حياتنا اليوم

الفاترينة لوحة شارعيّة شاعرية
بين الإعلان عن كل شيء وأناقة الخطاب الفني

  • window03
  • 3322688
  • 50647942
  • 57625558
  • 90759969
  • apifera_by_Matthew_Plummer_Fernandez5
  • Apple_store_fifth_avenue
  • applestore
  • davidlynch_galerieslafayette1
  • lanvinwindow
  • louisvuittonstorewindow
  • RV001047
  • selfridges
  • selfridge-window-display-1920
  • window02

في لبّ ثقافة البيع والتسويق والترويج، فيما تقوله صراحة وما تبديه ضمناً، في ما تكشفه وما تستبطنه، تبرز «نافذة العرض الزجاجية» أو «الفاترينة»، كاسم دارج ومتداول، كواجهة إعلانية، في أفضل الأحوال العملية، تستدرج زبائن محتملين لشراء المعروضات. وفي أرقى الأحوال، فإن هذه النافذة تستحيل لوحة فنية، تشكيلاً ينطلق من تصور مصوغ من مفهوم يترفع بالمعروض من مبدأ «التسليع» الفظّ إلى إمكانات تجعل الرائي يتشوّف في الشيء المعروض جمالاً مرتجى ورغبة قبل الحاجة الفعلية للشيء. هي دعوةٌ من وراء الزجاج، تقول لك دونما مواربة: «هيا.. تعالَ واقتنيني!». حزامة حبايب تجول بنا أمام هذه الواجهات، وتقرأ خطاباتها المختلفة التي باتت مكونة مما يتجاوز الإعلان المباشر عن السلع، لتشمل أيضاً مركبات ثقافية وفنية، أو قل عصارة هذه المركبات التي يمكنها أن تشد المشاهد أو المتسوق حتى أقرب مسافة ممكنة إليها.

منذ زمن، ليس مستغرقاً في البعد تماماً، احتلت نوافذ العرض الزجاجية مقدمة المحال التجارية، كاشفة عن معروضاتها، دون كبير خيلاء، وذلك كجزء من استشراء ثقافة البيع بالتجزئة.

في البدء، كانت نافذة العرض أقرب ما تكون إلى «إعلان تجسيدي» عن موجودات المحل، عبر تقديم بضائع المحل، بقدر ما تسمح النافذة بالعرض، للمارين وللزبائن المحتملين، وإظهارها بصورة محايدة، دون تلاعب في المنتج المعروض بغية التأثير النفسي أو تشكيل عوامل جذب تجعل الزبون المفترض أو المحتمل يتلمّس حاجة فعلية لشراء المعروض.

والحق أن نوافذ العرض كانت جزءاً من المحل وامتداداً له، منذ تدشين النوافذ الزجاجية كواجهات تمتد من الأرض حتى سقف المحل إبان الثورة الصناعية التي انطلقت في القرن الثامن عشر وحتى القرن التاسع عشر، مشمرة عن ذراعيها في بريطانيا، محدثة تأثيراً بالغ العمق في البيئة الاقتصادية الاجتماعية والثقافية، قبل أن تنتقل «الغزوة» الصناعية والاقتصادية إلى أوروبا فأمريكا الشمالية ومن ثم بقية العالم.

لم تنبثق واجهات العرض الزجاجية كقيمة جمالية، وقطعاً لم تكن تستوعب فكرة «الإعلان الافتراضي» بمفهومه الحديث. كلُّ ما في الأمر أن هذه الواجهات كانت تظهر البضاعة المعروضة، كما كانت تعطي الزبائن لمحة عن المحل وطبيعته. وفي الوقت نفسه، كانت الواجهة منفذ البائع نفسه إلى الشارع، فيرى المارة المهتمين وغير المهتمين من دون محاولة من جانبه لاصطيادهم. بل لعل الوظيفة الأهم للواجهة الزجاجية، بعيداً عن الصيغة الترويجية والجمالية التي تأخرت قبل أن يتم اعتمادها في مفاهيم التسويق الحديثة، كانت في حماية البضاعة المعروضة من السرقة! إذ كان الزجاج إبّان الثورة الصناعية، التي صنعتْ مالاً وفيراً وفي الوقت عينه أوجدتْ فقراً مريعاً، حائلاً بين إغراء المعروضات وغواية السرقات المحتملة. وفي آخر الليل، إذ تغلق المحال التجارية، تُسدل الستائر الحديدية على النوافذ، كي لا تُكسَر غيلةً وقهراً وطمعاً!

