اكتسحت اللهجات العامية المحكية هنا أو هناك، عبر وسائل الإعلام المرئية والمسموعة وأبرزها الفضائيات العربية، كافة بيوت المشاهدين العرب على حدٍ سواء في مشرقه ومغربه. وعندما تطل الفصحى برأسها في بعض الفقرات، فإن حالها تبدو غير مشرِّفة، وتبعث على المزيد من الشعور بالاستفزاز والتشاؤم.
الناقد جهاد فاضل يعرض لنا جذور المسألة وخطورة الوضع الذي آلت إليه، باحثاً في خلفياته السياسية وحال المؤثرات الاجتماعية منه.
شهد النصف الأول من القرن العشرين صراعاً مريراً بين العامية والفصحى. فقد وُجد في تلك المرحلة من دعا، في مصر وفي لبنان على الخصوص، إلى إهمال العربية وإحلال العامية مكانها، أو العاميات التي تفرعت عنها. قال هؤلاء إن العربية سجينة الكتب القديمة وبعض الدوائر المغلقة التي فشلت في عقد صلة بين الفصحى وبين الحياة، كالجامع الأزهر، وكلية دار العلوم، ومجامع اللغة، وما إليها. وهي بعيدة عن الألسن لا ينطق بها أحد تقريباً. وهي في وادٍ والعلوم والمعارف الحديثة في وادٍ آخر. ناهيك عن أن علماء اللغة المعاصرين في البلدان الأجنبية الراقية يرون أن كل لغة غير محكية، هي لغة تضرّ بالعقل وتسيء إلى قابلياته ومداركه.
وقد تصدّى بالطبع كثيرون للدفاع عن أم اللغات وتبيان تهافت منطق خصومها وأعدائها، معتبرين، ولأسباب مختلفة، أن اللغة العربية قد تجاوزت المأزق التاريخي الذي صادفته اللاتينية مثلاً. فهي لم تعد سجينة بؤر وبيئات ومراكز ضيقة، وإنما صارت تتجول في كل مكان. إنها تُدرَّس الآن في المدارس والجامعات، وبها تُكتب الأبحاث والدراسات..
بدايات كانت تدعو إلى التفاؤل
وعندما أطلّ عصر وسائل الإعلام والاتصالات الحديثة، اعتبر أنصار العربية أن لغتهم انتصرت نهائياً على كل عوامل الاندثار والفناء، وأنها ستكون لغة المستقبل كما كانت لغة الماضي والحاضر. إنها لغة قديمة ومتجددة وقابلة للتجدد على الدوام. وهذا التجدد كان باستمرار خاصة من خصائصها اللافتة والمميزة. لقد صحبت الدهر وهو فتى كما يقول الشاعر القديم، وقد رافقتها الفتوة في مراحل بلا حصر، إلى أن تخلفت وفسدت وانهارت إبان الحقبة العثمانية لدرجة أنها كانت تُدرّس في بلاد الشام في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر بواسطة اللغة التركية إلى أن عادت عامرة بالحيوية مختزنة لطاقات قابلة دائماً للتوظيف في معارك التطور والتحديث. وكل هذا يؤكد صلاحها للحياة وتهافت وجهة نظر خصومها.
وقد عمل القرن العشرون لصالحها، إن لم نقل إنه كان القرن الذي نفض عنها غبار القرون الخوالي وأعاد إليها الروح الذي كادت تفقدها، وبث في عروقها الدماء والتجدد. فها هو يزودها بوسائل اتصال حديثة يجعلها، وهي بحلتها الجديدة، بمتناول كل عربي أنّى أقام، سواء في البادية أو في الحاضرة. فالصحيفة والمجلّة، يسّرتا وصولها إلى كل مكان. ولأن لغة هاتين المطبوعتين لم تكونا لغة الجاحظ ولا لغة المنفلوطي، بل لغة أخرى يمكن أن نطلق عليها عبارة اللغة العربية العصرية، أو اللغة العربية الحديثة، فقد اطمأن الغيارى على العربية إلى أن الصدام بينها وبين العامية قد حُسم نهائياً لصالحها.
