على الرغم من إقبال جمهرة كبيرة من الأجيال العربية الشابة على سبر أغوار العالم الافتراضي، فإن المحتوى العربي «النظيف» لا يزال قليلاً جداً على الإنترنت. فريق القافلة يسبر أغوار هذا القلق من خلال وجهات نظر بعض الكُتَّاب.
مخاوف جمة من أن يقتلع تسونامي الإنترنت شجرة القراءة «الورقية» الوارفة التي أظلَّت العالم لقرون طويلة، كان خلالها الكتاب خير جليس، ومصدراً وحيداً للعلم على السواء، ولا سيما في ظل تلك السهولة التي تمكن بها الشبكة العنكبوتية زائرها من الحصول على المعلومة في زمن وجيز، مفسحة المجال لممارسة تطبيقات أخرى بدأت تحتل مساحات شاسعة من حصة القراءة.
يرى محمود تراوري، الكاتب، ورئيس القسم الثقافي بجريدة الوطن، أنه «لا يمكن النظر إلى أمر القراءة دون التطرق لمسيرة التنمية في العالم العربي منذ ظهور الدولة القطرية الحديثة في بدايات القرن العشرين، وما حمله من تراكمات قرون من السبات والجهل والأمية، وما تلا ذلك من مشكلات تنموية. كل هذه الأمور مجتمعة، أفضت إلى حالة من التشيؤ، وضعف مخرجات التعليم، وشيوع مشاعر الإحباط واليأس, لذلك أتصور أن محدودية القراءة، أو اقتصارها, كما هو الآن, على المسلِّي والاستهلاكي السطحي، إنما يرجع لخلل في الأنظمة الدراسية والاجتماعية التي لم تفلح في أن تجعل القراءة جزءاً أساسياً من الممارسة الحياتية اليومية للفرد العربي، بل بالعكس, فمناهجنا كلها تلقين، ومادة المكتبة والقراءة والمطالعة، مادة هامشية جداً، لا تنعم بأي جدية في التعاطي معها على مستوى التعليم. من هنا يمكننا أن ندرك نوعية العلاقة غير الجيدة بين الطالب والكتاب. وهناك، أيضاً، بعض وسائل الإعلام وما تفعله، إضافة إلى المأزق الأخلاقي الجمالي الذي نعيش فيه، من حيث الأمية البصرية، وتردٍّ في مستوى الذائقة وتراجع للقيم. وكلها أسباب تفضي إلى إهمال القراءة وتسطيح الوعي أو انعدامه كلياً».
ويؤكد تراوري: «على هذا يكون النتاج أفراداً غير جادين، ومفاهيمهم للحياة لا تخرج عن المتعة، دون الإحساس أبداً بأنهم عالة على الشعوب والمجتمعات. وأعتقد أنه، خليجياً، كان للوفرة المالية وطفرة النفط منذ سبعينيات القرن الماضي، دور أو مسؤولية إلى حد كبير في ذلك. فلم تكن هناك معايير صارمة تضبط عملية الابتعاث، حتى عادت أجيال تحمل أعلى الشهادات، ولكنها على مستوى الوعي والمعرفة لا يعوّل عليها.
واستدعى تراوري رؤية عالم الاجتماع «دوركايم» حول الاستهلاك، «حين رأى أن الثورة الصناعية في زمنه أنتجت رغبات استهلاكية غير قابلة للإشباع, وتؤدي إلى تآكل الأساس الأخلاقي للنظام الاجتماعي. بشكل ما، هذا ما يحدث في تعاطينا، كعرب، مع شبكة الإنترنت. فدراسة حديثة أعدتها لجنة بالأمم المتحدة أكدت الندرة الشديدة للمحتوى العربي على الشبكة الدولية، إذ لا يتعدى ٪3 من إجمالي المحتوى العالمي.