حكمة الزجاج
منذ أن عرف الإنسان البيع، ابتدع الطرائق لترويج بضاعته، وفي طريق التاريخ الطويل من العرض وآليات العرض، احتلت واجهة العرض الزجاجية أهمية استثنائية، كوسيلة تقديم وتعريف للمنتج.

يشار إلى واجهة العرض باللغة الإنجليزية «Display Window» أو بالمصطلح الأكثر تداولاً «Shop Window» بالإنجليزية البريطانية، أو «Store Window» بالإنجليزية الأمريكية، وكلا المصطلحين يعنيان «نافذة المحل». من هذا المصطلح، بكل تجلياته، انبثقت في العقود الأخيرة الظاهرة المعروفة عالمياً بالـ «Window Shopping» أي التجول في الأسواق وتأمل المعروضات في الواجهة، والاستسلام لجماليات العرض، من دون شراء شيء بالضرورة، في ثقافة اقترنت بالحياة المدينية العصرية التي وسمتها المجمعات التجارية كمدن قائمة بذاتها، وتوحي لك لوهلة بإمكانية اقتناء العالم قبل أن تفيق من الوهم -إذا أفقت- لتكتفي في آخر المشوار وبعد تسوق مرهق بالعين، بآيس كريم أو وجبة سريعة «رخيصة»، أو مجرد متعة بصرية تدغدغ الحواس.

في ثقافتنا العربية الدارجة المركبة من عدد من اللهجات واللغات، نشير إلى واجهة العرض في العادة بـ «الفاترينة»، وهي كلمة محرّفة من كلمة «Vitrine» الفرنسية، التي تستخدم للإشارة إلى خزانة زجاجية لعرض الأشياء، وهي مشتقة من كلمة «vitre»، التي تعني بالفرنسية لوح زجاج.

قد يجوز لنا، قبل أن نستطرد، أن نتوقف عند العبرة أو الحكمة من الصندوق الزجاجي للعرض: هو لنرى من خلاله المعروض بكل يقين، لكن المسألة تتعدى الرؤية المحايدة. هو كي يجذبنا ويغرينا بيقين أكثر. مرة أخرى، المسألة تتعدى الجذب والإغراء. فالزجاج شفاف، يشف عن الشيء، ما يوحي -بطريق الوهم- أن الشيء في المتناول، لا شيء يمنعنا عنه. ومع ذلك، يظل الزجاج حاجزاً منيعاً، واليد لا تطول ما تريد. إن الزجاج كحاجز يبدو هشاً، قابلاً للتهشم، يملأنا باحتمالات ليست قابلة بالضرورة لأن تتحقق أو تُلبّى.

وإذا كانت مبادئ الاقتصاد التاريخية قد أدركت أهمية الترويج في عملية البيع والشراء، من خلال عرض السلع ضمن إطار أو واجهة ما، فإن اعتماد أسس وقواعد فنية جمالية في عملية العرض عملية مستجدة نسبياً، ويمكن القول إنها دخلت اقتصاد السوق، كجزئية لا غنى عنها، في العصر الحديث. ثم استحالت «الفاترينة» عملاً جمالياً ينطوي على شروط تعبيرية خاصة، في مزيج حيوي، مضبوط المزاج، من لون وضياء وظلال وكل العناصر التأويلية والتعبيرية المتخيلة، تحيل الواجهة إلى لوحة «شارعية»، لا تخلو من شاعرية تارة وغرائبية تارة أخرى، تحيلك إلى التوصيف الحقيقي للفن؛ بأن الفن الحقيقي هو الذي لا يعترف بحدود، وقاعدته ببساطة: كسر القواعد ووضع قواعد ومعايير جديدة على الدوام!

