عندما بحثنا في ظاهرة النجاح الهائل الذي لقيته سلسلة روايات الأطفال “هاري بوتر” في عدد سابق من القافلة، عبّر العديد من القرّاء عن تمنياتهم لو أننا قرأنا هذه الظاهرة من زاوية إسقاطها على واقع النشر العربي وخاصةً النشر للأطفال.
القافلة حملت السؤال إلى الباحثة المصرية أميرة أبو المجد المسؤولة عن نشر كتب الأطفال في دار الشروق، التي تعرض لنا واقع كتاب الطفل العربي وتقدم عنه صورة أكثر إشراقاً مما يعتقد الكثيرون.
من المفرح والمدهش أن الحديث عن كتب الأطفال في العالم العربي سيضطرنا إلى كسر التقليد العربي السائد هذه الأيام بتمجيد الماضي والحديث عنه بالحسرة والندم على ما ضاع، ونعي الحاضر مقارنة بأمجادنا التي ولّت!! فإن حاضر كتب الأطفال سيخرج عن كل المعتاد والمألوف، ويتضح أنه أكثر إشراقاً ومدعاة إلى التفاؤل الموضوعي الذي يدفعنا، بإذن الله، إلى بذل مزيد من الجهد في ذلك المجال، والواقع أن كثيراً مما يثار عن وضع كتب الأطفال في العالم العربي الحديث يعتبر من نوع الكلام المرسل الذي تنقصه الدقة والموضوعية، والذي يعكس خطورة المنعطف التاريخي الحاد الذي تمر به أمتنا في ظل تطورات عالمية سريعة، وعولمة تبدو لنا مهددة للهوية العربية والتي تعتبر اللغة وبالتالي الكتاب أهم عناصرها على الإطلاق.
ريادة الطهطاوي
بدأ تاريخ نشر كتب الأطفال العربية في شكله الحديث مبكراً أكثر مما يظن الكثيرون. فأول كتاب نشر في مصر عام 1837م. وقد لا يذكر كثيرون أن رائد التنوير الشيخ رفاعة الطهطاوي قدم كتابين للأطفال. أولهما: بعنوان “تعريب الأمثال في تأديب الأطفال”، وهو مترجم قام الطهطاوي بتصحيحه في عام 1845م. وثانيهما في العام نفسه ومن تأليفه بعنوان “القول الأرفع في حكاية الإصبع”. وشكل الطهطاوي بذلك نواة لاهتمام المفكرين والأدباء بتوجيه إنتاجهم إلى الأطفال، فجاءت بعد ذلك أشعار محمد الهراوي وغيره في بدايات القرن الماضي.
ومنذ ذلك الوقت وحتى نهاية القرن نفسه بلغ إجمالي عدد كتب الأطفال التي صدرت في أنحاء العالم العربي حوالي خمسة عشر ألف عنوان في جميع موضوعات المعرفة البشرية، وإن كانت النسبة الأعلى من هذه الكتب تندرج تحت موضوع الأدب بما تشتمل عليه من قصص وأشعار ومسرحيات، حيث بلغت 64% من الإجمالي، ثم تليها الكتب الدينية في المرتبة الثانية بنسبة 12%.
وبالتحليل الدقيق لطبيعة الكتب التي صدرت في النصف الأول من القرن الماضي، التي قدمها رواد كتاب الطفل العربي، أمثال كامل الكيلاني ومحمد عطية الإبراشي وغيرهما يلاحظ أن كثيراً منها ترجمات لكنوز الأدب العالمي، حيث وضع هؤلاء الرواد اللبنة الطيبّة لتنشئة القارئ الصغير على تنوع المعرفة والانفتاح على العالم شرقاً وغرباً؛ وإن كان فاتهم في بعض الأحيان ذكر المؤلف الأصلي أو الإشارة إلى الناشر الأصلي! كما يلاحظ إلى جانب عنصر اللغة العربية السليمة المصحوبة بالتشكيل، أن معظم الكتب التي صدرت حتى نهاية الثمانينيات من القرن الماضي ركزت تركيزاً أساسياً على الحث على مكارم الأخلاق وتعليم السلوك القويم وتنمية الحسّ الديني عند الطفل، ولعل أوضح مثال على ذلك عنوان كتاب رفاعة الطهطاوي المذكور “تعريب الأمثال في تأديب الأطفال”.
