قول في مقال

قضية الترجمة
إشارات لابدَّ منها

أثارت قضية الترجمة التي تناولتها القافلة في عددها السابق اهتمام القرَّاء بشكل خاص، ومن التعليقات التي وردت إلى المجلة ما كتبه
جلال طه الخطيب، الرئيس السابق لقسم الترجمة في أرامكو السعودية، وأشار فيه إلى عدد من جوانب هذه القضية يرى أنها تستحق التفات النظر إليها أكثر مما هو حاصل اليوم.

بوصفي أحد المشتغلين بمهنة الترجمة، أود بداية أن أشكركم على المقالة التي أوردتها مجلتكم الغرَّاء عن «الترجمة، قضية على نار حامية» في عددها مارس/أبريل 2010م، الذي تطرقتم فيه إلى ما يجري على الساحة وتناولتم بالرصد والتحليل الجهود المبذولة في مجال الترجمة على مر العصور. وأتمنى أن يتضمن عددكم القادم ملخصًا لمقال الدكتور مراياتي الرائع عن «اقتصاديات الترجمة» حتى تسهموا في إلقاء الضوء على الجوانب الاقتصادية والثقافية المهمة لهذه المهنة الحيوية، وحبذا لو خصصتم باباً لمتابعة حركة الترجمة في العالم العربي وإصداراتها في أعدادكم القادمة -إن شاء الله-.

وأرجو أن تتسع صدوركم وصفحات مجلتكم الغرَّاء إلى بعض الملاحظات حول تاريخ الترجمة والجهود المبذولة فيها بدءاً بإسهامات محمد علي التي ارتبطت بها بواكير الترجمة المعاصرة، وما كان من جهود طليعية لرفاعة الطهطاوي، وما جاء بعده من مفكرين كانت لهم أياد بيضاء في حقل الترجمة، من أمثال كامل كيلاني وعميد الأدب العربي الدكتور طه حسين والدكتور سمير سرحان وغيرهم كثير، وانتهاءً بما يحدث على الساحة في الوقت الراهن من جهود المركز القومي للترجمة في مصر وشعبة الترجمة التابعة لمجلس الوزراء في المملكة العربية السعودية، وقسم الترجمة في أرامكو السعودية، وغيرهم من المؤسسات التي أسهمت إسهامات عملاقة في مجال الترجمة من العربية وإليها.

الريادة للطهطاوي
وبتفصيل أكبر، فإنه من ناحية التسلسل الزمني ارتبطت بواكير حركة الترجمة المعاصرة بالبعثات التي أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا. ومن بين تلك البواكير التي أسست لكثير من الجهود التالية، ما قام به رفاعة الطهطاوي، وهو محطة لا يمكن تجاوزها عند الحديث عن تاريخ الترجمة في العالم العربي، خاصة أنه هو صاحب أول مشروع لإحياء التراث العربي الإسلامي، وهو الذي كان وراء إعادة طباعة العديد من كتب التراث العربي، وهو الذي ترجم متون الفلسفة والتاريخ الغربي، ونصوص العلم الأوروبي، كما أنه هو الذي افتتح في عام 1835 ميلادية مدرسة الترجمة، وهي كلية الألسن الحالية، وعمل مدرساً بها ثم مديراً لها. وهو من أوائل المفكرين الذين وضعوا المعالم الأولى لمركب ثقافي جديد يجمع بين الحداثة والتراث، والمعلم الذي أصّل الأصول الحديثة لكثير من العلوم وأسهم فى صياغة أفكار الأجيال اللاحقة.

وقد تجلَّى المشروع الثقافى الكبير لرفاعة الطهطاوي في وضع الأساس لحركة النهضة التي صارت في يومنا هذا، بعد عشرات السنين إشكالاً نصوغه ونختلف حوله يسمى الأصالة أم المعاصرة. ففي الوقت الذى ترجم فيه متون الفلسفة والتاريخ الغربي ونصوص العلم الأوروبى المتقدِّم نراه يبدأ في جمع الآثار ويستصدر أمراً لصيانتها ومنعها من التهريب والضياع. وظل جهد رفاعة يتنامى ترجمةً وتخطيطاً وإشرافاً على التعليم والصحافة، فأنشأ أقساماً متخصِّصة لترجمة الرياضيات والطبيعيات والإنسانيات، وأنشأ مدرسة المحاسبة لدراسة الاقتصاد ومدرسة الإدارة لدراسة العلوم السياسية. وكانت ضمن مفاخره استصدار قرار تدريس العلوم والمعارف باللغة العربية (وهي العلوم والمعارف التي تدرَّس اليوم في بلادنا باللغات الأجنبية) وإصدار جريدة الوقائع المصرية بالعربية بدلاً من التركية، هذا إلى جانب عشرين كتاباً من ترجمته، وعشرات غيرها أشرف على ترجمتها. وأنشأ مكاتب محو الأمية لنشر العلم بين الناس وعاود عمله في الترجمة (المعاصرة) ودفع مطبعة بولاق لنشر أمهات كتب التراث العربى (الأصالة).

وقضى الطهطاوي العقد الأخير من عمره الحافل في نشاط مفعم بالأمل، فأشرف مرة أخرى وأخيرة على مكاتب التعليم ، وترأس إدارة الترجمة ، وأصدر أول مجلة ثقافية في تاريخنا رَوْضَةُ المَدَارِسِ ، وكتب في التاريخ (أَنْوارُ تَوْفِيقِ الجَلِيل فِى أَخْبَارِ مِصْرَ وتَوْثِيقِ بَنىِ إِسْمَاعِيل) ، وفى التربية والتعليم والتنشئة (مَبَاهِجُ الأَلْبَابِ المِصْرِيَّةِ فِى مَنَاهِج الآدَابِ العَصْرِيَّةِ)، (المُرْشِدُ الأَمِينِ للبَنَاتِ والبنَينِ)، وفى السيرة النبوية (نِهَايَةُ الإِيجَازِ فِى تَارِيخِ سَاكِنِ الحِجَازِ)، ومن مؤلفاته أيضاً (القول السديد في الاجتهاد والتجديد)، و(تعريب القانون المدنى الفرنساوى)، و(مغامرات تليماك)، و(قلائد المفاخر)، و(المعادن النافعة)، والكثير من المؤلفات الأخرى.

