بعض الأطفال لديهم سلوك غريب يظهر في الحديث مع شخصيات غير مرئية، فيتساءل الأهل بذعر..
هل طفلهم ممسوس أم مريض نفسياً؟!
تناولت بعض الأفلام السينمائية ظاهرة الصديق المتخيل بحبكات درامية مختلفة، إذ تم توظيفه لإثارة الرعب والتساؤلات
في طفولة بعضهم صديق مُتَخيل يركن إليه، يحادثه ويبثه همومه وشكواه. يختلق له اسماً وشكلاً من وحي أفكاره وبنات حيله. لا يراه أحد من الناس إلا هو، فهذا الصديق مرة يكون تحت السرير، ومرة في خزانة الملابس، أو داخل صندوق الألعاب. يأتي متى ما استدعاه، طفل في نفسه شيء من شغف الألفة ومحبة الآخر. فيحادثه ويلعب معه، وربما اختلف معه وغضب منه.
لماذا يلجأ هذا الطفل إلى خياله في البحث عن أصدقاء وهميين؟! هل يرجع السبب لعدم حصوله على أصدقاء يشبهون ميوله في عالمه الواقعي؟ أم هو هروب من الأسرة والإخوة؟! الصديق الوهمي: هل هو ظاهرة مرضية؟ أم طبيعية؟ وهل هذا السلوك يتفاقم مع مرور الوقت؟ أم يضمحل؟! أسئلة كثيرة ولحوحة يطرحها الأهل عندما يواجهون هذا السلوك الغريب والمريب من قِبل أطفالهم.
تناولت بعض الأفلام السينمائية ظاهرة الصديق الوهمي بحبكات درامية مختلفة، إذ تم توظيف هذا الصديق المتخيّل لإثارة الرعب في نفس المشاهد حيناً، أو لإثارة تساؤلاته حيناً آخر. لقد استغل صُناع الأفلام هذه الظاهرة النفسية في الترويج لأعمالهم الفنية، فظهرت أفلام حول هذا الصديق المُتخيل مثل فلم «الحاسة السادسة» الذي تدور أحداثه حول طفل في الثامنة من العمر اسمه كول، تلحظ عليه والدته أنه يتحدث مع أشخاص غير مرئيين. في بادئ الأمر، لم تلق بالاً، لاعتقادها أن طفلها يستحضر أصدقاءه المتخيلين. لكن الحقيقية التي أرادها صُناع الإثارة غير ذلك. كذلك تطرق فلم الغماية «هايد آند سيك» إلى هذه الظاهرة بمنظور مرعب، إذ تدور أحداثه حول طبيب نفسي، تعيش معه ابنته الصغيرة إميلي التي تقوم بينها وبين صديق مُتخيل اسمه شارلي علاقة صداقة، ما لبث أن تكشفت معها أشياء غريبة. إن الرؤية الفنية التي تخضع للإثارة جعلت من شارلي وحشاً بشرياً، مثلما جعلت من أصدقاء كول في «الحاسة السادسة» موتى! لكن ما يؤسف له أن الإضاءة حول هذه الظاهرة في الأفلام جاءت في سياق صناعة الإثارة فقط، وذلك بإضفاء أجواء مثيرة على المشاهد من خلال الأطفال الذين يلجؤون، عادة، إلى خيالهم لاستحضار أصدقائهم.
الأصدقاء المتخيلون في الواقع!
بعيداً عن السينما وإثارتها، نجد أن الأصدقاء المتخيلين، حسبما جاء في الدراسات الحديثة التي قام بها متخصصون في مجال صحة الأطفال النفسية، هم ظاهرة منتشرة بين الأطفال من سن الثانية والنصف حتى سن السادسة. وخلصت دراسات بريطانية شملت أكثر من ألف منزل، إلى أن بين كل خمسة أطفال يوجد طفل لديه صديق متخيل. كما أن نسبة الفتيات اللاتي لديهن صديقات متخيلات تزيد على نسبة الفتيان، إذ بلغت نسبتهن ٪62، بينما الفتيان يشكلون ٪38. ويرى الاختصاصيون أن هذه الظاهرة لا تستدعي الخوف، فهي تنمي مهارات الحوار، واللغة، ورسم السيناريوهات. وبناء على ذلك، وبحسب دراسة أسترالية بريطانية مشتركة بين جامعتي مانشستر في المملكة المتحدة وجامعة لاتروب الأسترالية في عام 2009م، أثبتت أن الأطفال الذين لديهم أصدقاء متخيلون هم أكثر إبداعاً ومقدرة على الإقناع ومجادلة البالغين من غيرهم. فهم يقودون الوقت الذي يقضونه مع أصدقائهم المتخيلين ويديرون دفة الحوار كما يودون هم أنفسهم، لا كما يود الأصدقاء المتخيلون. الجدير بالذكر أن هذه الظاهرة، كما يُرجح الاختصاصيون، تبدأ بالزوال بعد سن السادسة، وربما تستمر حتى العاشرة من العمر، لعدم وجود صديق حقيقي يقوم مقام هذا الصديق الوهمي الذي شكّله الطفل كما يحب.
