الثقافة والأدب

مالك رضا
في شرفة الكرامة
أنموذج من الأدب الإفريقي..

  • to-hussam

شكَّلت استضافة معرض الكتاب الدولي في الرياض لدولة السنغال هذا العام فرصةً قيِّمة سمحت للقارئ العربي بالاطلاع بشكل أفضل مما كان متوافراً على الثقافة الإفريقية. الأمر الذي عززته وزارة الثقافة والإعلام السعودية بترجمة مجموعة روايات إفريقية إلى العربية في خطوة من النادر أن نشهد مثلها.
الدكتور محمد ديرية يقرأ لنا واحدة من هذه الروايات بكل ما فيها من مزاج خاص في أدب نعرف عنه القليل، ويختار لنا بعض المقاطع منها.

لا سفير مثل الأدب، ولا سفارة مثل شاعر أو روائي يأخذ القارئ إلى عالمه متخطياً حدود الجغرافيا والتاريخ، أو يزور هذا القارئ بحقيبة ملأى بالمفردات وختمها بالمعاني، ليطوف به بملء اختياره في المناطق التي يريدها هذا السفير..

هذا العام، كانت دولة السنغال ضيفة معرض الكتاب الدولي الذي أقيم في الرياض، ولعل نافذةً جميلة وجديدة فتحت أمامنا على الأدب الإفريقي حين قامت وزارة الثقافة والإعلام السعودية بترجمة مجموعة من روايات القارة السمراء، لتعزِّز أواصر الصلة الممتدة في القدم، قِدَم الحج وارتحال الإنسان من مكان إلى آخر، وتزيدها عمقاً على عمق.

وقبل التوقف أمام واحدة من هذه الروايات، يمكننا أن نعدِّد باختصار ما تضمنته هذه الدفعة من الروايات المترجمة حديثاً والتي شملت:

رواية «نشيدة الأرجوان» للأديبة السنغالية ماريا مابا التي نالت جائزة «نوبا» عام 1980م عن روايتها «رسالة طويلة جداً»، المصنفة كثالث أفضل رواية في القرن العشرين.

ورواية «حراس المعبد» من تأليف حميدو كان، وهو صاحب الرواية الشهيرة «المغامرة الغامضة» المنتمية إلى مجموعة أعمال ظهرت في العالم الثالث وتبحث في مسألة الهوية ومفهومها والتحديات التي تواجهها، والتي قال عنها المؤلف: «ما دفعني إلى كتابتها ما بين عامي 1958م و1961م، هو التنقيب عن سيرة الأسلاف عبر تلخيص سيرتي الذاتية منذ أن كنتُ في الكتَّاب إلى دخولي المدرسة الفرنسية الثانوية. لقد تعرَّض هذا الكتاب إلى الكثير من النقد في الغرب، على الرغم من أنه يدرَّس ضمن مناهج جامعات إفريقية مهتمة باللغة الفرنسية، إضافة إلى عدد من الجامعات الفرنسية والألمانية والإنجليزية.

وشملت هذه المجموعة أيضاً رواية لأمين دياكاته بعنوان (الساحلي في لاغوس)، ورواية للسنغالي مباي غانا كابيه بعنوان (غورغي)، ومعلوم أن كابيه أستاذ متقاعد يتصدر الساحة الأدبية في دكار منذ سنين، بعد أن كتب عدة روايات ومسرحيات ومجموعات شعرية، بالإضافة إلى عدد من المؤلفات الموجهة إلى الأطفال مثل (الشفتان الزرقاوان).

وأخيراً، كانت هناك رواية (شرفة الكرامة) للكاتب السنغالي مالك ضيا، التي يمكن تناولها كمثال على الرواية عندما تكون سفيرة لقارة كاملة، ولكن قبل الدخول في تفاصيلها لابد من التوقف أمام حال الرواية الإفريقية ككل.

منطلق قراءة الرواية الإفريقية
الرواية في إفريقيا هي الشكل الأدبي الوحيد الذي ظهر بفعل استعارة صيغته من الخارج وفرضها على تطور النموذج الأدبي المحلي. وقد عبرت هذه الرواية بمراحل عديدة بدأت بالتعبير المسطح المباشر وصولاً إلى التجربة متقنة الصنع، وكعادة كل المنظرين لنوع معيَّن من الأدب، نشب خلاف بين دارسي الرواية في القارة، وانقسموا إلى قسمين: قسمٌ يرى أن الرواية الإفريقية أدب مستحدث قادم من الغرب، وقسم يرى أن هذه الرواية هي أدب إفريقي الهوية بالكامل.