ولا يفوتنا أن ننوِّه أيضاً بجهود عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، ومشروعه القومي في ترجمة ألف كتاب عن لغات أجنبية مختلفة، وقد تمت ترجمة ما يزيد على (500) كتاب في ذلك المشروع. وجهود رئيس «الهيئة المصرية العامة للكتاب» الأسبق الدكتور سمير سرحان، عندما أسس سلسلة «الألف الثانية» من الكتب المترجمة، ومن قبله جهود كامل كيلاني الذي أثرى المكتبة العربية بالكثير من كتب الأطفال باللغة العربية الفصحى.

مؤتمر «الترجمة وتحديات العصر»
الأمر الثاني الذي أحببت الإشارة إليه، وقد يكون لاحقًا لكتابتكم للمقال، هو مؤتمر الترجمة الذي عقده المركز القومي للترجمة في مصر تحت عنوان «الترجمة وتحديات العصر»، واستمر لمدة أربعة أيام بمشاركة مائة باحث ومترجم عربي وأجنبي للبحث في قضايا الترجمة من 28 إلى 31 مارس 2010م، وتناول 11 محوراً من محاور الترجمة منها «تحولات نظرية الترجمة» و«الترجمة والهوية الثقافية» و«الترجمة في عصر ما بعد الاستعمار» و«الترجمة والعولمة وقضايا المصطلح» و«مشروعات الترجمة العربية ومؤسساتها» و«معوقات التمويل والنشر والتوزيع» وغيرها.

الجهود في المملكة
والأمر الثالث هو التنويه بفوز ترجمة كتاب «انهيار العولمة وإعادة اختراع العالم» للأستاذ محمد الخولي، بجائزة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز العالمية للترجمة في مجال العلوم الإنسانية من اللغات الأخرى إلى العربية، وما ينطوي عليه ذلك من إشارات. وقد ذكرتم مشكورين الجائزة كخطوة لتشجيع الترجمة والاعتراف بالجهود المبذولة فيها، والتي تأتي تتويجاً لجهود أخرى مثل إنشاء شعبة الترجمة التابعة لمجلس الوزراء السعودي وما تقوم به هذه الشعبة من مراجعات وجهود في مجال الترجمة، والجهود الحثيثة الحالية التي تبذلها الجامعات السعودية لتكوين فرق للبحث والترجمة تقوم بدراسة واختيار الكتب التي ترى وجوب ترجمتها من العربية وإليها، فضلًا عن الدور المزمع لمركز الملك عبدالعزيز للإثراء المعرفي «إثراء» التابع لأرامكو السعودية الذي سيكون -بإذن الله- علامة فارقة في تاريخ حركة الترجمة في العالم العربي، وأتمنى أن أرى مقالًا عن هذا الصرح العظيم في أحد أعداد مجلتكم قريباً.

الترجمة الجماعية
الأمر الرابع والأهم أن قسم الترجمة في أرامكو السعودية قد أضاف إلى إنجازاته المشهودة على مر العقود إنجازاً آخر انفرد به عن غيره من مؤسسات الترجمة ألا وهو «الترجمة الجماعية». فمترجمو القسم يستطيعون الاشتراك في ترجمة مشروع كبير للترجمة مستخدمين المصطلحات نفسها التي تم توحيدها وتغذيتها في ذاكرة آلية تتيح للمُراجع مراجعة جميع الأجزاء التي ينهي المترجمون ترجمتها والانتهاء منها في نفس وقت ترجمتها تقريباً، من دون تعطيل المشروع مع المحافظة على انسجام النص والمصطلحات ومن دون الحاجة إلى جهود إضافية لتوحيد النص. وهذه الميزة التقنية التي استفاد منها القسم وطوعها لاستخدامته لا تقتصر على تيسير المراجعة دون تعطيل، بل تساعد على إظهار الأجزاء المتشابهة والمتكررة لنص المشروع وإتاحتها لجميع أعضاء فريق الترجمة حتى لا يترجموا نفس النص بطريقة مختلفة. الأمر الذي يعد إنجازاً غير مسبوق يسجل لقسم الترجمة في شركة أرامكو السعودية، ويضاف إلى إنجازاته في استحداث آلاف المصطلحات والمسارد الفنية وإتاحتها للمترجم العربي بل ولمؤلفي القواميس الذين اقتبسوها وأشاروا إلى مصدرها، ولِمَ لا ومصطلحات القسم في مجال الشريعة على سبيل المثال لا الحصر، تقف سامقة حتى يومنا هذا ولم يأت بمثلها مبدع.

وأخيرًا وددنا لو أن مجلتكم الغرَّاء قدَّمت لنا ترجمة أو ملخصاً لترجمة كتاب نفيس في كل عدد مع قائمة بأحدث الإصدارات من الكتب، والكتب التي تزكونها للقارئ، فضلاً عن مقال على الأقل في كل عدد عن أحد مكونات أو أعلام الحضارة الإسلامية المشرقة التي أضاءت وجه الإنسانية، ليكون إسهاماً منكم في نشر الثقافة بين القرَّاء وأنتم أهل لذلك.

أضف تعليق

التعليقات