أما بالنسبة إلى مركز نشر كتاب الطفل العربي خلال القرنين الماضيين، فيتضح أن مدينة القاهرة هي موطن ناشري حوالي 78% من إجمالي ما نشر، تليها مدينة بيروت بنسبة 16% من المجموع.
أما الأمر المدهش والمفرح حقاً فهو أن حوالي 50% من إجمالي ما صدر في قرنين كاملين صدر في العقدين الأخيرين منه، أي أنه منذ بداية الثمانينيات الميلادية وحتى عام 2000م صدر حوالي 6800 عنوان جديد في مجال كتب الأطفال العربية.
والأهم من تلك الطفرة في الكمية الهائلة هو تطور الكتاب نفسه تأليفاً ورسماً وإخراجاً وإنتاجاً. فمما لا شك فيه أنه مع تطور الطباعة أصبح من المتاح إنتاج كتب أكثر جمالاً وجاذبية، مما يعطي للكتاب احترامه ويجسّد جماله وجاذبيته بالنسبة للطفل، ذلك الطفل الذي بدأ ينصرف عن الكتاب ليجلس أمام شاشة الفضائيات بتنوعها وإنتاجها المبهر، أو ليجلس أمام شاشة الكمبيوتر ليقضي ساعات وساعات، يغوص من خلالها في أعماق أي فرع من فروع العلوم أو التسلية أو اللعب واللهو، مما يشكل تحدياً أمام القائمين على صناعة كتاب الطفل من مؤلف ورسّام وناشر ثم موزع أو مدرس أو أمين مكتبة.
ويبدو أن الناشرين قبلوا التحدي واستطاعوا الصمود. وخير دليل على ذلك هو ذلك الكم من الجوائز العالمية التي حصدها ناشرو ومؤلفو ورسامو كتب الأطفال في العقدين الماضيين.
ولعل الوصول إلى العالمية ما هو إلا تطور طبيعي للتميز على المستوى المحلي، فمما لا شك فيه أن الجهود المبذولة في سبيل التوعية لأهمية القراءة لعبت دوراً أساسياً في استنهاض الهمم وتشجيع الإبداع والارتقاء بكتاب الطفل، وفتح قنوات من التعاون والتبادل والتعلم بل والتنافس مع كبرى دور النشر العالمية.
وإذا كانت الجوائز المحلية ثم الجوائز الدولية هي المدخل الطبيعي لدخول كتبنا، وبالتالي ثقافتنا وهويتنا ضيفاً مرغوباً به ومطلوباً لدى الآخرين، فإن ذلك يدفعنا إلى التعرف بشكل أعمق على هؤلاء الآخرين الذين سبقونا بالفعل في مجال كتاب الطفل، لعلنا نستفيد من تجاربهم ونزداد فهماً لثقافتهم وأيضاً لثقافتنا.
ناشرونا وناشروهم
وفي هذا الصدد نشير سريعاً إلى بعض الإحصاءات العامة الصادرة عن اتحاد الناشرين الدولي: يبلغ عدد الناشرين في مصر 198 ناشراً، بينما يبلغ في فرنسا 975 ناشراً، وفي ألمانيا 2155 ناشراً، والولايات المتحدة 1475 ناشراً.
المكتبات العامة في مصر لا يزيد عددها على 400 مكتبة، بينما عدد المكتبات العامة في فرنسا هو 9240 مكتبة، وفي ألمانيا 12396 مكتبة، وفي الولايات المتحدة 36240 مكتبة عامة!!
الإصدارات السنوية الجديدة في مصر تبلغ 5700 عنوان، وفي فرنسا 62000 عنوان، وألمانيا 68111 عنوان، وفي الولايات المتحدة 14700 عنوان!!
ولتحليل الأرقام ولمس خطورة الفرق بين مصر وتلك الدول فلنا أن نعرف أن سكان فرنسا أقل من ستين مليون نسمة بقليل، بينما سكان ألمانيا اثنان وثمانون مليون نسمة، وسكان الولايات المتحدة مائتان وسبعون مليون نسمة.