فعل ماض
يرى خالد السهيل، مدير تحرير صحيفة الاقتصادية الإلكترونية، الكاتب والمدون على الإنترنت، أن «النظرة المتجردة للأشياء، تقول إن ولوجنا عالم الإنترنت ونوافذ الإعلام الجديد، فتح آفاقاً واسعة، لكنه من يوم لآخر يسهم في تجفيف ما بقي من الود مع الكتاب المطبوع. هل هذا يعني أن فعل القراءة أصبح من الماضي؟ بالتأكيد لا. الجيل الجديد في العالم العربي كانت غالبيته على قطيعة مع القراءة قبل الإنترنت وبعدها. بل إننا لا نجانب الصواب إن قلنا إن هناك فئة تقرأ على الإنترنت أكثر مما قرأه جيل سبقهم. إنما يبقى هذا النسق يلاحق الأمر بشكل كمي فقط، ولا يعني أن الكيف يعطي مؤشرات إيجابية».
ويستدرك السهيل أن «العالم العربي، يكتنز جملة مزايا تجعله حيوياً، إذ لا شكوى من حالة شيخوخة في مجتمعاتنا، كما هو حال أوروبا، لكن الفارق بين الإنترنت بالعربي وسواه، أن الآخرين عملوا على إثراء محتواهم، فأصبحت الآفاق واسعة، بينما بقي المحتوى العربي ضحلاً، وغالبية الأفعال الإيجابية التي حاولت تخطي حالة فقر المحتوى، تتوسل بحلول بائسة، تعتدي على حريات الملكية الفكرية، وهي عشوائية، تنسخ هذا الكتاب أو ذاك بإحدى الصيغ المتاحة، ثم تلقي به في موقع للمشاركة، وتبدأ الأيدي تتناقل النسخ المقرصنة من المجلة أو الكتاب، عن طريق المنتديات ومواقع التواصل الاجتماعي. من هنا تجسد المعادلة واقع الأزمة والتي مفادها أن الفعل المؤسس والذي يتوخى إثراء المحتوى العربي، يبدو ضئيلاً ومحدوداً، لأن من يملكون الفكر، وهذه حقيقة يجب الاعتراف بها، ليس شرطاً أن يكونوا متصالحين مع الثقافة الإلكترونية، ومن يعملون في المجال التقني، يحتاجون إلى التثقيف كي يتمكنوا من وضع خارطة تقنية تستطيع أن توفر المحتوى الجيد وتثريه بشكل مستمر».
ويؤكد السهيل أن «التصفح على الإنترنت، للوسائط التقليدية أعطى مساحة مميزة للكتاب المقروء، لكن الملاحظ ندرة من ولجوا إلى هذه المنطقة كاستثمار بحكم شح المردود المتوقع. هذا الأمر ينسحب بالتأكيد على التطبيقات المستجدة في مجال النشر مثل الآيباد، وبقية وسائط القراءة الإلكترونية. الأمر يحتاج إلى ضخ أموال من أجل إنشاء المحتوى العربي الجيد في الإنترنت، في مقابل المحتوى الرديء الذي يشبه، إلى حد بعيد، الساندوتشات السيئة التي لا تضيف إلى الفكر شيئاً، وتعطي مضامين أقل ما يمكن وصفها به أنها تخلو من التهذيب».
ويستبعد السهيل أن يكون لإثراء المحتوى العربي على الإنترنت أي مردود استثماري، واصفاً إياه بالمغامرة، موضحاً بأنه لا ينبغي التعامل معها على هذا الأساس، «إنها فعل قومي لا يمكن التنصل منه، لأن الإنترنت هي الوسيط الوحيد الذي أصبحت الأجيال الجديدة تتلاقى من خلاله وتتفاعل وتنفعل. لقد نمت لدى شبابنا وفتياتنا فكرة التسوق الإلكتروني للحصول على أشياء متعددة على غرار الأجهزة الإلكترونية والأفلام والبرمجيات المختلفة والإكسسوارات، هذا النجاح مرتبط بكون محتواها ليس محكوماً بقضية التعريب. لكن المحتوى الفكري العربي، بوصفه فعلاً يختص بالجغرافيا العربية، يحتاج، حتى يصل إلى الشريحة الأكبر في عالمنا العربي، إلى أن تتوافق عليه حكومات عربية حتى تتمكن من تغيير الرقم الضحل الذي يمثله المحتوى العربي وترفع من شأنه.كما أن وجود عشرة ملايين مستخدم للإنترنت في السعودية يعني أن القراءة والتصفح غالباً ما يكونان من خلال الإنترنت. والنمو المستمر في التواصل عبر الإنترنت من خلال الأجهزة المحمولة، جعل فعل القراءة والكتابة، والفعل والتفاعل، تتم في كل وقت وفي أي مكان. إن واجب الحكومات ومؤسسات المجتمع المدني أن تزيد من حجم مبادراتها الإثرائية للإنترنت، والأمر ينبغي أن يقفز من فخ الشعارات إلى الفعل الحقيقي الذي يستقطب المؤمنين بهذه الأفكار ويدعمهم، بدلاً من أن يبقوا يغردون خارج السرب، لأنهم لا يملكون الإمكانات التي تجعلهم يؤثرون في المشهد الإلكتروني».