ولهذا يرى البعض أن الرواية الإفريقية هي ثمرة جهود كبيرة بذلها الأفارقة في سبيل تطويرها من خلال ما أضفوه عليها من روحهم، ومن طبيعة القارة، ومن أدوات التعبير المتوارثة عبر الأجيال من الحكي الشفاهي والسرد، وعناصر اللغة والبيئة.

ومن الممكن دراسة مسار تطور الرواية الإفريقية عبر تقسيمه تبعاً لطبيعة اللغة التي كتب بها، في ظل التعدد اللغوي الذي تزخر به القارة، وما أضيف إليه من لغات نتيجة تنوع الاستعمار الذي غزا القارة وحاول أن يفرض عليها لغته محارباً اللغة المحلية، كما حارب في الوقت نفسه اللغة العربية التي كانت قد انتشرت في القارة مع انتشار الإسلام، وهكذا دخلت في نسيج الرواية الإفريقية لغات مثل البرتغالية والفرنسية والإنجليزية إضافة إلى اللغات المحلية العديدة.

أمام «شرفة الكرامة»
حين نتكلم عن مالك ضيا، فإننا أمام رواية سنغالية متأثرة بالأدب الفرنسي، في أجواء إسلامية قريبة جداً من الريف العربي، حيث هموم الهوية والخوف من اندثارها مع موج المدنية المندفع.

شرفة الكرامة ليست العمل الروائي الوحيد لمالك ضيا، الطبيب البيطري وابن السنغال، إحدى أخصب بيئات غرب إفريقيا صوراً وتنوعاً وإنجاباً للأدباء على مر العصور، فقد بدأ حياته الروائية مع رواية (المفهوم المستحيل) عام 1969م. ثم أثبت موهبته مع صدور (شرفة الكرامة) التي تتناول الصور المستلهمة من مواقف أسطورية وجمالية على حد سواء جمعها كلها في إطار القرية، حيث بدأت التقاليد تذوب شيئاً فشيئاً، وحيث التقدم لا يرحم أحداً، وحتمية المصير تنزرع في وعي الأفراد مع كل نزوح جديد باتجاه المدينة والمدنية.

في هذا العمل الذي أوفته حقه الجمالي ترجمة طوني يزبك، نصادف مأساة الأستاذة كورا باسين الراغبة في المحافظة على تقاليد القبيلة المتوارثة وعلى رأسها قانون الشرف في وسط التمدن، حيث تضيع ملامح الأشياء.

وباحترافية روائي عالمي، يتجاوز مالك ضيا توقيت حدوث الأشياء تاريخياً وكأنه يتحدث عن فضاء زمني مفتوح, قد يتكرر فيه الصراع، ولكن حتمية المكان تدفعه إلى اختيار قرية (جامي ريئيرول) التي يغرق في وصفها، لدرجة أنك تنتقل بكاملك إلى فوق تلال الجوباس ذات التضاريس المتعرجة، فتقرؤه يصفها بقوله:» تمتد الساحة بشكل مستطيل تزينها الأشجار التي تحمي بظلها الأطفال وهم يلعبون, كان هنالك ثمة شجرة قابوق جذعها ضخم جداً تبرز منه الإبر الغليظة , لم تبد أنها تخيف سحليتين تتسابقان وهما تصدران صريراً حاداً بقوائمها المقرنة».

في القرية، العائلة أولاً ..
تبرز موهبة مالك ضيا الفذة حين يبدأ بوصف العديد من الشخصيات وصفاً واضح الملامح، فهو يجمع بين الأشخاص في ملامح مشتركة، ولكنه يجعل لكل فرد صفة واضحةً عليه لا تخلط بها أحداً آخر معه حين يأتي على ذكرها، إنه يرسم الفرد بريشة الحرف، فتبدو ملامحه مألوفةً لديك كصديق قديم .

بطلة الرواية كورا باسين هي آخر العنقود، وبكر أبيها من زوجته الثالثة سالا ندياي.