وفي الواقع أن هذه الأرقام ما هي إلا انعكاس للمناخ الاجتماعي والتعليمي والتثقيفي لتلك البلدان. فمثلاً أفاد تقرير اتحاد الناشرين الفرنسيين لعام 2002م أن كتب الأطفال والناشئة التي يصدرها الناشرون تم اعتمادها بشكل رسمي في المناهج المدرسية، حيث يلزم كل طالب أو تلميذ بقراءة 10 كتب خلال العام الدراسي، مما يتيح لدور النشر إقامة علاقة وثيقة مع القرّاء تسمح لها بفرص أكبر للتعريف بكتبها ومؤلفيها، وبقدر أقل من القلق من المسائل التسويقية!!
فجوة واضحة
وإلى جانب الفجوة الواضحة بيننا وبين الغرب من حيث الكم، فإن زائر معارض كتاب الطفل الدولية وعلى رأسها معرض بولونيا، ثم معرض فرانكفورت وغيرهما، يجد أن الكتب الأجنبية تهتم أساساً بإقناع الطفل وإبهاره بجمال الكتاب شكلاً وموضوعاً، وبروعة رسومه وإبداع إخراجه وكيفية تقديم كل المعارف والمعلومات بطرق بالغة الفن والجاذبية والسلاسة والتشويق، دون صعوبة أو حذلقة أو إسهاب ممل أو مباشرة فجة. ولعل ظاهرة سلسلة كتب هاري بوتر الشهيرة خير دليل على الفارق بيننا وبين الغرب في ما يتعلق بتشجيع إطلاق خيال الطفل، فمن منّا كان يتصور أن يقبل الملايين من أطفال العالم على قراءة كتب يزيد عدد صفحات بعضها على سبعمائة صفحة غير مصورّة؟
وأخيراً ومع التسليم بأن هاري بوتر ظاهرة غالباً من الصعب أن تتكرر، إلا أننا في العالم العربي نواجه كثيراً من التحديات والمشكلات التي تعد بمثابة عائق قوي لانتشار القراءة والإقبال عليها وإدراك متعتها، ومنها:
-1
ضعف مستوى المناهج الدراسية في الكثير من الدول العربية، والذي يستوجب تعديلها بما يعظّم دور الكتاب ويرسّخ عادة القراءة ويتيح وقتاً أكثر للبحث والاطلاع ليكون أساساً للقدرة على التعليم المستمر والتعليم الذاتي، وذلك ببذل جهد أكبر في تحسين مستوى الكتاب المدرسي شكلاً وموضوعاً، علماً بأن الكتاب المدرسي تسبب في ظهور الكتاب المدرسي المساعد وهو ظاهرة مصرية فريدة يكرر فيها جهد المجتمع في إنجاز العمل نفسه عدة مرات، مما يشكل عائقاً أمام القراءة لأن الكتاب المدرسي هو الأكثر انتشاراً والأعمق تأثيراً سلباً وإيجاباً.
-2
غياب حركة نقدية موضوعية لكتاب الطفل وأدب الطفل بشكل عام.
-3
إصرار الكثير من المؤلفين والقائمين على إعداد الكتب الدراسية على التعلق ببعض المعايير المتخلفة عن الواقع، وتمسكهم بمناهج التعامل مع الطفل نفسها التي كانت متبعة منذ خمسين عاماً دون استيعاب لتطور الطفل، وبالتالي ضرورة تطوير كتابه.
-4 قلة المكتبات العامة وضعف ميزانياتها.
وأخيراً، وعلى الرغم من كل هذه التحديات فإن كل من يعمل في مجال كتب الأطفال يدرك أنه عالم رحب جميل بالغ الصعوبة والمتعة معاً، وهو يستوجب أكبر قدر من الإحساس بالمسؤولية والإحاطة المعرفية والإبداع الفني الممتزج بحرية الخيال وروعته، ولذلك فلا بدّ من وقفة ضرورية وشجاعة مع النفس لنواجه أنفسنا بالحقائق، ونضع أمامنا السلبيات دون أن نغفل الإنجازات ولا الإيجابيات، ولكن لا نغلبها – كما اعتدنا في كثير من المناسبات – مقنعين أنفسنا بالوهم أنه ليس بالإمكان أبدع مما كان.