ويؤكد السهيل أن «هذا هو الخيار الوحيد الذي يمكن أن يجعلنا ننأى عن الكابوس القادم المتمثل في السؤال الصاخب: هل تؤدي ضحالة المحتوى العربي على الإنترنت إلى جعل القراءة فعلاً ماضياً بالنسبة للجيل الجديد الذي يقاطع الوسائط الورقية ولا ينفعل إلا من خلال بريق الشاشات الإلكترونية الساحر؟».
البقاء للأجدى
ويصف عادل الحوشان، الكاتب والروائي السعودي، واقع القضية بأن النشر الورقي في السنوات الخمس الأخيرة يعاني أزمة قارئ، «وبالتالي أزمة اقتصادية تجارية، بعض الدول، وتسمية الدول تنطبق على «إمبراطوريات إعلامية عالمية»، سارعت إلى تسريح موظفيها أو تقليصهم، وبعض المؤسسات أقفلت مكاتبها أو حولتها إلى مؤسسات رقمية، بمعنى أوقفت إصداراتها الورقية، وبعضها غيَّر نشاطه إلى داعم لوجستي في مجال صناعة الإعلام».
ويرى الحوشان أن «العالم العربي متأخر كثيراً في تبني أفكار جديدة في النشر الإلكتروني، وهو في مؤسساته الإعلامية إعلام مقلِّد. هناك الكثير من الشواهد التي تثبت أننا نتخذ خطوات متأخرة بناءً على ما يفعله الإعلام الغربي، أمريكا أو أوروبا مثلاً. فالإعلام العربي لا أفكار لديه يمكن طرحها في البرامج الجماهيرية دون أن يكون المختبر أمريكياً بالدرجة الأولى، ويتمتع بتجربة زمنية كافية إلى درجة أنه أصبح مستهلكاً بالنسبة لنا، باستثناء الإعلام الإخباري الذي يعتمد، أيضاً، على صناعة التقارير التي لا يمكن مقارنتها بالتقارير الإخبارية الغربية، ونحن نأتي لنفكر، باستنساخه عربياً، هذه النسخ التجارية تجد مساحات إعلامية فارغة يمكن أن تُعبأ بنسخ مكررة، بما أن الفضاء الإعلامي العربي لم يجد بعد غير الظواهر ليركز عليها، إعلام لم يجد في نفسه القدرة بعد على صياغة إعلام جديد ومولّد للأفكار أو صناعته».