وبمجيء عصر الراديو والتلفزيون، زاد تفاؤل الغيارى على العربية. فإذا كان تداول الصحيفة والمجلة والكتاب محصوراً على الذين يعرفون القراءة والكتابة دون سواهم، وهؤلاء قلة في عالم الأمية الطاغي عندنا، فإن الراديو يدخل إلى كل أذن. ولكن الراديو فقد نفوذه الذي كان له قبل صعود التلفزيون، وبالتالي صعود الفضائيات، لصالح هذه الأخيرة، نظراً لنفوذها المتعاظم الذي غلب نفوذ أية وسيلة إعلام أو اتصال أخرى. وهنا زاد تفاؤل هؤلاء الغيارى على أساس أنه لا يُعقل ألا تصبّ اللغة التي ستُتداول في هذه الفضائيات الواسعة النفوذ في غير صالح العربية. فهل يمكن أن تنطق “الفضائية” بعاميةٍ لا تسري إلا على شفاة أبناء هذه المدينة دون المدينة المجاورة؟ بل هل يمكن أن يُفتح الباب أصلاً أمام هذه اللهجات العامية المحلية، للدخول على الفضاء مباشرةً، ولمخاطبة العربي الآخر في كل مكان تحت الشمس؟
على عكس المسار المتوقع
الواقع يفيد أن هذا هو الذي حصل فعلاً. فاللغة التي تصول وتجول على شاشات الفضائيات العربية التي تدخل كل بيت، والتي فاق نفوذها نفوذ أية وسيلة اتصال أخرى، هي اللغة العامية (إن صح أن تُدعى كذلك) أولاً، تليها اللغة العربية. ولا يمنع ذلك بالطبع أن تطل العربية بوجهها الخجول من حين إلى آخر، سواء في نشرة أخبار، أو في قراءة الصحف العربية والأجنبية، أو عبر متحدث من الداخل أو الخارج أصرّ على التحدث بعربية سليمة أو شبه سليمة. أما الشائع على شاشات هذه الفضائيات فهو تلك الصالونات والمجالس والديوانيات والبرامج الحية التي تُنقل مباشرةً إلى المستمع باللهجة العامية التي يتحدث بها أصحابها، سواء في منازلهم، أو في الشارع، أو في أي مكان.
حتى نشرات الأخبار لم تعد تُبَثّ كلها بالعربية، بل بدأت العامية تتسرب إليها. فقسم كبير من نشرة الأخبار، المسائية أو غير المسائية، على إحدى الفضائيات اللبنانية، نجده محكياً أو مكتوباً بإحدى العاميات اللبنانية. يمهد المذيع بموجب سطرين، لوقوع حادث أمني أو سياسي أو اقتصادي حصل في البلد. بعد هذين السطرين يظهر مذيع آخر، من ضمن تحقيق أجراه، أو بدون تحقيق، يتلو، وأحياناً يقرأ على ورق أمامه، كلاماً كُتب بعامية لبنانية محضة لا يداخلها أي كلام بالفصحى. وكثيراً ما يبدأ هذا المذيع الثاني مداخلته بعبارة صباح الخير، أو مساء الخير بالفرنسية، كما لو أن من يخاطبهم فرنسيون أو أجانب.
والخطير أن هذه العامية الفضائية، إن جاز التعبير، لم تعد شفهية أو ارتجالية، بل إنها في جزء منها خطية مكتوبة مسبقاً. ذلك أن المذيع يلجأ أحياناً إلى أوراق أمامه يقرأها. وهذه الأوراق مكتوبة بالعامية قطعاً، ولو لم تكن كذلك لقرأها بالفصحى. وهذا أمر لا أعتقد أنه موجود في غير لبنان. فالمذيع، أو المتحدث، في الفضائيات العربية الأخرى، الخليجية أو غير الخليجية، إذا نطق بالعامية، فنطُقُه يتم عفواً وشفاهةً، وليس انطلاقاً من أوراق أمامه مكتوبة بالعامية. وهو ينطق، أي المذيع العربي، بهذه العامية عن عدم اكتراث أو تدبر، وليس انطلاقاً من أيديولوجيا ما. أما في لبنان فالأمر يختلف. فلو سألنا أحد هؤلاء المذيعين اللبنانين الذين يقومون بتحقيقات ميدانية تُبَثّ خلال نشرات الأخبار المسائية على الخصوص عن السبب الموجب الذي يكمن وراء اعتماد العامية في هذه التحقيقات لظفرنا بأكثر من جواب بصدد هذا السبب الموجب، منها أن العامية أصلح لهذه التحقيقات من العربية، وأخف دماً، وأقرب إلى فهم الجمهور. ولكن علينا ألاّ نعتبر هذا الجواب هو الجواب الجامع المانع، وبالتالي أن نبرئ صاحبه من “الأيديولوجيا” التي أتينا على ذكرها.
