تقول: عبدالعزيز البابطين، فيفكر رجل الأعمال بالتجارة والصناعات المختلفة، والمثقف يذهب بفكره إلى المؤسسة التي تحمل هذا الاسم وجائزتها الشعرية، أما المهتم بالبيئة فيفكر بالمحمية الطبيعية..
وليس تنوع الاهتمامات وحده هو ما يدعو إلى التوقف أمام شخصية الرجل، بل النجاح الذي بإضافته إلى هذا التنوع تتحدد الخطوط العريضة لصورته الشخصية التي يرسمها لنا الزميل محمد أبو المكارم.
هو من رجال الأعمال البارزين في الخليج، وله نشاط تجاري وصناعي معروف في البتروكيماويات والصناعات الغذائية في أوروبا وأمريكا والصين والشرق الأوسط، إضافة إلى استثماراته الضخمة في مجال العقارات. وعلى امتداد الوطن العربي، برزت شخصيته الثقافية من خلال ما تقدمه مؤسسته للأدب العربي المعاصر ممثلاً في جائزة البابطين للإبداع الشعري والأنشطة الثقافية التي ترافق الجائزة كل عامين. إلى ذلك بلغ اهتمام الرجل بالبيئة حد إنشاء محمية طبيعية في منطقة الصمّان بصحراء النفوذ، وصارت هذه المحمية تستحوذ على أربعة أيام أسبوعياً من حياته.. فما الذي يجمع هذا إلى ذاك؟ وكيف؟
..كالنقش في الحجر
ولد عبدالعزيز سعود البابطين في الكويت عام 1936م، ونشأ في ظل أسرة محبة للعلم والأدب والشعر، فقد كان والده شاعراً نبطياً، كما كان عمه قاضياً وشاعراً، وخاله نسباً الشاعر محمد بن لعبون من مشاهير الشعر النبطي في الجزيرة والخليج، فأحب الشعر والأدب منذ طفولته، وكتب أول قصيدة نبطية وعمره إحدى عشرة سنة، بينما كتب أول قصيدة عربية بعدها بخمس سنوات تقريباً.
عندما كان طفلاً، كان أبوه يأخذه وإخوته إلى السوق، فيشاهدون ما يجري فيها، ويخالطون الرجال، وإذا جنّ الليل واجتمع الرجال في الديوانية جلسوا في طرفها احتراماً للكبار، وكان أبوهم يحرص على تواجدهم فيها، وعندما يبدأ في سرد بعض مشاهد السوق وما جرى فيها، يكتفي ببدء القصة.. ثم يقول: عبدالعزيز! كنت موجوداً، قصّ علينا ما جرى؟ فيكمل القصة بتأتأته وتلعثمه وأخطائه، حتى إذا ما انفض المجلس وخلوا إلى بعضهم بدأ الأب بالنقد والتوجيه. يقول عبدالعزيز: “كان لتلك المجالس دورها في حياتي، فقد ربّت فيّ الشجاعة الأدبية، والجرأة على خوض الحياة ومواجهة صعابها”.
لم يكن عبدالعزيز من عائلة ثرية، لكن طموحه لم يقف عند حد. بدأ بوظيفة حكومية متواضعة يكسب منها قوته، وأضاف إليها عملاً تجارياً بسيطاً في فترة المساء، ثم قاده طموحه وفكره المتّقد إلى فكرة البحث عن الزبائن والذهاب إليهم بدلاً من انتظارهم في متجره الصغير، فبدأ بسيارة نقل صغيرة (حوض) للتنقل ببضاعته وعرضها على الزبائن، وكانت تلك بداية فكرة التسويق في الكويت، ثم بدأ بعدها مشوار بيع الجملة على التجار لتتوسع تجارته فيما بعد ويصل إلى ما وصل إليه من نجاحات في الصناعة والتجارة والاستثمارات المختلفة.