ويشير الحوشان إلى ما ذهب إليه الباحث والمفكر د.عبدالرحمن حبيب في دراسة مقارنة بين الكتاب الورقي والكتاب الإلكتروني من «انخفاض إجمالي مبيعات الكتب 1.8٪ عام 2009م مقارنة بالعام الذي قبله، حسب التقرير الأخير لجمعية الناشرين الأمريكان (AAP). وهذا الانخفاض لا يعكس عدد الكتب المباعة بل قيمتها. بالمقابل فإن مبيعات الكتب عبر الإنترنت ترتفع سنوياً بمعدل 71٪ منذ عام 2002م. فهل انخفاض إجمالي المبيعات سببه، جزئياً، ارتفاع مبيعات الكتب عبر الإنترنت؟ بعضهم يقول إنها مجرد مصادفة، خصوصاً مع الأزمة الاقتصادية العالمية، فالكتب المباعة بالإنترنت تمثل 1.3٪ فقط من إجمالي مبيعات الكتب «حوالي 313 مليوناً من 23.9 مليار» لعام 2008م، ونسبة 3٪ لعام 2009م. لكن التقارير المبكرة عن 2010م بالولايات المتحدة، تشير إلى استمرار زيادة مبيعات الكتاب الإلكتروني، حيث ارتفعت بنسبة 193٪، مثلت 9٪ من إجمالي جميع المبيعات، بينما واصلت مبيعات الكتاب الورقي انخفاضها، وتتفاوت النسبة حسب موضوع الكتاب، إذ إن بعضها زاد مثل الكتب المدرسية والتعليمية».
ويقول د.حبيب إن ثمة استنتاجات رغائبية منحازة للكتاب الورقي رغم أن الأرقام تشير إلى عكس ذلك، لأن هذه الأعمال تصدر من قطاع النشر الورقي ما يشير إلى وجود مصلحة في طريقة تحليل النتائج والاستنتاجات، لكن الأكيد أن ثمة تغييراً كبيراً بدأت ملامحه العالمية تظهر على عادات القراءة نفسياً واجتماعياً واقتصادياً مع ظهور الإنترنت والكتاب الإلكتروني، ما يوحي بأنه بعد بضعة عقود قد يتحوَّل الكتاب الورقي إلى مجرد زخرفة تراثية توضع لتزيين الأماكن».
كما يبيِّن الحوشان أن «الانحياز التقليدي للورق ملتصق إلى حدٍّ ما بالعادات البشرية اليومية أو الحياتية، والتخلص منها يستلزم وجود بدائل، هي الآن في أوج نموها وتطورها، مع وجود تقنيات حديثة قادرة على تغيير هذه العادات بشكل لا يمكن الوثوق بما ستفضي إليه في عالم النشر، ما لم يتحوَّل النشر العربي إلى سوق تفكر كيف تسهم في استثمار التقنية من أجل الثقافة والفن والأدب، والإنسان قبلها بعلاقاته المفتوحة بالعالم».
إلى الثورة الرقمية سرْ!
أتى العصر الرقمي وشبكة الإنترنت بتحديات كبرى لصناعة النشر التقليدي غدت تهدِّد ما ألفه الناس من وسائل قراءتهم. جايسون إبستاين* الذي خاض تجربة واسعة في صناعة النشر وعمل في واحدة من أكبر دور نشر للكتب في العالم، راندوم هاوس، يعرض لكتاب «تجار الثقافة: صناعة النشر في القرن الحادي والعشرين» لعالم الاجتماع البريطاني جون ثومبسون.
Merchants of Culture: The Publishing Business in the Twenty-First Century, by John B. Thompson, Polity, 432 pages.
قدَّم الباحث الاجتماعي البريطاني جون ثومبسون في كتابه دراسة استقصائية مسهبة حول نشر الكتب في الوقت الراهن في الولايات المتحدة وبريطانيا، محذراً من خطأ الانسياق وراء ظاهر الأرقام التي قد نطالعها حول النشر الورقي والنشر الإلكتروني، بقوله: «قراءة الواقع تقول إن مبيعات الكتب الإلكترونية حققت حضوراً كبيراً، أمام تراجع مبيعات الكتب المطبوعة، بيد أن هذه قراءة سطحية لواقع النشر، فنحن لا نزال بعيدين كل البعد عن اعتماد الناشرين على مبيعات الكتب الإلكترونية بديلاً للكتب المطبوعة، أو حتى الاعتماد عليها في حصة من عائداتهم».