لغة الديوانيات والصالونات
يمكن تلخيص أكثر برامج الفضائيات العربية، من لبنانية وغير لبنانية، بأنها عبارة عن ديوانيات وصالونات مفتوحة. يمكن لهذه الديوانيات والصالونات أن تتعرض لأي موضوع: سياسي، اجتماعي، صحي، اقتصادي، زراعي، صناعي، بيئي. وباستمرار بالعامية إلى أن يثبت العكس. وهذه الديوانيات والصالونات تستضيف كل الناس: ربة المنزل، الخبيرة الصحية، المرأة العاملة في نشاط اجتماعي، الطبيب، السائق، العالمة النفسانية أو العالم النفساني. الضابط ورجل الشرطة، وكل ما يخطر على البال. البرامج لا تتوقف لا ليلاً ولا نهاراً. ساعة من البث المتواصل أمام مشاهد لا يتناهى إلى بصره وأذنه سوى لغة واحدة في الأعم الأغلب، هي اللغة العامية. ولأن الضرب المتواصل يفكّ اللحام، كما يقول المثل الشعبي، فإن هذا المستمع غارق في لجج لهجات عامية متعددة، متنوعة، مختلفة، للكلمة العربية الواحدة فيها أكثر من مصطلح واحد. هذا المستمع لفرط تعاقب هذه اللهجات والمفردات والمصطلحات العامية عليه، اعتاد عليها، بل وفهمها حق الفهم. فالكويتي، على سبيل المثال، بات يعرف العامية اللبنانية كواحد من أبناء هذه الأخيرة. واللبناني الذي يستمع يومياً، عبر هذه الفضائية الخليجية أو تلك، إلى سائر لهجات الخليج، بات يعرفها أو يعرف قسماً كبيراً منها. ولكن ماذا لو أن هذه الفضائيات العربية اعتمدت من البداية سياسة تنسيق قضت، في حدّها الأعلى باعتماد العربية دون سواها، وفي حدّها الأدنى باعتماد لغة عربية ميسّرة أو لهجة عامية راقية وعصرية؟ أما كان في ذلك خدمة، وأية خدمة، لصالح اللغة الجامعة الواحدة والثقافة الواحدة، والقضايا الوطنية والقومية الواحدة؟ ألم يكن وضع اللغة العربية اليوم هو وضع اللغة الحديثة التي لا يجادل أحد في مصيرها، وفي مستقبلها؟
ليس للفضائيات العربية، بلا ريب، موقف أيديولوجي، أو سياسي مسبق في مسألة طغيان العامية على الفصحى في برامجها. فهي إنما تلجأ إلى برامج ترفيه أو غير ترفيه تجد أن لها إقبالاً عند الجمهور. وفي معرض اهتمامها بتنفيذ هذه البرامج، لا تجد في متناول يدها من المشاركين في هذه البرامج، من يتقن العربية، أو يصرّ على التحدث بها. بل إن العكس هو الذي يحصل. فأكثر المدعوين للمشاركة في هذه البرامج هم من بين من لا يعرف من العربية سوى مثل هذه المعرفة، أن يتحدث بعاميته التي ينطق بها بصورة عفوية، لا أن يتحدث بفصحى لا يستطيع أن يؤلف جملة شفهية واحدة صحيحة بها. أليس ذلك هو الأسلم له؟ ألا ينطبق هذا الوضع لا على أكثر من ستتصل بهم الفضائية للمشاركة في هذه البرامج، بل على أكثر من يتألف منهم المجتمع العربي؟ أليست الغالبية العظمى في هذا المجتمع تجهل العربية جهلاً يكاد يكون تاماً؟ فهل تُلام الفضائية العربية إذا كانت صورة برامجها هي صورة المجتمع التي طلعت منه، والتي توجه برامجها إليه؟ ألا تهدف الفضائية العربيّة إلى تقديم برامج مشوقة ومثيرة وناجحة؟ فبأي حق يوجه إليها اللوم إذا لجأت إلى ما هو ممكن ومتاح أمامها، أي إلى أشخاص يتكلمون بلغة محكية هي لغة التفكير كما هي لغة اللسان في عفويته وتلقائيته؟
غايات غير معلنة
يمكن بالطبع تفنيد كل هذه الحجج التي يسوقها “الفضائيون” للدفاع عن سياساتهم التي يمكن أن تؤدي، مع الوقت، إلى خلخلة عمارة العربية، وإلى نشوء ظروف جديدة تجعل من العامية لغة مكرسة ولو بصورة غير رسمية في البداية. فإذا زاد ضمور العربية مع الوقت، وباتت العامية هي المستخدمة بالفعل، فما المانع من أن تتكرس لغة رديفة أو لغة بديلة مع الوقت؟ ألا يُنبئنا تاريخ اللغات بأن انهيار لغة وقيام لغة أخرى مكانها لا يحتاج إلى قرار حكومي أو غير حكومي؟ ألم تقم اللغات الأوروبية التي أشرنا إليها أعلاه، بصورة عفوية وبلا قرار رسمي؟ لم يعلن أحد وفاة اللاتينية بصورة رسمية، كما لم يعلن أحد ولادة اللغات التي انبثقت عنها وهي الفرنسية والإيطالية والإسبانية والبرتغالية وسواها. بل تم ذلك بصورة عفوية، وكأنه مجرد إعمال لقانونٍ مضمر أفرزته طبيعة الأشياء.
