بمصارعة بين شابين يريد كل منهما أن ينتصر. وقد تعانق الخصمان عندما تقابلا في بيروت، واجتمعا عدة مرات، كما أن سرحان سكن في شقة الجهيمان. ويقول حسين سرحان عن الجهيمان: «إنه من الرعيل الأول من أدباء بلادنا. فهو يجيد الشعر وفن النثر وقلة من الأدباء من تجتمع فيه هاتان الملكتان. وأنه يتمتع بروح مرحة. لطيفة المعشر.. مليئة بالكرم والتسامح وحب الخير».

أما علاقته بحمد الجاسر فقد امتدت زماناً طويلاً. منذ زمالتهما في المعهد السعودي، مروراً بالتدريس، والعمل في الصحافة، والرفقة في الأسفار. وكانت هذه العلاقة قوية تجاوز عمرها خمسة وسبعين عاما.

سادن الأساطير
تتجسد مأثرة الجهيمان الكبرى في الالتفات إلى الموروث الشعبي المهدد بالنسيان، والذي جمعه من أفواه الناس، من حكايات الجدات ومجالس السمر. وهذا يوضح حجم الجهد الذي بذله إذا أخذنا في الحسبان زمن وظروف الجمع، حيث الأمية الضاربة، وانعدام وسائل التواصل والاتصال الحديثة. لذا لا غرابة أن ينفق من العمر ما يقارب أربعين عاماً في حفظ ذلك التراث.

أما الدافع وراء تجشمه منفرداً ذلك العناء الكبير لجمع خمسة مجلدات من الحكايات، وعشرة مجلدات من الأمثال، فيظهر في قوله: «كان هدفي من جمع التراث الشعبي وتوثيقه خوفي من ضياع هذه الثروة العظيمة التي خلفها لنا الأجداد، والتي لو أهملت لذهبت أدراج الرياح».

إن جمع الموروث لم يحمه من الضياع فقط، بل وساعد على انتشاره. وقد اختيرت منها مجموعة وترجمت إلى اللغة الروسية، وصدرت في موسكو تحت عنوان «حكايات عربية عام 1999م»، قام بترجمتها د. شاه رستم شاه موساروف.

كما أن قناعته الواعية بقيمة الموروث الشعبي التاريخية، ورؤيته الموضوعية تكشف لنا سر اهتمامه بين معاصريه من الرواد بهذا الموروث، وبذله الوقت والجهد لجمعه وتنقيحه، وإنفاقه السخي لنشره. تلتقي قناعته تلك، ورؤيته المتقدمة بنظرة كبار العلماء والمختصين في الدراسات الفولكلورية، بل وتتطابق. فالجهيمان يرى أن هذا الموروث: «أصدق من التاريخ المكتوب، وأدق في رسم الحياة الاجتماعية، وأقدر على تكوين صورة وافية، فلن نجد أدق وأصدق من الأمثال، التي هي زبدة تجارب تلك المجتمعات، ولا أقرب إلى الصدق من الأساطير، التي هي فضاء خياله الرحب وأفق تطلعاته».

وعبّر عن هذه الرؤية مرة أخرى بقوله: «لست أعدو الحقيقة إذا قلت إن هذه الأمثال والأساطير هي التي تمثل التاريخ الصحيح لحالة البلاد الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. أما كتب التاريخ فأكثرها لا تخلو من الأهواء التي تطمس الحقيقة».

لم يزدرِ الجهيمان الأدب الشعبي مثل الكثير من جيل الريادة، ولم يره مثلهم خطراً على اللغة الفصحى، بل على العكس كان مدركاً لأهميته التاريخية التي أشار إليها الدكتور طه حسين في كتابه «الحياة الأدبية في جزيرة العرب»، بالقول: «هذا الأدب الشعبي، وإن فسدت لغته، حيٌّ قوي له قيمته الممتازة، من حيث إنه مرآة صالحة لحياة منتجيه».

لقد تمتع الجهيمان بذاكرة قوية مدهشة احتفظ بها حتى السنوات الأخيرة من عمره الطويل الذي جاوز المئة. فالذاكرة هي أداة الراوي المهمة والأساس.

ثقافة الراوي
لا تكفي الطاقة الإبداعية أن تحول ما يحتشد في الذاكرة من أحداث ووقائع ومواقف وأفكار إلى حكاية، إلا إذا ساندتها المقدرة والذائقة الفنية التي تستشعر قيمة الحكاية الفنية والموضوعية، أما الطاقة الإبداعية للراوي فهي مقدرته على التصرف في العناصر المكونة للأثر المنقول. وكذلك إثرائه للنص المروي حتى يغدو حكاية قادرة على التأثير. وتظهر من خلال الحذف والإضافة دون الإخلال بالنص وإلحاق الضرر به، خاصة إذا اضطرته مراعاة الواقع أو المسؤولية الأخلاقية، أو الاجتماعية للانتقاء، حيث تعمل عمل الرقيب فيقوم بتعديلاته، وهو محافظ على العناصر الأساسية التي تكون الحكاية.