يعتقد ثومبسون أن صناعة النشر لا تزال في مرحلة مخاض لم تتكشف نتائجه بعد، مستشهداً بالتأثير الكبير الذي أحدثته مطبعة جوتينبيرغ على صناعة الكتب في أوروبا، مؤكداً مجدداً أن هذا التغيير التاريخي، شأنه شأن جميع المشاريع البشرية، لن يكون له القول الفصل في عالم النشر. لكن هذا التوجس من ثومبسون لم يمنعه أن يعبِّر عن سعادته بما تحقق من إنجاز لهذه الصناعة، بتمكن المقيمين في أقاصي الأرض حالياً من القراءة لكتاب مثل سو تونج بو، ومارك توين، وليو تولستوي بعدة لغات، مشيراً في الوقت نفسه إلى كتابي «رأس المال» و«المنبع» متوقعاً أنهما سيلقيان، شأنهما شأن الكتب الرقمية السابقة، صدى أوسع من ذي قبل لدى أولئك المعرضين عن القراءة.
ينبغي للمتحمسين للكتاب الرقمي الأخذ في الحسبان أنه في الوقت الذي يتوسع فيه نطاق الإعلام الإلكتروني، تتراجع جودة إصداراته. تدبروا هذا الانحدار: برامج متميزة مثل Masterpiece Theatre إلى Jersey Shore، ومن شخصيات بارزة مثل فرانكلين روزفلت وأداليا ستيفينسون إلى سارا بالين، ومن الطاهية جوليا تشايلد إلى راشيل راي. تخميني أن المستقبل الرقمي الذي يتيح للجميع أن يصبحوا كُتَّاباً مشهورين سيقف عند مفترق طريقين: أحدهما طريق ضيق تجاه نتاج متنوع متعدد اللغات، أكثر تخصصاً بمتوسط جودة أعلى، والآخر أكثر اتساعاً ينفتح انحداراً نحو مساحة أكبر من التهافت وعدم الترابط، بينما تواصل الحكمة المضيئة من الأعمال المتميزة والنقد البنّاء الحفاظ على الجوهر والتفريق بين الغث والسمين.
إن طرق الحفظ الإلكترونية ضعيفة، وهي موضع لتلقي أي هجمات غير متوقعة، أو للتلف والمسح من دون قصد بما في ذلك المواقع الخاضعة لأنظمة مستبدة أو أفراد متعنتين. إن المخطوطات التي يرجع تاريخها إلى ألفي سنة لن تأخذ طريق الأقراص المدمجة أو مادة الفينيل، بل ستبقى بسبب محتواها القيم الذي ينبغي حفظه، في حين ستزداد دائرة استعمال الكتب والألواح الإلكترونية، وغيرها من التصاميم المستقبلية التي تحتاج إليها الموسوعات المعرفية، وكتب الأطالس، والكتيبات، وما إلى ذلك من الإصدارات التي تخضع للمراجعة المستمرة والتي يتأتى تحميلها الآن مادة مادة.
إن الصناعة التي درسها ثومبسون في كتابه، دع عنك المستقبل الرقمي الذي وصفه من بعد، لم يكن يتأتى تخيلها قبل 52 عاماً عندما كنت أعمل في دار راندوم هاوس محرراً، حين كانت ثقافة الكتاب الناجح الذي لا يزال مطلوباً بغض النظر عن سنة صدوره، علامة تميز وخدمة حضارية. كنا فخورين بقائمة كتبنا المشرقة وقسنا كل قرار تحريري بقائمة كتب معروفة مسبقاً، هي التي حافظت على مستوى مرتفع لصناعة نشر قوية لعقود، وظننا حينئذ أنه سيكون لهذه القائمة هذا التأثير على الدوام. أخذ محررو الدار على عاتقهم كل المسؤوليات ما عدا تلك المتعلقة بالاستقلال المطلق. كان هناك ثمانية أو تسعة منا في مراتب متساوية بشكل أو بآخر في تلك السنوات، وذلك بمساندة مساعدي التحرير وفريق عمل فني صغير يتكون من خبير دعاية، ومدير مبيعات مسؤول عن عشرات أو يزيد من المراسلين، ومدير إنتاج، ومدير فني، ومدير الأعمال، ومحررين، وموظف استقبال، وعامل سنترال، وعدد من موظفي المستودعات، والمؤسسين الذين يتقاسمون سكرتيراً واحداً. كانوا جميعهم يضطلعون بمتابعة الأحداث الكبرى وإصدار قرارات تحريرية للمحررين، إلا في الحالات التي تنطوي على مخاطر غير اعتيادية. كان الترحيب كبيراً بأفضل الكتب مبيعاً، لكنها لم تكن مسألة حياة أو موت كما هي اليوم. إذ كانت قائمة أكثر الكتب مبيعاً تحظى بدورة طويلة من الطلب على قوائم الكتب العادية، التي كانت تحتل واجهات مئات المكتبات في المدن والضواحي. كانت إجراءاتنا غير رسمية، إذ لم نكن نعقد أي اجتماعات.
