ضيف العدد
عبدالعزيز بخيت
– من مواليد عام 1400هـ
– خريج قسم اللغة العربية بجامعة أم القرى
–
صدر له ديوان شعري بعنوان: «شغب»، وقراءة نقدية بعنوان: «جماليات القول الشعري»
–
أقام عدداً من الأمسيات الشعرية وشارك في بعض المهرجانات العربية.
يستضيف هذا الباب المكرّس للشعر قديمه وحديثه في حلته الجديدة شعراء أو أدباء أو متذوقي شعر. وينقسم إلى قسمين، في قسمه الأول يختار ضيف العدد أبياتاً من عيون الشعر مع شروح مختصرة عن أسباب اختياراته ووجه الجمال والفرادة فيها، أما الثاني فينتقي فيه الضيف مقطعاً طويلاً أو قصيدة كاملة من أجمل ما قرأ من الشعر.. وقد يخص الضيف الشاعر القافلة بقصيدة من آخر ما كتب.. أو قد تختار القافلة قصيدة لشاعر معاصر.
على ضفاف الشعر
انظرْ إلى أعرابي في سفره وقد انقطع به الزاد، مرّ على مسجد في الطريق ووقف به وسأل الناس فردَّ من عامته من يسأله: من أي قوم أنت؟! فكان رد الأعرابي عذباً يسيراً حين قال: «ممن لا ينفعك علمه ولا يضرك جهله إن ذل السؤال منعني عز الانتساب»، وهكذا وحسب ينهي فضول السائل ويحفظ عز قومه.
إن اللغة هي المعدن الخام الذي يصنع منه الشعر وهو ذاته معدن الكلام النثري بعمومه، ولذلك، قد تجد في بعض كلام العرب ما يأخذ بلبك جمالُه وتفاجئك روعته وحسن حبكته، وقد تشرق روعة الإيجاز في كلماتٍ
لا ينبغي إلا أن تكون كما هي.
إلا أننا لا نجد في حيز الورق هذا إلا نافذة للحديث عن أبيات من الشعر قديمه وحديثه ننسخها من جدران الذاكرة ونستعيد لحظة الإعجاب بها محاولين أن نعبِّر عن سرّ الدهشة في ذلك الحين.
من الأبيات التي تزدحم الآن على ميعاد الغناء قول الفقيه التابعي عروة بن أذينة:
بيضاء باكرها النعيم فصاغها
بلباقة فأدقها وأجلها
منعت تحيتها فقلت لصاحبي
ماكان أكثرها لنا وأقلها
كم نعجب من حالة الحب وعذوبة القول في النص بعمومه وفي هذين البيتين.. حين نذكرها نحس الماء والخضرة وزقزقة الطير من حولنا ولا نتصور فقيهاً زاهداً لا تلهيه ملذات الحياة، لكن رقتها هي خلاصة ماء القلب وخضرة الروح، ومن الطريف ما قاله الجواهري في هذين البيتين حين أنشدهما وقال في كلامه: إن أعظم مودرن في باريس لا يستطيع أن يقول مثل هذا!
ومن الجميل الذي ألِفت النفس ترداده في صمتها قصيدة الصمة بن عبدالله بن الطفيل التي مطلعها:
حننت إلى ريا ونفسك باعدت
مزارك من ريا وشعباكما معا
وقد ذكر في آخرها أبياتاً رائعة في سهولتها وامتناعها، إذا سمعتها أدركت أنها ما تريد قوله ولا تستطعيه، يقول:
بكت عيني اليمنى فلما زجرتها
عن الجهل بعد الحلم أسبلتا معا
وأذكر أيام الحمى ثم أنثني
على كبدي من خشية أن تصدعا
فليست عشيات الحمى برواجع
ليك ولكن خل عينيك تدمعا
بيته الذي يقول: بكت عيني اليمنى، يشعرك فيه بأن حواسه تشاركه الحب والحزن والأسى، فواحدة تبكي وأخرى تحاول التصبر حتى إذا قسا على أختها بكتا كلتاهما..
والغريب أن هذا البيت حدا ببعضهم ليقول: إنه كان أعور.. ولكنه عوار في نظرته إلى الصنعة الشعرية.