إذا كان بين رواة الموروث الشعبي راوٍ ملتزم يراعي «الحق الذاتي» للحكاية. يروي النص كلمة كلمة، وراو لا يكتفي بالنص الأصل. فإن الجهيمان جمع الاثنين. نراه أميناً على النص يرويه، كما سمعه تارة. وأخرى يصوغه بأسلوبه الخاص، كما ينوه مستهلا حكاياته.

وحين نتحدث عن الراوي ينبغي ألا نغفل عاملاً مهماً يتعلق به. وهو ثقافة الراوي. فهي على درجة من الأهمية لإدراك مختلف الجوانب والأبعاد التي تحملها الحكاية. ومدى مراعاتها للواقع مما يشكل تحدياً للراوي: هل تلقى قبولاً أم تقابل بالرفض؟.

وإذا لاحظنا أن التعليم الذي تلقاه الجهيمان كان متواضعاً جدا، إذا قسناه بمعايير يومنا، فإنه استطاع بالتثقيف الذاتي والاطلاع الدؤوب أن يثريه. ويرقى به إلى مستوى ذوي الاختصاص.

فمهمة الجهيمان كراوٍ لم تكن سهلة، إذا أخذنا في الحسبان طبيعة مصادره، وهي سمعية، في مجالس السمر، ومن أفواه الناس: كالجدات والوالدين والأصدقاء. وهم كما نرى مثقلين بالأمية، فلا شك أن ما يروونه يعاني جوانب من الضعف. وقد تكون لهذا الجانب ايجابيته إذ تصله الحكاية في أفضل حالاتها نقاء وعفوية وأقرب إلى الأصل، ولكن قد لا تصله كاملة، بل في بعض الأحيان تصل على شكل ماتيفات وأشلاء. وأخرى تعاني من فقد ونقص في التفاصيل. والتفاصيل هي الشبكة التي تصطاد حقائق الواقع، كما يقال. فيقوم الجيمان بإكمال الحكايات الناقصة بما يتناسب مع سياقها وما يتلاءم مع أجوائها.

أما وجهة نظره الواعية الأخرى التي تضعه في صفوف المدرسة الأوسع للدراسات الفولكلورية، فوردت في سياق تعقيبه على ملاحظات مهمة أبدتها الدكتورة سعاد المانع حول كتابه «الأمثال الشعبية في قلب جزيرة العرب». فقد لاحظت الدكتورة المانع أن بين أمثال الكتاب أمثالٌ مأخوذة من بيئات عربية مجاورة، وأخرى ذات صيغة فصحى. وملاحظة أخرى حول شرحه لبعض الأمثال أنه أسقط عليها أفكاره وآراءه الاجتماعية. فجاء في تعقيب الجهيمان: «أن الأمثال تنشأ عن ظروف اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية. وظروف العالم العربي تتشابه، ولهذا قد يكون المثل الذي لدينا يُقال في مصر والشام والعراق، وكل بلد عربي ينطقه بأسلوبه ولهجته، وليس معنى ذلك أنهم استوردوا المثل منا، أو أننا استوردنا المثل منهم، بل منشؤه تشابه الظروف وتشابه المشاكل».

الجهيمان شاعراً..
من أعمال الجهيمان النثرية؛ سيرته الذاتية بقلمه والتي حملت عنوان: «مذكرات .. وذكريات من حياتي»، وهناك تجدر الإشارة لدور الأستاذ ناصر الحميدي الذي شجعه بإلحاح على كتابة سيرته.

أخيرا لابد من الإشارة إلى ديوانه الوحيد «خفقات قلب». الذي جمع فيه إنتاجه الشعري المتواضع. حيث تلتقي لغة شعره بلغة نثره على قنطرة البساطة والوضوح. وهو في شعره رومانسي في التجائه إلى الماضي مصوراَ بحنين جارف براءة الطفولة وبساطة ودعة الريف والقرية والحبيبة. وهو رومانسي أيضا في جنوحه وتوقه اللامحدود لواقع جميل تسوده القيم الإنسانية النبيلة.

الكلمة لا تغفو
يذكر أن الجهيمان حظي بتكريم من خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز حينما كان ولياً للعهد عام 1421هـ، وذلك ضمن المهرجان الوطني للتراث والثقافة (الجنادرية).

في 2 ديسمبر «كانون الأول» 2011م، الموافق 7 محرم 1433هـ، وعن 102 عاماً رحل في أحد مستشفيات العاصمة الرياض، شيخ الصحافة السعودية، وأحد رواد الفكر والأدب السعودي، صاحب الكلمة الجريئة والصادقة والحالمة، حامل راية التنوير والتحديث والإصلاح، وسادن الأساطير وجامع الموروث، عبد الكريم الجهيمان. بعد أن أدى دوره كاملاً، على حد تعبير الدكتور منصور الحازمي. رحل تاركاً بصماته الواضحة على جوانب حياتنا الثقافية.

أضف تعليق

التعليقات