قول آخر

أين هو أدب ما بعد الربيع العربي؟

«الرواية هي مرآة نتجوّل بها طول الطريق»… جملة كتبها ذات يوم صاحب «الأحمر والأسود» و«كاتدرائية بارما» ستندال. بهذا التعبير عرّف أحد أساتذة الواقعية الفنية معنى الرواية. وهكذا فعلاً تبدو الروايات، بكلّ أنواعها والأكثر فنتازيا أيضاً، مأخوذة من قلب الواقع. فالروائي ليس شاعراً. «الأنا» في كتاباته ليست ذاتية. وأفكاره ليست مشاعر داخلية خالصة. إنما هو يكتب في الرواية حياته وحياة الآخرين.

الروائي إذاً ابن بيئته. ومجتمعه.. لذا نرى أنّ الأحداث المفصلية التي يعيشها هذا المجتمع أو ذاك تنعكس مباشرة على نوعية الرواية وثيماتها. وهذا جليّ عبر التاريخ. فالآداب والفنون كانت غالباً ما تُمثّل إرهاصاً وانعكاساً للثورات في العالم. فأدب مونتيسكيو وفولتير وروسو أسهم في تحريك الثورة الفرنسية قبل اندلاعها. ثمّ جاءت الثورة لتترك تأثيرها الرهيب على الأدب الفرنسي ومن ثمّ الأوروبي. فكانت وظلّت مصدر إلهام للكثير من الروائيين.

أيضاً، بعد الحرب العالمية الثانية نشأت «العبثية» كمذهب جديد في الأدب الغربي. ولدت العبثية كبديل عن عالم انتفت فيه المعايير الإنسانية الحقيقية.

منذ سنة واحدة فقط عرفت منطقتنا أحداثاً مُلتهبة، مُتسارعة غيّرت ثوابت سياسية واجتماعية راسخة منذ أكثر من أربعة عقود في أكثر من عاصمة عربية. هذا التبدّل المفاجئ والصادم كان له انعكاساته الطبيعية على الشعوب العربية بنُخبها وطبقاتها العادية.

منذ أن هبّت نسائم الربيع العربي في تونس ومصر ومن ثمّ في ليبيا واليمن وسوريا وهناك كُتب وروايات ترصد هذا الواقع العربي المتغيّر. فالكاتب المغربي الفرنكوفوني طاهر بن جلّون أصدر كتابين متزامنين في موعد إصدارهما. الأول بعنوان «بالنار» وهو سيرة مُتخيّلة عن شخصية التونسي محمد بو عزيزي، الذي أضرم النار بجسمه وبالجسم العربي كلّه. والثاني عبارة عن مجموعة مقالات كتبها بن جلّون في أهم الصحف الفرنسية والعالمية خلال أحداث «الربيع العربي»، بعنوان «الشرارة».

وأصدر الكاتب اللبناني الفرنكوفوني ألكسندر خلال الأحداث الدموية التي كانت تعيشها ليبيا كتاباً ضخماً عن شخصية معمّر القذافي تحت عنوان مثير «تشريح الطاغية».

وأصدر الروائي التونسي الحبيب السالمي روايته التي كتبها قبيل اندلاع ثورة تونس بعنوان «بنات الياسمين»، وفيها صوّر الحياة الاجتماعية بمهارة جعلتها تدخل ضمن القائمة القصيرة لجائزة «بوكر» التي تُمنح خلال الأشهر القليلة القادمة.

وفي مصر انتشرت بعض القصائد، مع غلبة العامية على الفصحى، التي لاقت وقعاً قوياً في الشارع المصري مثل قصيدة «الميدان» لعبد الرحمن الأبنودي و«ارفع راسك إنت مصري» لجمال بخيت وقصائد كثيرة للشاعر الذي لُقّب ب»أمير الثورة» هشام الجخّ.

رغم ذلك، لم يصل أدب ما بعد الربيع العربي إلى مرحلة النضج بعد. هذا لأنّ المسافة الزمنية ضرورية لاختمار الأفكار وتهذيبها حتى تظهر أخيراً بشكلها الذي يرتقي إلى مثل هذا الحدث الجلل. والأيام القادمة ستُثبت أنّ إفرازات الربيع الأدبية لن تكون محدودة، وربما تكون هذه الثورات مُلهمة الأدباء وستسهم في تحريك مياه الأدب العربي الراكدة.

أضف تعليق

التعليقات