حياتنا اليوم

قبل أن يجيء الصبح

لن يستمتع الإنسان بقراءة جريدة رقمية على جهاز، بقدر ما يستمتع بقراءة صحيفة ورقية يحملها بين يديه، إلا يوم يكون قد تحوّل كائناً رقمياً بشكل أو بآخر. وربما هو في طريقه لذلك دون أن يدرك. فحينئذ فقط سيكون بمقدوره الإحاطة بكيان النشرة الصحافية كاملاً، وعلى التحكم بها وتقليبها تماماً مثل ما يفعل الآن بالصحيفة، مشبعاً شغفه في الغور في ثنايا الخبر أو إيقاعات الرأي. فهناك فارق حسي أو لمسي بين الاثنين: الورقة الكبيرة المطبوعة بحِبْرها وبنصوصها وعناوينها وصورها، واللوح الزجاجي القاسي الصغير، يستحيل تجاوزه أو إلغاء أثره. وهو فارق يؤثر في التعرف على الأخبار، ونوع تلقّيها وإحساسه بها. وهو يندرج كذلك ضمن نظريّة الرسالة في الوسيلة، هذه النظرية التي تأخذ اليوم أبعاداً جديدة مع تعدد الوسائل بشكل غير مسبوق.

لا شك في أن القراءة الرقمية -إذا جاز التعبير- أصبحت أمراً مسلَّماً به. ونسبة كبيرة من القرَّاء، وربما كاتب هذه السطور منهم، أصبحت هذه القراءة تشكِّل حيزاً كبيراً من ممارسة القراءة لديهم. ولا شك أيضاً أن القراءة الرقمية قد وفَّرت مصادر قراءة كان يستحيل على القراءة الورقية أن توفرها. لكن هذه الحقيقة الشاملة، يجب ألا يسلّم بها دون مراجعة وتفحّص، وعلى الرغم من أنها تبدو حقيقة بيّنة لا تحتاج إلى برهان. فهي ميزة جديدة متعددة الفوائد، وفَّرتها الحياة المعاصرة للإنسان. لكن ونحن نفرح بهذه الميزة، بل ونتباهى، لا بد أن ندرك ماذا نخسر بالمقابل.

فالقراءة ليست بالتأكيد مجرد عيون وكلمات. وإلاَّ لما كانت الحضارة قد أنتجت كل هذه الوسائل المختلفة لتقديم الكلام. الكتاب والجريدة والمجلة والنشرة. ومن الكتاب الصغير بحجم كف اليد، والكبير الذي ينبلج عن صور أو خرائط كبيرة، وما بينهما من مقاسات ونسب تبدأ ولا تنتهي. وهي بدورها في مئات أنواع الورق يتم اختيار الأنسب حسب المضمون. المصقول اللمّاع والمطفي والسميك سماكة لوح الخشب، إلى الرقيق رقة خيط الحرير. ثم الورق غير المصقول الجاف وأحياناً الخشن. وتنوع الورق هو في خدمة الكلام وما يصاحبه من صور ورسوم وأي عناصر بصرية أخرى. وهو أيضاً في خدمة تنوّع الأغلفة في المنشورات التي يختلف غلافها عن ورق الداخل. وكم للغلاف أحياناً من دور في تقديم العمل وجذب النظر إليه.

والقراءة الرقمية بطبيعة الحال تلغي كل هذا الثراء الحسي -الذي لا يقف عند ما ذُكر- أو تلغي جزءاً كبيراً منه، وهذا الثراء شكّل عبر التاريخ الإنساني، ضرباً من التثقيف والتهذيب والتأثير النفسي، أمور تتطلبها الحياة المدنية ويحتاجها التقدم الحضاري. ويصبح كل هذا التنوع أسير اللوح الزجاجي الأملس موحّد المقاس.

إن هناك حالة نفي التنوع والخصوصية في هذا التطّور. أو على الأقل إلغاؤها كما نعرفها.

الخبر الذي أقرأه في صحيفتي المفضلة على الورق يختلف عنه حين أقرأه رقمياً، حتى ولو في نفس الصحيفة.

ملاحظة الأخبار التي تهمّنا تختلف، النظر إلى الصور التي تلفت نظرنا يختلف، الخلاصة الذهنية والنفسية التي آخذها حين أطوي الصفحة الأخيرة تختلف.

لديك صحيفة ولديك لوح. هيا قارن بينهما صباح الغد.

أضف تعليق

التعليقات