كانت والدتها آخر من دخل البيت، وكانت لا تتوقف عن تذكيرها بهذه العبارة:» أنت فتاة يا ابنتي البكر, بيد أنك تتنافسين مع شقيقيك الرجلين, وعليك أن تتفوقي عليهما».

نشأت كورا في هذا الجو التنافسي، وحصلت على إجازة بتفوق من جامعة داكار, فامتهنت التدريس في أحد أشهر معاهد العاصمة.

لم تمنحها مهنتها مهابة أخيها الوزير غيران، ولا ثراء أخيها المحاسب تابارا، لكنها كانت سخيةً وبارعة الجمال.

تتعقد فصول الرواية حين تتزوج كورا من ماجوما المهندس العائد من فرنسا المغرم بحياة المترفين وأبناء الطبقة البرجوازية في داكار، يلمحها عند مكتب البريد فتخطف قلبه، تواجهه بعض المتاعب في الاقتران بفتاة قروية، ولكن التحديات تكبر عندما ينتقل بها إلى مدينة الكوادر حيث الجميع يتفاخرون بعدد الخدم في البيت، ومصيف العائلة في باريس، بينما تترسخ كورا قَدَماً في التقاليد يوماً بعد يوم.

لم يكن ماجوما الشاب ابن إفريقيا الفتية المنفتحة على الحداثة, يملك طموحاً آخر سوى النجاح في حياته العملية، التي شقتها له شهادته في الهندسة، بغية إشباع رغباته في أن يكون متفوقاً في المجتمع.

إن الصراع بين حداثة ماجوما وأصالة كورا يزداد عمقاً حين تصر على إحضار شاعرة إلى البيت، سيراً على نهج والدتها في القرية، وتزداد الهوة بين العلم والتراث، وبين لغة الأرقام وامرأة توزع الفائض من الطعام على عمال البيت الكثيرين.

المرأة في عالم الرجال..
بسلاسة غير تقليدية يصور لنا مالك ضيا كيف يمكن للفتاة أن تشق طريقها في أكثر المجتمعات تخلفاً وبدائية، وأن تتمكن في الوقت نفسه من فرض احترامها بتميزها على الجميع.

يستهجن في سرده مجموعةً من التعابير الإقصائية التي يمارسها الرجال ضد الأستاذة كورا باسين، وذلك أنها كانت تحرجهم بإخلاصها وتفانيها، بينما كان الآخرون قد اختاروا مهنة التعليم كوسيلة للعيش الكريم فقط !

يفتح ضيا النافذة على مدى قدرة الفرد، ذكراً كان أو أنثى، على الإبداع حينما يختار تخصصه وطريقه في الحياة بنفسه، وقدرته على تحويل شغفه بالمهنة التي يمارسها إلى إبداع مستمر.

في هذا الجو الذي ارتضته المدرسة مؤتلفاً مع قوانين العصرنة، بدت كورا باسين مثل عصفور يغرِّد خارج سربه وغالباً ما كان زملاؤها الأساتذة يتهامسون ضدها في حضرتها.

كان ناظر المدرسة وقحاً، فلم يمنع نفسه ذات يوم من أن يوجه ملاحظةً مباشرةً لكورا باسين حول ملابسها التي لا تتلاءم مع الحياة الصيفية، فعاجلته ابنة القرية وكأنها كانت تتحفز للرد عليه منذ أمد طويل: «سيدي الناظر العام، حصلت على إجازتي وأنا أرتدي هذا اللباس الذي يصدمك, أو ليس المطلوب أن أنجز عملي كاملاً ؟!».

كان الجواب عدائياً لدرجة أن الناظر العام تراجع وتقهقر صمتاً وحرجاً أمام نفسه وأمام جميع الحاضرين.

قوانين القرية تتقدم نحو المدينة..
كانت كلفة اليد العاملة بخسةً جداً في العاصمة، خاصةً تلك القادمة من الجوباس، قرية كورا باسين، لكن وجود خمس خادمات في منزل ماجوما كان يثير غيرة شديدةً بين أوساط الجيران، ولم ينفك ماجوما يثير الموضوع أمام زوجته، لكن من دون إلحاح واضح. وتجد كورا باسين بدورها أن في الأمر محاولة لإثارة الفتنة بين الزوجين من قبل الحساد. بيد أنها وبعناد شديد، رفضت التخلي عن مواطناتها من الجوباس، وصمّت أذنها عن تلك الأقاويل، وعملت بوصية والدتها: «إذا أردت تطويع زوجك فلا تعانديه, بل كلميه بصوت ناعم لا يلين».