عامية راقية وأخرى رثّة
ينتقد الشاعر المصري أحمد عبد المعطي حجازي، العامية المصرية، والعربية عموماً، المستخدمة في وسائل الإعلام، وفي الأغنيات أيضاً، في وقتنا الراهن. فيقول إن هناك فرقاً شاسعاً بين الأغنية التي كان أمير الشعراء شوقي يكتبها لمحمد عبد الوهاب، مثل: “بلبل حيران”، أو “في الليل لما خلي”، أو “النيل نجاشي”، وبين الأغاني العامية المبتذلة التي نستمع إليها الآن. فالعامية، كما يضيف حجازي، ليست عامية واحدة، وإنما عاميات. وإذا كنا لا نستطيع في نهاية الأمر، والأسباب عديدة، أن نقضي على اللهجات العامية قضاءً مبرماً، فلماذا لا نحاول الترقي بهذه اللهجات وتقريبها من الفصحى؟
الواقع أن أكثر العاميات الفضائية عاميات رثة، مبتذلة وخالية مما تتوافر عليه العامية الأصيلة، عامية الأرياف والجبال. فالعاميات الفضائية كثيراً ما تكون عامية مدينية (نسبةً إلى مدينة) أو شبه مدينية، وهي عامية فاقدة لأية شخصية أو قوام أصيل.
إذا أخذنا على سبيل المثال، عامية هذه الفضائية اللبنانية، أو تلك، لوجدنا أنها عامية إحدى قرى منطقة كسروان، أو عامية كسروان، أو عامية حيّ الأشرفية في بيروت، لا تلك العامية اللبنانية الأخرى التي كتب بها الرحابنة مسرحياتهم وأعمالهم الشعبية الغنائية، ولا تلك العامية التي نعثر عليها في القرى الجبلية، أو في سواها من الأمكنة التي حافظت على تراث شعبي عريق استقى منه فنانون خالدون كالرحابنة وعمر الزعني ورشيد نخلة وزكي ناصيف وفيلمون وهبة وأسعد السبعلي وأميل مبارك وسواهم. إن استيحاء هذا التراث وهب الخلود لهذه الأسماء المضيئة في تاريخ الفن والأدب في لبنان في حين أن الإنصات إلى اللهجات الشعبية الرثة الشائعة الآن في فضائياتنا، يكفي وحده للإقناع بأن استخدام مثل هذه العامية إنما يتم في الوقت الضائع، ومن ضمن عملية استهلاكية في جوهرها لا أكثر ولا أقل.
ذكر الشيخ عبد الله العلايلي يوماً أن مستشرقاً ألمانياً ألقى مرة محاضرة في أحد منتديات القدس عام 1938م، قال فيها إنه يتابع منذ سنوات بعيدة هذا الصراع عند العرب بين العربية والعامية ولكنه – والكلام للمستشرق الألماني – مع العربية وتطورها وتطويرها من نوع تيسير صرفها ونحوها، وفتح نوافذها للعصر، وللعامية معاً بحيث تغتذي منها وتتفاعل معها. وهو، على القطع، لا يحبذ اعتماد العامية مكانها. أما لماذا، قال هذا المستشرق، فلأنه لا سبيل على الاطلاق للقضاء على هذه الازدواجية اللغوية. فحتى لو ألغينا الفصحى، وأحللنا محلها العامية، فإن هذه العامية لا بد أن تتحول مع الوقت إلى لغة نخبة وثقافة، وأن تُفرز عامية جديدة تسري على ألسنة عامة الشعب. وطالما أن الأمر سيكون على هذه الصورة، لماذا لا يتم اللجوء إلى التقريب بين العربية والعاميات المتحدرة منها؟ أليست العامية وليدة الفصحى؟ ألم يؤلف العالم اللغوي الشيخ أحمد رضا موسوعة علمية باسم “ردّ العامي إلى الفصيح”، أثبت بموجبها أن العامية هي عربية سرت على شفاه الشعب فتفككت بعض حلقاتها. ولكنها عربية المنبت والأصل، وليست لغة أخرى.