صناعة الصديق المتخيل
إن هيئات المتخيلين الذين يتخذهم الأطفال أصدقاءً لهم ربما كانت من ابتكاراتهم الخاصة، أو ربما كانت شخصيات مغرقة في الغرابة من ابتكار صُناع أفلام الكرتون، فيتخذها الطفل صديقة له لغرابتها أو للونها الجذاب أو صوتها الذي يثير حواسه وسمعه. مع ازدياد عدد القنوات الفضائية المتخصصة للأطفال، ومنافسة شركات الإنتاج التي تبتكر شخصيات كرتونية مختلفة، أصبحت غرف الأطفال مرتعاً خصباً للأصدقاء المتخيلين مثل سبونج بوب، و«منزل فوستر للأصدقاء المتخيلين» وهو مسلسل مدبلج يعرض في بعض القنوات العربية، ويناقش هذه الظاهرة ببعد مناسب للأطفال. يجتمع كل الأصدقاء الخياليين من مختلف أنحاء العالم في هذا المنزل، لكنهم يتحولون إلى أصدقاء حقيقيين عندما يبدأ الطفل يتخيلهم، ويتخيل سلوكهم. إن هذا المسلسل الماتع يناقش الظاهرة بطريقة تحمل من المفارقة ما يجعلنا نتساءل: كيف أن الصديق الخيالي يحتاج، أيضاً، إلى صديق حقيقي. لذا كان على الأهل أن يناقشوا مع طفلهم صديقه المتخيل، كأن يسألونه: كيف شكله؟ ماذا يقول له؟ عما يتحدث معه؟ لأن وجود هذا الصديق غير المرئي ليس هلوسة أو جنوناً، إنما هو مؤشر لبداية ظهور ملكة الخيال لدى الطفل.
حبيب مُتخيل
كاتبة قصص قصيرة لديها تجربة مع الصديق المتُخيل، تقول: «مثلما لبعض الأطفال أصدقاء متخيلون، كذلك كان لي في طفولتي حبيب وصديق خيالي من كرتون. لم يكن هذا الصديق من بنات أفكاري، بل كان من صنع أفكار الروائي الاسكتلندي روبرت لويس ستيفنسون، صاحب الرواية الشهيرة «جزيرة الكنز» التي تحوَّلت إلى فلم كرتوني، وبطلها القرصان سيلفر ذو القدم الواحدة! كبرت وأنا أحب سيلفر وأعشق صوته العميق، وشعره الأصفر وأكتافه العريضة، وذكاءه الفذ، وقوته التي لا تقهر. فلقد كان فارساً لأحلام يقظتي. هذا الحبيب جعلني أتقصى المعارف، وأبحث عن كل من له علاقة بهذه الشخصية بدءاً من المؤلف الإنجليزي وانتهاءً بصاحب الصوت الذي دبلج صوته في الرسوم المتحركة. قرأت الرواية العالمية الأصلية «جزيرة الكنز»، وبحثت عن سامي كلارك المغني اللبناني صاحب الصوت، وعرفت أن الرسوم لم تكن إلا من ابتكار شركة يابانية متخصصة في الرسوم المتحركة. اكتشفت أن صديقي المتخيل «سيلفر» لم يكن إلا نتاج هجين ما بين عربي وإنجليزي وياباني. ولا وجود له في الواقع مطلقاً. كانت هذه التجربة، بعد ذلك، مفيدة لي في الكتابة، وفي صنع شخصيات مقنعة في قصصي القصيرة. أما في حياتي، فلقد توصلت إلى أن الأشياء الجميلة ليست بالضرورة حقيقية!».
غير هذه الكاتبة هناك عدد من المبدعين في الكتابة والتمثيل والإخراج يذكرون تجاربهم مع أصدقائهم المتخيلين في الطفولة دون حرج، أو تردد، لأن أصدقاءهم، على حد قولهم، أضافوا بهجة في حياتهم وأكملوا النقص الذي كانوا يعانونه، سواء كان في عدم وجود صديق يشبههم، أو في عدم وجود صديق يقف على النقيض من شخصياتهم ويكملهم، كأن يكون الطفل جباناً وصديقه المتخيل قوياً، أو يكون قصيراً وصديقه المتخيل يكون طويلاً.
مع اطلاعك على هذه الظاهرة وقراءة كل الدراسات التي أُجريت بشأنها ربما عرفت شخصية صديقك من أصدقائه المتخيلين في طفولته، ومن براعته في الحوار والتواصل والإبداع. ربما أيقنت أن في طفولته صديقاً من نسج خياله. لذا عندما يبدأ أطفالكم بالحديث مع شخص غير مرئي فهذا دليل على أن هناك شخصية أخرى قد التحقت بالعائلة.. شخصية لا خوف منها لأنها مؤقتة.