طبقت كورا باسين تعليمات والدتها بحذافيرها. كان زوجها يذكرها دائماً بعدد الخدم الكبير ووجوب الالتفات إلى صميم النفقات وضرورة التوفير، بيد أنها كانت تجد دائماً الكلمات العذبة لتخفف من سخطه وتحتفظ بالخدم.

لم تكن كورا باسين تعبأ كثيراً بمفهوم الاقتصاد الذي كان زوجها يروِّج له. فهي ابنة تقاليد ريفيه تؤمن بالاشتراك في كل شيء, لا تعي كيف أن الخدم الذين يعيشون في المنزل يأكلون من الطعام الذي يوفر لهم، ويتنعمون بالخيرات المادية المتاحة لهم , ويأخذون فوق كل ذلك مرتباً مالياً معيناً !

كانت أمها التي ربتها على هذه المفاهيم ترسل لها الخدم من أبناء الجوباس، ولم يكن هؤلاء يطالبون بالراتب، إذ تكفيهم منزلة كورا باسين الاجتماعية الرفيعة, وافتخارهم بأن سالا ندياي وقع اختيارها عليهم. كانوا يمنون النفس بما ستغدقه عليهم كورا باسين بسخاء حاتمي، حتى تتردد أصداء أفعالها في كل بيوت الجوباس وتختال أمها فرحاً .

لكن قيمة ما كانت توزعه كورا باسين على حاشيتها فاق أضعاف الأضعاف الراتب الشهري المعين لكل خادم من قبل (نقابة خدام البيوت) التي كانت موضع افتخار النقابين الذين انتزعوا هذا الحق للعمال .

كان ماجوما يفضل، جرياً على عادة الأوروبيين، منح راتب معيَّن للخادم لا يشمل الطعام ولا حتى المياه للاغتسال, ناهيك عن كلفة الطبابة والاستشفاء!

لم يتوصل الزوجان إلى حل، ولم تستطع كورا باسين أن تفهم هذا الإجراء الذي يُعد ضرباً من الخيال في عائلة إفريقية تقليدية , لذلك بقي جيش الخدم حيث هو.

كانت تقول لزوجها: «لدينا مبدأ ونمط حياة، لا أستوعب فكرة الاحتفاظ بطعام بائت في الثلاجة أو حتى رميه في القمامة, بينما ثمة من يعمل في خدمتي يستطيع تناوله أو يحتاجه لأطفاله نهاية اليوم».

«أجل, يجيبها ماجوما , هذا لطيف للغاية. ولكن هناك تكاليف باهظة، بإمكاننا أن نقتصد مبلغاً محترماً منها إذا وفرت ما توزعينه على الخدم، وإذا قللنا من عددهم، سنعمد إلى فتح حساب مصرفي نضع فيه هذه الأموال لأولادنا الذين سيحتاجون لهذه الأموال في القريب العاجل!»

«أنت محق ياماجوما، ولكن هل فكَّرت في المكانة الاجتماعية التي يشغلها كلانا؟ هل شاهدت زوجة مهندس بمستواك في منزل فاخر كهذا تنشر الغسيل وتمسح الأرض؟ هل تريد أن تهترئ يداي حتى تذهب وتبحث لك عن زوجة أخرى؟».

كانت هذه المطالعة كفيلة بثني عزم ماجوما عن المضي في الحديث والنقاش. فحتى أمه التي كانت متمسكة بعظمة ابنها اجتماعياً كانت تنحاز لصف كورا باسين وتقول:
«مالنا ولك بكل هذه الشروحات عن الاقتصاد ياماجوما.لاتستطيع زوجتك العمل في مشاق الأعمال المنزلية طالما تستطيع أنت أن تجنبها ذلك».

وكانت كورا باسين تجيد فن إطراء حماتها، وذلك من خلال إشباع نزوتها، طبقت ابنة سالا ندياي البند الثاني من تعاليم أمها: «إذا أردت مصادقة زوجك، فاعتني جيداً بأمه!».