وجمال القصيدة قد يكون في بعض أبياتها لا في مجملها ولا يشترط أن يكون هذا معياراً يقاس به النص الحسن والقبيح، كما أن هذه الجمالية العالية في بعض الأبيات تكون سبباً في سرقتها كما حكي عن الفرزدق سرقته لأبيات المديح والفخر جهراً إن صحت رواية ذلك عنه، فالبيت الذي يقول:
ترى الناس إن سرنا يسيرون خلفنا
وإن نحن أومأنا إلى الناس وقفوا
قيل إنه لجميل بثينة، سمعه الفرزدق فقال: «ما هؤلاء بقومك! والله إما أن تدع البيت أو لتدعن عرضك!»، فكان عرضه أعز عليه من البيت كما هو واضح من جريان البيت للفرزدق بعد ذلك.
والسرقات في الشعر مجراها ذلك الجمال الذي جعل بعض الأبيات عن بعضها مخزونة في ذاكرتنا التي تتمتم فينا كلما وجدت محرضاً لاستدعائها.
وهو الجمال الذي اختلف في مصدره أهو الصدق أم الكذب الذي أوقد الفرقة بين جميلين من الشعر لا يضر المتذوق إن كان أصدقه أم أكذبه في حين أنه لا يعي تلك المعادلة النقدية التي لا تشكِّل في ذائقته شيئاً فطرياً.
فمن الأبيات التي جُعلت على طرفي نقيض في المعادلة النقدية، وهما في نظر الذائقة الشعرية جميلان. الأول قول أبي نواس:
وأخفتَ أهل الشرك حتى أنه
لتخافك النطف التي لم تخلق
والآخر قول الحزين الكناني:
يغضي حياء ويُغضى من مهابته
فلا يكلم إلا حين يبتسم
صحيح أنك ترى في البيت الثاني قولاً مقبولاً من الناحية الواقعية ولا تراه كذلك في قول أبي نواس، ولكن إذا نظرت إلى جمال التصوير في الأول وأن المبالغة إن أريد بها الإمعان في تأكيد الصورة لا الحقيقة المطلقة منها.. لوجدت في كليهما جمالاً وعذوبة لا يرفضها الذوق السليم المعافى من الانغماس في التبعية إلى نمط دون آخر.
ومن هذا كثير، لو توقفتَ عند كل بيتين جميلين يجعلهما الناقد ضدين لما وسع القول، ولكننا قد نخرج حديث الأضداد ببيت جميل وهو:
ضدان لما استجمعا حَسُنا
والضد يظهر حسنه الضد
هذا البيت من القصيدة الرائعة التي مطلعها:
هل بالطلول لسائل رد
أم هل لها لتكلم عهد
والتي اختلف في قائلها، منهم من ضم إليها بيتين فيهما غزل فاحش ليؤكد نسبتها إلى أبي نواس الذي عرف بذلك النمط من الغزل الشعري، وهذه الظاهرة أيضاً لها وجهان، فإما أن تروى لك قصيدة لا تكاد تسلو عن قراءتها ولا شاعر لها متفقاً عليه، أو شاعر لا تروى لك من شعره إلا قصيدة لا تسلو عنها.
فمن الشعراء الذي لم يروَ لهم إلا بوح يتيم، ابن زريق البغدادي في رائعته:
لا تعذليه فإن العذل يولعه
قد قلت حقاً ولكن ليس يسمعه
هذا الشاعر الذي كان يحث الخطى ويكثر السفر والترحال عن ابنة عمه التي أحبها وتزوجها، سمع بقافلة تسير إلى الأندلس حيث أمير كان صديقاً له أو ذكر بحسن عطائه.. فعزم المسير إليه يمدحه ويأخذ منه عطاءً لا ينفد.. فكان الأمر بغير ما تأمله، والقصة طويلة، المهم فيها قصيدته التي ذكرت مطلعها يعتذر فيها لزوجته فكان من الحسن الذي فيها:
إني أوسّع عذري في جنايته
بالبين عنه.. وجرمي لا يوسعه
رزقتُ ملكا فلم أحسن سياسته
وكل من لا يسوس الملك.. يخلعه