على النقيض من حال السوق اليوم الخاضع لهيمنة حلقات محلية قليلة، فإن ملكية معظم المكتبات تعود إلى مُلاَّك محليين وتدار من قِبَلِهم أيضاً. كما أن فرق العمل كانوا قراءً نهمين يقدِّمون التوصيات لزبائنهم. كثير منهم كانوا أصدقاءنا وأمناء أسرارنا الذين يبقوننا على اتصال بأوضاع السوق.
كل صباح كنت أذهب إلى القبو حيث غرفة البريد لقراءة طلبات اليوم، قبل أن أتوجه صاعداً الدرج إلى مكتبي. كانت دار راندوم هاوس تشع سعادة ونجاحاً، وقد أصبحت حقيقة، بعد أن كانت حلماً جميلاً عند كل من وليم فوكنر، وجين جاكوبس، وبيل ستايرون، وتيد جيزيل، وجون أوهارا، وجيم ميتشنر، وروبرت بن وارن، عندما احتفظ أصحاب الدار بالمشكلات المؤرقة لأنفسهم بينما كنا نقضي أيامنا وليالينا بصحبة أولئك المؤلفين. كانت الشركة تجني الأرباح، لكن الناتج المادي كان مجرد وسيلة وليس هدفاً بعينه. ما كان يشكّل لنا أهمية قصوى هو العمل نفسه.
عندما التحقت بالشركة عام 1958م، كانت مبيعاتها تقل عن ثمانية ملايين دولار. ونظراً لأنها شركة ذات ملكية خاصة، فلم يولِ أيٌّ منا اهتماماً أو يدرك قيمة ذلك، إلى أن حوّلها المُلاّك إلى شركة عامة لتحديد حد أدنى للقيمة التقديرية لأغراض عقارية مستقبلية. وبعد استحواذ مجموعة من الشركات الصغيرة، بما فيها شركة ألفرد نوف، قام المُلاك، تمهيداً للتقاعد، ببيع الدار إلى شركة RCA عام 1965م مقابل أربعين مليون دولار، وكان مبلغاً خيالياً.
تصورنا أن شركة RCA التي تملك واحدة من أكبر شركات الإنتاج الموسيقي، تأثرت بقائمة أكثر الكتب مبيعاً لدى الدار، تم انتزاع شركة RCA من قِبل شركة جنرال إلكتريك، التي لم تجد سبيلاً إلى الانتفاع بها وسط محركاتها النفاثة، وقاطراتها، فتم بيع الشركة مجدداً إلى شركة كوندي ناست. وجدت دار راندوم هاوس نفسها في نهاية المطاف، مثقلة بالأعباء، فانتقلت ملكيتها إلى الناشر الألماني العملاق برتلسمان، مقابل بليون دولار، وعُدّ سعراً مذهلاً عام 1998م، بالنسبة لشركة ناضجة وناجحة في صناعة ثانوية. ببلوغ هذه المرحلة، تلاشت معالم الدار التي كنت أعرفها.