ثقافة الجوباس في كل بيت..
تستمد «شرفة الكرامة» قوتها من عمق التجربة الإنسانية المشتركة لدى البشر أينما كانوا. فهي تلتقي مع الرواية العربية حين تتحدث عن قصص الانتقال من البادية إلى الحاضرة مروراً بالتطور الطبيعي للقرية والمدينة، وكيف أن كل تفصيل من تلك التفاصيل جاء في سياق اجتماعي وتاريخي منفصل.

كورا باسين المتمسكة بثقافة شعبها، هي التي تقف أمام زوجها صاحب الثقافة الأوروبية حين يقرر وضع والدته في مأوى للعجزة تحت ذريعة المحافظة على استقلالية العائلة وحرية الأزواج. وهي نفسها فتاه القرية التي تلقت دروسها في مدرسة (جامي ريئيرول) حيث لا أسفلت ولا مصابيح نيون، تعيش مع أحلامها حتى تغدو معلمة الأجيال الأولى المحببة لدى الأطفال في مدينة الكوادر.

حوارها القصير مع الناظر العام يثبت أن الجذور العميقة للهوية المحلية لا يمكن اجتثاثها بهشاشة الخضوع لرياح التغيير الثقافي القادمة من الشمال. وعيها الدائم بواجباتها نحو مجتمعها وقريتها الصغيرة يجعلها متطلعة دائماً إلى النجاح، بل هي تحاول إشراك أكبر عدد من أهل الجوباس في مجدها الشخصي. توددها الدائم وتطبيقها لنصائح أمها المتوارثة في كل الثقافات يجعلها ربة بيت ناجحة على امتداد السرد.

«شرفة الكرامة» رواية مجتمع خرج للتو من عباءة المستعمر الفرنسي حيث الصراع بين لغته ولغة أهل «الجوباس»، بين عادات الطبقة المتعلمة على يديه، وقيم النازحين من الجنوب.

إنها قصة القرية والمدينة في كل حين، تلبس ثوباً سنغالياً طويلاً هذه المرة، يفصله طبيب بيطري يدعى مالك ضيا، وتنقله الترجمة الرائعة إلى أصقاع الدنيا.

شرفة الكرامة
مقتطفات من الرواية
المقطع الأول
زمن الغزال الزاهي

أتت كورا باسين وطلبت من والدها موافقته على زيارة صديقها من داكار لتعرِّفه عليه، كان الوقت مساءً وأماري ياندي، والدها، مستلقياً على كرسي طويل في شرفة المنزل وأهل بيته يتحلَّقون حوله.

كان يصغي لآيات من القرآن الكريم، مسجلة على شريط بواسطة آلة تسجيل أهدته له كورا، ويهز رأسه في خواتيم كل تلاوة.

عندما سألته كورا باسين انتفض بعنف لدرجة أنه قلب آلة التسجيل ثم انتصب بعنف دون حراك ونبس: «أنت! صديق, في بيتي! من هو هذا الصديق؟ كيف تصادقين شخصاً لا أعرفه, لا يعرفه غيران وتابارا؟ ماذا يريد؟».

حملقت كورا باسين لهنيهة في عيني والدها المحتقنتين بالاتهام، ثم صوَّبت نظرها إلى الأرض لتجيب: «أبتاه .. اسمه ماجوما، يعرفه غيران وتابارا جيداً ولو لم يقولا شيئاً، إنه مهندس يعمل في البريد في داكار، كنت بصدد وضع رسالة في المركز عندما صادفته، حصل ذلك منذ أكثر من سنة، أبلغني رغبته في لقاء عائلتي، لديه ما يقوله لك».

قالت كل تلك الكلمات وهي تقلِّب يديها المضمومتين بتوتر بالغ، بينما كان صدرها يخفق صعوداً ونزولاً وفق إيقاع ضغطها الدموي!

بدا أماري ياندي على وشك الموت اختناقاً، وقد أغاظه ما سمعه للتو من ابنته: «هه طيب! أهذا كل ما تعرفينه عن هذا الشاب؟ تصادقينه في مركز البريد وترغبين في دعوته للمنزل؟! من هو والده؟ ومن هي أمه؟ لم أرسلك إلى داكار لمقابلة الرجال، بيد أن الضيافة من شيم عائلتنا الكبرى، ليحضر صديقك، سيجدني في جامي ريئيرول».