ولأن الملك وارد في هذا البيت أتذكر ملكاً من ملوك الطوائف، المعتمد ابن عباد، الذي أسره يوسف ابن تاشفين حين طرد المدّ النصراني عن الأندلس وأدب ملوك الطوائف الذين بها، كان من حظه أن يعود مأسوراً ويسجن في أغمات بالمغرب،
هذا الملك الذي خالف سنة العرب وتفاءل بنعيب الغراب في أبيات جميلة يقول:
غربان أغمات لا تعدمنَ طيبةً
من الليالي وأفناناً من الشجر
كما نَعِبْتُنَّ لي بالفأل يعجبني
مخبرات به عن أطيب الخبر
عليَّ إن صدّق الرحمن ما زعمتْ
ألا يروعن من قوسي ولا وتري
والله والله لا نفّرتُ واقعها
ولا تطيرتُ للغربان بالعور
ولعل أجمل منها ما رثى به حال زوجته وبناته حين زرنه في سجنه ورأى من بؤس حالتهن ما يتشقق له زجاج القلب وتنكسر به مرايا الروح:
ترى بناتك في الأطمار جائعةً
يغزلن للناس ما يملكن قطميرا
برزن نحوك للتسليم خاشعة
أبصارهن حسيرات مكاسيرا
يطأن في الطين والأقدام حافية
كأنها لم تطأ مسكاً وكافورا
وفي البيت الأخير يتذكر حين رأت زوجته وبناته بنات يلعبن بعد المطر في الطين وأردن فعل ذلك فأبي عليهن ثم أمر مواليه أن يصنعوا لهن كالطين من الزعفران والريحان والعنبر وأطيب العطور ثم أنزلهن يلعبن فيه وانتهى به الحال وبهن كما صور شعره.
وديوان الأمس واليوم واسع يضيق إذا تعمدت أن أستدرج منه شيئاً.. أظن الجاحظ نسي أن يدرج الذاكرة ضمن كتابه البخلاء فهي شحيحة حين يقف المرء ببابها ومهذارة حين لا يريد منها ذلك.
سأنتهي بديوان اليوم لشاعر أحبه كثيراً من تونس الخضراء جمال الصليعي في رائعته التي تكاد تكون فريدة عصرها «ثلاثية الطور» سأذكر منها لينتهي حديثي الذي جاء على عواهنه.. يقول جمال الصليعي:
وأرسل الفجر قبل الفجر نسمته
تحنو على كبد مدت على شغف
وضم كل حبيب ضلع كاتمه
وطاب للصمت أن يصغي لمعترف
لا أرض للأرض إذ لا خطو في قدم
ومطلق الوقت يسري في دجى عكف
ترجل الطين عن طيني ليحملني
براق شكواي محمولاً على كتفي
– 1 –
يغرق الضوء في ماء دجلة
حتى يعود له قزحٌ من جديدْ
يبدأ العمر من حيث أنت
إلى أمدٍ غارقٍ في البعيدْ
قد يكون البعاد اشتياقاً
ولكنني لا أريدْ!
– 2 –
جاءَ ظلّ المساءِ ضحىً
كان يعبر عينيكِ من لمحةٍ
كاد يخطئ فيها الطريقُ الطريقْ
مقلةٌ تشرب الليلَ
والنومُ في غنجها لا يفيقْ
ليس حلمُ الحياة بعيداً
ولا فيه ضيقْ
إنما أنفس القانطين مضيق!
– 3 –
قُدَّ هذا المساء
ولا تأتني بصباح الغدِ
لحظة الحبِّ
لا تحتويها الحياة
ولا هيكل اللغة المجهدِ
ربما ينفد العمر سهواً
ولما أزل بعدُ لم أبتدي!
– 4 –
أعطني مهجةً
كي أعيش الحياة ندياً
وأشهق فيك
إلى أنْ تكون النفسْ
كي نعيش زماناً يمرُّ
ولكننا لا نحسْ
كيف أحيا وجسمي جليدٌ
وروحي قبسْ!
– 5 –
ما أجلّ الصباح الذي كنته
ليس يغتاله الليلُ
أو يقتفيه الأمدْ
كل حينٍ تجيئين فيه
يظل بقاء ولا ينتهي
كالعددْ
عوّذيني من البعد
لست (..)
على كفِّ أجنحةٍ من رغدْ
عوّذيني
فركض دمائي
على نبض أوردةْ من مسدْ
قد يموت البقاء
ولا يستمرّ الأبدْ!
– 6 –
(عيدٌ بأية حالٍ عدت يا عيدُ)
كان يخشى الأسى عائداً من جديدْ
كان أقرب شيءٍ إليه بعيدْ
لست أشعر أن غداً
عندما تشرق الشمسُ
عيدْ!