تحتوي الكتب، أكثر مما يؤلف في وسائل أخرى، على الحضارات، على ذلك الحوار المستمر بين الحاضر والماضي، من غير هذا الحوار فإننا ضائعون لا ريب. ولكن الكتب شأن تجاري أيضاً، وهو ما يدور عليه ثومبسون في كتابه. فهو من حيث كونه عالماً اجتماعياً يدرس في هذا الكتاب «تخصص» نشر الكتاب كما لو كان ثقافة غريبة. لقد «أصغى تماماً إلى أناس يتكلمون لغة لا يفهمها حتى أمسك أخيراً بقواعد نحوها فصار كلامهم عنده مفهوماً». من هذا المنطلق أعاد ثومبسون «بناء منطق تخصص صناعة نشر الكتاب».
إن ما بذله في كتابه من جهد غدا قصة ثقافة يتهددها الاضطراب وهي تواجه تغيراً عميقاً في طرائق إنتاجها وهو مثقل بماضيها بما يجعله غير قادر على اغتنام الفرص التي يتيحها التغير التقني.
لو تأتى لثومبسون أن يبدأ كتابه بما انتهى إليه، ووصف ثقافة النشر وهي في مرحلتها الانتقالية إلى المستقبل الرقمي، لكان قد أتى بقصة أشد إثارة.
بدأت مشكلة النشر بشكل عام في الثمانينيات، عندما انقلب كيان تجارة الكتب على نحو غير متوقع، نتيجة للتحول الديموغرافي من المدن إلى الضواحي. فلقد لاحت ملامح اختفاء أصحاب المكتبات العريقة والمستقلة والمدنية، واختفت معهم القوائم الثمينة للكتب الخالدة وملاك الكتب والكتبة المدركين لشغف قرائهم المميزين وميولهم. يرجع ذلك إلى أن القرّاء أنفسهم قد هاجروا إلى الضواحي. ظهر بديلاً عن المكتبات الحقيقية سلسلة من معارض الكتب الصغيرة في الأسواق العامة والمراكز التجارية، التي تدفع قيمة إيجار المعرض نفسه الذي يدفعه معرض بيع الأحذية المجاور معتمدة على الطريقة نفسها في جمع العائدات. أثرت هذه التحولات، أيضاً، في دار راندوم هاوس التي فقدت هويتها شأنها شأن غيرها من دور النشر. استعارت هذه المحال خطتها التجارية من مطاعم مكدونالدز للوجبات السريعة . فأصبحت الكتب تعامل معاملة سندويتشات الهامبورجر، كقطع سريعة الانتقال وبسلطة إغرائية ضخمة يعمل على تقديمها فريق عمل غير معقّد لطبقة عادية من الزبائن، تنظر إداراتهم إلى الكتب على أنها وحدات، بينما لم يعد هناك أي نوع من التواصل مع الناشرين.
هكذا ذابت قوائم الكتب الخالدة، وأصبح الناشرون يعلقون جل آمالهم الآن على أكثر الكتب مبيعاً. وهي بالنسبة لأولئك الناشرين الرأسماليين طامة وقعت على رؤوسهم، وطفرة بالنسبة لوكلاء المؤلفين الكبار الذين تمكنوا الآن من المتاجرة بأسماء المشاهير في مزاد علني، مجبِرين الناشرين بذلك على المخاطرة بضمانات أعظم؛ بهدف تحمل مسؤولية تزويد محال المراكز التجارية بأفضل الكتب المتاحة مبيعاً. وبهذا لن تتمكن من تكبد نتائج العجز وتعويض خسائر فشل هذه الضمانات وشحن النسخ غير المباعة وإعادتها إلى المخازن سوى الدور الثرية فقط.
منذ أصبح الحجم إلزامياً، كان لا مفر من التوجه إلى دمج الشركات ولا يزال التوجه نحو مزيد من الدمج. والنتيجة ظهور التكتلات المتداعية اليوم بعلاماتها الوهمية التي تدعمها طبقات من إدارة مكلفة وعاجزة في الوقت نفسه عن الاستجابة بكل المقاييس للتوسع الذي طرأ على السوق الرقمية، ما استدعى ابتكار أساليب جديدة أساسية لم يفرضها الناشرون، بل فرضتها السوق الإلكترونية نفسها؛ جوجل، وأمازون، وأبل. الأمر الذي يلقى استجابة ضئيلة ومتأخرة من قِبَل الناشرين.