المقطع الثاني
صراع الظلمات

عقد القِران بحسب العرف الذي يجمع بين الشريعة الإسلامية الواضحة وفخر التقاليد المتوارثة لدى شعب يستميت في الدفاع عن هويته، لفظ [الشيخ] خطبة القِران كما هو متعارف عليه، وليظهر عراقة علمه بين مريديه، بدأ خطبته باللغة العربية، تكلم مطولاً أمام جماعة صامتة كانت تهز رؤوسها مرددة كلمة «آمين» في ختام كل جملة.

وحدس له أن كلامه غير مفهوم، فأعاد ولكن بلسان «الولوف» محاولاً خفض صوته لأحد معاونيه الذي يمتاز بصوت جهير ويردد كلامه لبقية الحضور. كان [الشيخ] فياضاً بقدر ما كان بليغاً، تناولت خطبته بعض وجهات النظر حول شتى الموضوعات، مستعملاً أسلوباً تبسيطياً خالياً من الغرابة. فتكلم عن السياسة والاقتصاد والدين وتعدد الزوجات، قبل أن يدلي بالنصائح لكورا باسين التي يجب عليها استناداً إلى القرآن الكريم والتقاليد أن تكون مطيعة لزوجها: «يجب أن تطيعي زوجك طاعةً كاملة».

حضر الشاعر من جماعة ماجوما مع ممثلي العريس فقام وتكلم بإسهاب، ملقيا خطاباً مميزاً وعذباً مادحاً [الشيخ]. وفي نهاية خطابه، استطاع أن يجعل حالة من المرح تسود في الحضور لدرجة أن الجميع تخلوا عن تشنجهم. حتى [الشيخ] استمتع بما أجاد به ماأمادو (محمد).

المقطع الثالث
البيت فوق المرتفعات

بني البيت الذي سكنه العروسان فوق تلة تشرف على مجموعة سكنية كبيرة يطلق عليها هنا: مدينة الكوادر.

في هذه الناحية تفرض النظافة نفسها على المنازل الأنيقة المنتشرة على جوانب الشوارع العريضة المتقاطعة، والتي ترسم الجادات بمربعاتها الخضراء في المدينة التي تكويها شمس الساحل.

كانت مدينة الكوادر مفخرة الحكومة، تجعل الزوار الأجانب يزورونها عن عمد، للمباهاة بالتقدم العمراني والرفاه الاجتماعي، أما الأقلية التي تسكن هنا فقد فقدت كل ما يربطها بأصولها الفلاحية.

كان الهدوء يسود هذه الناحية في فترات ما بعد الظهر، فلا تعكرها صرخات أولاد الفقراء بثيابهم المقطعة وهم يلعبون كرة القدم في مدن الصفيح الخانقة، ولا المدائح الدينية التي يرنمها عشرات المتسولين من الأحياء الأخرى.

ففي هذا الربع، بنيت الفلل الأنيقة على طراز أجنبي كما جعلت سطوحها أسطوانية وكأنها معدة بطريقة تجعل الثلج ينزلق عنها .

هذا الطراز الجديد أصبح على الموضة وهو يتألف من نتوءات وتموجات تتداخل في حيوية لوحات ذات ألوان وحشية.

تمثل مدينة الكوادر إفريقيا التي تبنتها أوروبا في دوامة تصدح بالبذخ. إذ بنيت لتفرح قلب الغريب الذي يأتي بحثاً عن الغرائب وابن إفريقيا الذي جبل على المحاكاة والاستهلاك، ولكي تغري الفقير من شوارع البؤس في مكبوتاته الدفينة.

لن تعثر في مدينة الكوادر على حميمية إفريقيا الإنسانية كالتي تعثر عليها في الأكواخ وتحت الأشجار الباسقة التي يتسامر تحتها أبناء القبيلة، إذ فقد سكانها متعة المعاشرة وتبذير الوقت.

كان السكان يتجاهلون بعضهم البعض، ينزوون في سكينة بيوتهم الصلدة حامية أنانيتهم الضيقة. ينشغلون في استهلاك منتوجات حضارة تفرض نفسها بفاعليتها أكثر مما تفرضه نفحاتها الروحية.

مدينة باتت معزلاً لتقاليد ليست تقاليدنا، زرعت في خاصرة شعبنا الذي يحملق بعيون تلتهمها الرغبة في محاكمة من كانوا السبب.

أضف تعليق

التعليقات