من أهمّ المقولات التي تتخلَّل الثقافة العربية المعاصرة، هي مقولة الصراع الحتميّ بين البداوة والمدنية، صراعاً صريحاً ومُضمراً، قيمياً وأخلاقياً كما عملياً. السنَد القريب لهذه المقولة هو غالباً مؤلّفات عالم الاجتماع العراقيّ الراحل علي الوردي، مؤسِّس التنظير الاجتماعي العربي المعاصر الذي ينسب الأزمات الحضارية في المدينة العربية إلى الصراع بين أخلاق البداوة وأخلاق الحضارة، من منظورٍ تطوّري يرى البداوة كحالة تأخّر وتخلُّف لا محيد عن تجاوزها تطوراً نحو حياة التّمدن.
أما السلف الأبعد للوردي وغيره فهو ابن خلدون الذي رأى في عصبية البداوة مادّة لغزو الـمُدن وإقامة الـمُلك، لكنها لا تصلح للحكم ولا إدارة الدولة وحياة الـمُدُن.
تُستحضر هذه المقولات (والتفاسير) غالباً في الصراعات: عواصم المشرق العربي تنبز عواصم شبه الجزيرة بالبداوة، وداخل عواصم شبه الجزيرة تتنابز المجتمعات الفرعية بينها أيضاً بوصمة البداوة، في الوقت الذي يفتخر فيه كلّ هؤلاء بالعروبة وبالأجداد الأقحاح وبشعراء الجاهلية الصعاليك، وأولئك المتقدمين ما هم إلا أجداد هؤلاء البدو المتأخرين الذين وقفوا خلال القرن العشرين على أطلال البداوة.
هناك مقولة تتكوّن اليوم لتواجه مقولات الوردي وابن خلدون وكلّ التراث الضخم حديثه وقديمه ضدّ البداوة، وهي محاولة عالم الأنثروبولوجيا السعودي د. سعد الصويان لتقديم قراءة غير تطورية للبداوة، غير صراعية، ذات أساسٍ بنيوي يمثل أرضية مثالية لفهم البداوة لا بصفتها عدواً للحضارة أو حالة متخلفة أو مقاومة للمدنية، ولكن بصفتها نمطاً من الحياة ولّدته مهارات التكيّف مع ظروف الصحراء ومتطلباتها، وما كانت النجاة فيها ممكنة لولا أسلوب الحياة البدوي. فما كانت الحياة في شبه الجزيرة لتوجد لولا حالة التضافر والتكامل بين الرعي والزراعة والبداوة والحاضرة.
ويقارب الصويان العلاقات البدوية-الحضرية قبل قيام الدولة الحديثة من منظورٍ غير صراعيّ، وإن كان يُقرّ بوجود مستويات من الصراع إلى جانب مستويات من الاعتماد والتكامل، ويُفاجئ القارئ الذي اعتاد كليشيه “البدويّ الغازي” بنموذج معقّد من العلاقات بين أهل البادية والحاضرة يتضمَّن التبادل الاقتصادي والحماية وتوزيع المهمّات ونطاق الاختصاص، فيقدّم الحضري التمر للبدويّ ويستأجر منه الناقة التي لا تتمّ عمليات “السني” والروي دونها، وتتردّد بعض القبائل بين الحالتين فتُقيم وقت مواسم الحصاد وترحل أوان الرعي، وينقسم بعضها إلى فرعين: حاضرة وبادية، ولم يكن الترحال ممكناً من جنوب الجزيرة إلى شمالها وبالعكس في رحلاتٍ تجارية وهجراتٍ جماعية وغزوات، لولا مهارات استئناس البعير وركوبه، وهي المهارة التي تتمحور حولها حياة البداوة.
يوسّع الصويان هذا المنظور فصلاً بعد آخر في كتابهِ “الصحراء العربية”، لكنه لا يتوقف عند حدود إعادة قراءة العلاقة بين البداوة والحضارة ويتجاوزها إلى تحليل أنثروبولوجي للثقافة البدوية وأيديولوجيتها، ويأخذها نحو استشراف إمكانات البداوة للمشاركة في الحياة الـمَدَنية ولا سيما السياسية في المدينة العربية المعاصرة. وفي هذه النقطة الأخيرة تحديداً، يجد قارئ الصويان نفسهُ أمام معضلة يبتكرها الكتاب ولا يُجيبها، وهي معضلة التحولات التي مرّت بها البداوة طوعاً وقسراً أثناء تشييد المدينة العربية، بطريقة أصابت مفهوم وممارسات البداوة بحدّ ذاتها بتشوهات لا رجعة عنها، ففقدت نمط حياتها القديم وأخلاقياته وبراغماتيته الفكرية والسياسية، واستولدت نمط حياة حضريّ ساكن غير براغماتي، ممتزج بعناصر مُعيّنة من البداوة انتُقيَت لتبقى بسبب وظيفتها الاجتماعية أو السياسية مثل أيديولوجيا النَّسب القبلي، وهي ليست بالعناصر النافعة الـمُثرية للحياة السياسية المدنية، على عكس افتراض الصويان في فصل “المشهد السياسي”.
لقد وقفت القافلة على أبواب المدينة، ودخلها البدو راجلين.