في منتصف الثمانينيات، اقترحت على زملائي في راندوم هاوس أن نعمل على إنشاء فهرس، يرسل بالبريد المباشر، يضم حوالى 40.000 عنوان مختارة من القوائم الخاصة بجميع الناشرين حتى يسهل على القراء استعراض القوائم وطلب ما يشاؤون من طريق رقم مجاني. لم تكن التجارة عبر شبكة الإنترنت شائعة بعد، لكن تباشير العالم الرقمي كانت تلوح في الأفق، وأصبحت كلمة «وسطاء» ذات رنين خاص. وطرحت فكرتي في ضوء عدم مقدرة بائعي التجزئة المتزايدة على تخزين قائمة شاملة، ما يتيح لنا فرصة بيع قوائمنا للقرّاء مباشرة. كنت، بلا شك، أزمع اقتناص الفرصة التي سبقنا إليها موقع أمازون في الأخير. رفض زملائي الفكرة برمتها خوفاً من استثارة غضب بائعي التجزئة، وربما لأن القوائم المتداخلة تقترح إظهار ألفة غير لائقة بين المنافسين، كانت اعتراضات معقولة حينذاك.
إن التغير التقني مثمر. فالرهبان في حجرات النسخ في أديرتهم لم يخترعوا المطبعة، ومربو الخيول لم يخترعوا السيارات، وصنّاع الموسيقا لم يخترعوا أجهزة التخزين (iPod)، ولم يطلقوا مواقع مثل آي تونز iTunes. في مطلع القرن الجديد وجد الناشرون أنفسهم مقيدين داخل سجن التاريخ ومحاطين بالابتكارات الرقمية المباغتة، وقد فوتوا فرصة حرجة أخرى اختطفها موقع أمازون أيضاً، بتشكيل دليلهم الرقمي العالمي هذه المرة، وبذلك يقدِّمون خدمة مباشرة لمستخدمي الكتب الإلكترونية، وفق شروطهم التي يملونها أثناء قيام الموقع بجمع الأسماء وعناوين البريد الإلكتروني والأسماء المفضلة لدى الزبائن. وسيترتب على هذا الخطأ الاستراتيجي تبعات كبيرة لاحقاً.
يقول ثومبسون في كتابه: «مهما يحصل، فإن الكتاب في حالتيه المطبوعة والإلكترونية التي أصبحت تجذب القراء على نحو كاف سيبقى يلعب دوراً مهماً في حياتنا الثقافية والعامة. إن الكتب لهي شكل راقٍ من أشكال التواصل تتلاقى فيه عبقرية الكلمة المكتوبة في وسيلة للتعبير مع وسيلة للتواصل وعمل من أعمال الفن.
لقد أثبت الكتاب حضوره من حيث كونه أحد أكثر الأشكال الثقافية إرضاءً للذات، ولا يتصور أن يختفي في الوقت القريب. غير أن البنى الأساسية والعوامل المحركة التي غدت تميز عالم تجارة النشر ستهتز لا ريب بطرائق جديدة وغير متوقعة».
كيف سيكون عليه حال الكتب من بعد إنتاجاً وتوزيعاً؟ من سيقوم بهذا العمل أو ذاك؟ وكيف سيقومون بذلك؟ وأي دور سيلعبه من بعد الناشرون التقليديون؟ وأين سيكون محل الكتاب في البيئات الجديدة الرمزية والمعلوماتية التي ستظهر في السنوات القادمة؟ كل ذلك أسئلة ليس في حاضرنا جواب واضح عليها. مهما يكن من أمر، فثمة طرائق للتفكير في المستقبل الإلكتروني. وتتيح دراسة ثومبسون للوضع الراهن نقطة انطلاق جيدة في ذلك.
* أطلق جايسون إبستاين الطبعة التجارية للكتب ذات الغلاف الورقي في الولايات المتحدة سنة 1952م عندما كان محرراً في دابلداي. وكان مؤسساً لمطبوعة نيويورك ريفيو في سنة 1963م.