برز تزيين واجهة العرض في المحل في أواخر القرن التاسع عشر، وعلى الأرجح أنها وجدت أرضاً خصبة في العالم الجديد؛ أي في أمريكا قبل أن تعبر الأطلسي إلى بريطانيا وأوروبا. عُرف هذا الفن بالـ «Window Dressing»، أي تزيين النافذة، وهو مسمى -للمفارقة- ينطوي على ملمح سلبي، ذلك أن المصطلح عينه يُستخدم للإشارة إلى ممارسات تنطوي على غش وخداع في عالم الأعمال للتغطية على عمليات نصب واحتيال أو لإظهار حسابات شركة ما على غير حقيقتها أو خلافاً لما تشير إليه فعلياً.

وبشيء من «سوء الظن»، نستطيع أن نقول إن احتمال المصطلح لأكثر من تفسير ليس صدفة! فحين نتفنن في إبراز المعروضات في واجهة المحل من خلال بيئة ذات تشكيل جمالي، فإنما لجعلها تبدو أجمل مما هي عليه، أو لاختلاق الإيحاء بالحاجة أو الرغبة لدى الزبون، حاجته لاقتناء الشيء أو رغبته الماسة للحصول عليه بأي ثمن.

لكن لنطرح اللؤم جانباً هنا، ولنعد إلى تفسيرات أكثر براءة.. فتزيين نوافذ العرض تحوّل منذ مطلع القرن العشرين إلى فن قائم بذاته. يتكئ على تيمة، يستلهم تعبيراته، المقننة والمجنونة في آن، من الرسم ومن الأسطورة ومن الرواية ومن الشعر ومن الموسيقى ومن المسرح، وكل أنواع الفنون القابلة بطبيعتها الإبداعية للتطويع، فتخاطب العين الجاحظة وتستدرّ انتباه الحواس، غير المبالية، فلا تمر بها مرور الكرام.

فن تزيين النافذة
تحت عنوان «فن تزيين نافذة العرض»، نُشرت مقالة مسهبة في صحيفة «ذا نيويورك تايمز» الأمريكية، تتناول هذا الفن وأهميته والغاية منه، مع الإقرار بأنه ليس يسيراً وليس متاحاً في السوق، وأن حفنة قليلة فقط من الأسماء يمكن الاعتماد عليها، بحيث يستحقون لقب «فناني تزيين نوافذ العرض»، حتى وإن اقتضى الأمر استيرادهم أو حتى «سرقتهم» من محال تجارية منافسة! فعند تدشين محلّ تجاري، من السهل توفير كل عناصره من باعة وموظفين ومحاسبين وإداريين، لكن «فنان الواجهة» أمر لا يتعثر به أحدهم أو يصادفه في الطريق بيسر. بل إن المحال التجارية الكبرى هي التي توظف مصمماً خاصاً بها لنوافذها بحيث يبتكر تيمة تليق بالاسم التجاري، وتغدو مع الوقت منسجمة معه وامتداداً له، كفن كلما ارتقى بذاته وبعناصره كلما ارتقى بالتالي بقيمة المعروضات، «فيتمأسس» في الوجدان كقيمة وكنمط حياة.

تتوقف المقالة الوافية -التي لا مجال هنا لنقل أجزاء عدة منها- عند الغاية أو الهدف من نافذة العرض، فتوضح أن مهمة النافذة، كواجهة، هي حثّ الزبائن على دخول المحل. وكي نجعلهم يدخلون المحل علينا أن نقدِّم لهم شيئاً يرونه، وكي نجعلهم يرون يجب أن نعطيهم شيئاً جذَّاباً؛ بكلمات أخرى علينا أن نقبض على اهتمام العابر في الشارع. فإذا لم تكن لديه رغبة بالشراء يجب أن نوجد الرغبة لديه!