وأذكر أني سألت مرة أمين عام مجمع اللغة العربية بمصر الدكتور إبراهيم مدكور عن رأيه بالدعوة إلى اعتماد اللهجات العامية، فقال: “أذكر عن لساني أنني وأنا أمين عام مجمع اللغة العربية، لا أدعو إلى لغة مقعدة وبائدة ومهجورة، بل إلى لغة حية متطورة باستمرار، هي أشبه باللغة التي تتحدث بها النخب العربية في مجالسها ومنتدياتها. لقد بتنا نتسامح في مجمع اللغة في أمور كثيرة في قضايا اللغة، ولم يعد التحجر هو عنوان عملنا. ولكن هناك فرقاً شاسعاً بين الدعوة إلى المحكية وبين تيسير اللغة. إنني مع هذا التيسير، ولكني ضد إلغاء العربية لصالح عاميات ومحكيات. فمثل هذا التوجه سيقود العرب إلى مزيد من التشرذم والتفتيت. وهو ما لا يسعد به إلا الخصم والعدو”.
بصورة لا واعية على الأرجح، تحقق الفضائيات العربية اليوم ما عجز عن تحقيقه الإنجليز في مصر، والفرنسيون في لبنان، زمن استعمارهم للبلدين. ففي مصر، حاول الإنجليز بواسطة بعض المستشرقين الأوروبيين الدعوة إلى إحلال العامية المصرية كلغة لمصر. وقام الفرنسيون في لبنان بالمحاولة ذاتها عبر بعض الإرساليات التعليمية.
على أننا إذا شكونا من خفة أو هشاشة اللهجة المحكية المنتشرة في الفضائيات اللبنانية والعربية، فلا يعني أن اللغة العربية المنتشرة في هذه الفضائيات هي أفضل بكثير من عامياتها. فالقليل القليل ممن يظهرون على شاشات هذه الفضائيات تكون رحلتهم مع العربية رحلة ميسرة خالية من وعثاء السفر، وكأنهم غرباء في الأصل عنها، ولا يُطلب منهم إتقانها كما يتقن الأجنبي لغته. ولو أراد أحد العارفين بالعربية أن يطارد أخطاء ندوة فضائية ذات طابع فكري يشارك فيها نفر ممن يوصفون بالمثقفين والمفكرين، لخرج بما لا يقل عن ألف خطأ لغوي خلال ساعة أو ساعتين.
الاحتضار
لا تقل أزمة اللغة العربية في الفضائيات اللبنانية والعربية عموماً عن أزمة اللهجة العامية الضحلة السائدة فيها. وتعكس هاتان الأزمتان في الواقع أزمة تسود مجتمعاتنا كافةً. فلو أن العربية بخير في مدارسنا وبيوتنا وجامعاتنا، وفي الحياة الاجتماعية العربية، لظهر أثر ذلك في هذه الفضائيات التي هي في الواقع صورة لأوضاعنا العربية من جوانبها كافةً. وفي الوقت الذي ندافع فيه عن الفصحى، وندعو إلى ضخ مزيد من الحيوية فيها، وإلى فتح الطريق أمامها سواء في التلفزيونات أو في سواها، لا تفوتنا الإشارة إلى أن هناك رأياً بدأ يشيع في أوساط كثير من المثقفين والأدباء العرب، ملخصه أن العربية في خطر، إن لم تكن في حالة احتضار.
الشاعر الفلسطيني سميح القاسم يقول: نحن آخر جيل بين الشعراء والأدباء العرب، يعرف لغة عربية … والشاعر المغربي محمد بنيس يقول إن كل الدلائل والمؤشرات تفيد بأن العربية في حالة موت سريري. فهل تتوافر جهة تدعو للتنسيق بين هذه الفضائيات، وتدعوها لعقد اجتماعات دورية بين المسؤولين الكبار فيها لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، انطلاقاً من دور خطير تلعبه هذه الفضائيات في صياغة وجدان الأمة ومستقبل لغتها، ومستقبلها نفسه؟