قول آخر

هل انتهى حقاً عصر التفعيلة؟

ثمة مَنْ يرى أن قصيدة النثر هي الإنجاز المهم والأبرزُ على الساحة الثقافية العربية منذ عقود عديدة، وقد تربط بعض وجهات النظر هذه المسألة بما يسمّونه نضوب شعر التّفعيلة وتوقفه عن تقديم أسماء متميزة بالتزامن مع سيطرة نموذج قصيدة النثر.

إن واقع قصيدة التفعيلة لا يشيرُ إلى إمكانية الوصول إلى القناعة بانتهاء عصرها. ولكن ما حدث في وسطنا الثقافي أن تجربة ما يسمى: قصيدة النثر «عُمِّمت، وسُخِّرت لها إمكانات ثقافية وإعلامية ونقدية فاعلة، مصحوبة بمقولات ليست دقيقة، تنال من أي شعر يمت بصلة إلى الإيقاع العربي.

إن هيمنة نموذج «قصيدة النثر» وتكريسه عبر وسائل إعلام ثقافية صحفاً ومجلات وندوات ودور نشر ومراكز ثقافية أوروبية في الوسط العربي، أدى إلى تشكيل موقف مشحون بالجفاء الكبير لكل من لا يتفقُ مع هذا النموذج، كتابة وتنظيراً. وبالضرورة، يخرج شعر الإيقاع عن هذا النموذج الذي بات يشكِّل مثالاً جاهزاً لكثير من الأجيال الجديدة التي تشعر بقلق الانتماء واضطراب الهوية وضياع المُثل العليا، فتجد فيه ملاذها الجمالي، أو مستقبل الشعر العربي برمته. لأن نموذج «قصيدة النثر» متوافر على قدر هائل من الحرية والهروب من المعايير والأدوات، مع أن الموقف النقدي العقلاني من قصيدة النثر لا يرى فيها تلك السهولة ولا ذلك الفضاء المتراخي والمهمل الذي يحق لكل من كتب مجموعة خواطر أن يدرجها تحت عنوان «قصيدة نثر»… أي أن أصحاب هذا النموذج أنفسهم ينقلبون على تقاليد هذا النمط من الكتابة، لأنهم في معظمهم مارسوه بلا قراءة لتاريخه ونشأته، بل أتوا عن تصور لا ينقصه الوهم في أنهم وجدوا الخلاص.

في هذا المناخ، ستحارَب قصيدة التفعيلة وتُتهم بالوقوف عائقاً أمام حراك التاريخ، وسيكون الرأي فيها وفيمن يتجرأ عليها من الأجيال الجديدة واللاحقة، رأياً شمولياً تعميمياً، غير تاريخي، أي لا يبحث في إمكانات بروز أصوات مهمة بعد الأجيال الأولى من الحداثة، لذلك فهو موقف يتضمن الإيمان بمجموعة معتقدات راسخة تأخذ طابعاً يقينياً واثقاً، لا يقبل التطور ولا التغيير. وهذا أمر مناهضٌ لطبيعة التفكير التاريخي والمنهجي الموضوعي.

ولن يكلِّف أصحابُ هذا الموقف أنفسهم عناء المتابعة والمثابرة لما يجري حقاً على الميدان، لا في رؤوسهم ومزاعمهم فقط. لأن البحث عندها سيوصلهم إلى حقائق تاريخية لا تتناسب واستنتاجاتهم… سيعثرون لا ريب، عند الانطلاق من ضرورات البحث النقدي وحده، على أسماء مهمة في سورية والعراق ولبنان ومصر وفلسطين والأردن والسعودية واليمن وعُمان، أسماء تمارس طقس «قصيدة الإيقاع» بجدارة وخصوصية، مضيفة إلى المنجز الشعري الإيقاعي العربي لمسات واضحة لا يمكن أن تخفى على عين موضوعية… ولكن هذه التجارب بحاجة إلى عقل نقدي في الوسط العربي يقوم بدوره الحر لا الموجَّه ولا المنطلق من قناعات مسبقة الصنع. إذ من المفيد حتى لمتعة هذا العقل النقدي وفرحه بلذة الاكتشاف، أن يتنازل قليلاً عن نتائجه الموضوعة قبل البحث، المرسومة بألوان قاتمة، ليبصره حراً فاعلاً، فقد يرى وراء طبقات الظلام الكثيف أن هناك إضاءات فاعلة مهمة في نموذج شعر التفعيلة، وأن الأمر ليس بهذا السوء الذي يتخيله.

أضف تعليق

التعليقات