تتناول المقالة الصدمة أو الصرعة التي أحدثها قيام محل كبير في مدينة فيلادلفيا الأمريكية في واجهة العرض خاصته للترويج لوشاح رجالي جديد غزا ساحة الموضة في حينه. فقد تم تبطين النافذة كلها بالمخمل الأسود: الأرضية والجدران والسقف كلها تدثرت بالمخمل الداكن، وفي وسط النافذة، كانت هناك علاّقة عليها ياقة بيضاء مفردة، وقد التفّ حولها الوشاح الذي تم ربطه بعناية. حققت الواجهة نجاحاً منقطع النظير مع تجمّع حشد هائل من البشر أمام الواجهة يتأملون الوشاح المعروض بطريقة غير مسبوقة. بل إن الصحف تناقلت حكاية الواجهة، وما استتبعها من تحول الوشاح إلى قطعة الملبس الرجالي الأكثر شعبية. وتخلص المقالة إلى الدرس المهم في توضيب ديكور نافذة العرض في هذا «البيزنس» الذي يجمع بين شروط السوق وشروط الفن ألا وهو: إن عرض كل شيء لن يعرض شيئاً في النهاية. وأن الابتكار في عرض القطعة يوازي قيمة القطعة المبتكرة بل وقد يتفوق عليه.

هذه الواقعة لم تقع أمس أو قبل أعوام قريبة، والخلاصة لم تُستشفّ حديثاً. وقد تتفاجأون إذا علمتم أن المقالة التي نسوق لكم جانباً منها قد نُشرتْ فعلياً في الثامن من سبتمبر (أيلول) عام 1901م، أي قبل نحو مئة وعشرة أعوام. فهل كان هذا الفن سابقاً لزمانه؟ أم لعل قريحتنا هي التي تخلفت وخيالنا استسلم للكسل، إذ نقنع بأن نرى نافذة عرض اليوم وقد فاضت بكل موجودات المعرض على نحو يجعلنا ندخل المحل عارفين، أو نعتقد أننا نعرف، ما نريد من دون أن نترك فسحة في العين والنفس كي نقع على ما لا نتوقع؟!

جنون.. وبساطة
من المتفق عليه أن ثمّة خطوطاً أولية فنية يتعين الالتزام بها في تصميم نوافذ العرض، من حيث الخلفية والهارموني اللوني والضوئي والمزيج التفاعلي أو «الكيميائي التأثير» بين عناصر العرض، وما إلى ذلك من خصائص وسمات تدخل في معمار هذا الفن الذي بات مساقاً دراسياً في العديد من المؤسسات الأكاديمية حول العالم. ومن ثم، خارج الخطوط الأولية ثمة شرط انفلات الخيال والجنون، بقدر وافر منه، يسمح لنا بتخطي الممكن واللاممكن المتحقق، المحتمل وغير المحتمل المدهش، وغير الجائز الذي يجوز من منطق الريادة.

لكن الجنون على وفرته هو الذي يتمثل في فكرة بسيطة، قد تكون غاية في البساطة، بحيث إننا لا نلحظها أو لا نفكِّر فيها. ها هي واحدة من أرقى دور الأزياء في باريس تعرض أحدث تشكيلة أزياء لها العام الماضي مستعينة بمروحة هواء عادية جداً بثت الروح في أقمشة الملابس حتى تهيأ للناظر أن عارضاتها على وشك الوقوع أرضاً.

فن الفاترينات فن أصيل ومختلف ويدعو إلى التحدي والاختلاف، وإلا لما تجاسر على التورط فيه، عن طيب إبداع، فنانون «مجانين» مذهلون أمثال الفنان الأمريكي آندي وارهول، أحد رواد الحركة الفنية البصرية المعروفة بـ «فن البوب» في خمسينيات القرن الماضي، والرسام الإسباني سلفادرو دالي، الذي منح السوريالية رئة تعبيرية عريضة وثرية.

من حين لآخر، تطالع واجهات تستل منك الشهقة، أنت الذي خلت نفسك تجاوزت زمن الدهشة والشهقات. نستذكر معكم هنا حين طُرِح مشغل الموسيقى «آي بود هاي فاي» في الأسواق عام 2007م، في واجهة عرض محطمة إيحائياً. فلقد بدت الواجهة الزجاجية كأن رصاصة أو قذيفة اخترقتها في الوسط، في إشارة رمزية ربما إلى أن الصوت الذي يوفره الجهاز الجديد قادر على تهشيم الزجاج، أو لعل المراد هو إظهار المنتج الجديد وكأنه يحطم كافة المقاييس. أياً كانت الرمزية المتقصدة والمعنى المرتجى فإن الأكيد أن واجهة عرض كهذه هشّمت كل التصورات والتوقعات في الفكر والبال بما فيها تلك المغالية في تطرفها.

أضف تعليق

التعليقات