في رحاب الثقافة
عندما فتح الله له باب الثروة، غلبه حنينه إلى الأدب. فأنشأ في العام 1989م “مؤسسة جائزة البابطين للإبداع الشعري” رغبة منه في دعم الشعر العربي الجاد، وهو القائل:
“سيذكر أهل الشعر والشوق أنني
عملت بما أوتيت من سعيِ جاهدِ
أعيد لبيت الشعر حلو رنينه
وسحر القوافي في البيوت الشواردِ”
تعقد هذه المؤسسة دورتها كل عامين، وتسمى كل دورة باسم شاعر من شعراء العربية، ويعنى فيها بكل ما يتصل بتراث وحياة هذا الشاعر بالجمع والتحقيق والدراسة، كما تقدم جوائزها المعروفة لأفضل قصيدة وديوان ودراسة نقدية، وجائزة رابعة تكريمية للإبداع في مجال الشعر. وقد صدر عن المؤسسة حتى اليوم ما يزيد على سبعين مجلداً من الدواوين الشعرية والدراسات الأدبية، كان من أبرزها معجم البابطين للشعراء العرب المعاصرين.
وإضافة إلى ذلك، أنشأ البابطين جائزة ثانية سمّاها “جائزة أحفاد الإمام البخاري”، وهي سنوية هدفها ترميم الجسور الثقافية بين الوطن العربي والدول الإسلامية المستقلة حديثاً في آسيا. وكان الرجل قد أولى التعليم اهتماماً بالغاً منذ العام 1974م عندما أنشأ بعثته الكويتية للدراسات العليا، وهي عبارة عن منح دراسية في جامعة الأزهر بالقاهرة، استفاد منها نحو 700 طالب وطالبة من آسيا وإفريقيا وأوروبا. مُنح عبدالعزيز البابطين عدة شهادات دكتوراة فخرية من جامعات عربية وإسلامية، وعدداً من الأوسمة من رؤساء الدول، وهو عضو في عدد من المؤسسات الثقافية والفكرية وعضو مجلس أمناء “مؤسسة الفكر العربي”.. ومع ذلك، فهو يجد ما يلزم من الوقت لإضافة اهتمام آخر إلى اهتماماته.
الهواية وعقدة الذنب
لعبدالعزيز علاقة حميمة مع الطبيعة والحياة الفطرية، وهو يعتبرها علاقة ضمير تجدول حياته اليومية على نحو متخم بالشاعرية والشفافية. ويروي الرجل بنفسه حكاية هذه العلاقة فيقول إنه حين كان في الثالثة عشرة رافق والده في رحلات الصيد البرية. وفي أحضان الرمال عاش روح المغامرة الباحثة عن الغزلان السارحة، والأرانب، والحباري، وأسراب القطا التي أعطت للصحارى إحساساً مفعماً بالحيوية. ثم تطورت هواية الصيد، وخرجت عن حدود الجزيرة العربية إلى العراق، إيران، سوريا، مصر، ليبيا، الجزائر، المغرب، السودان، الصومال، وتعمقت في القارة الإفريقية فوصلت إلى مالي..! وتوسعت الخريطة شرقاً فامتدت إلى أذربيجان، باكستان، تركمانستان، وأوزبكستان..!
والصيد هواية ممتعة. غير أن الهواية أنبتت في داخل عبدالعزيز البابطين ما يشبه “عقدة الذنب”؛ خاصة كلما عادت به الذاكرة إلى الصحارى ومغامرات الطرد والنيل من الطرائد. تحولت عقدة الذنب إلى عمل بنّاء يعيد للحياة الفطرية بعض الاعتبار. وتجسد العمل في مشروع محمية طبيعية يبلغ طولها عشرة كيلومترات في منطقة الصمّان بصحراء النفوذ.. كانت البداية مع مجموعة من الأرانب البرية اصطادها البابطين من إحدى الصحارى السورية. ثم اشترى الرجل من الحكومة السودانية عدداً من الغزلان، ومن جنوب إفريقيا جلَب عدداً من النعام والمها وحمير الوحش والغزلان وطيور الحمام..! وفي إحدى المناسبات أهداه الشيخ أحمد الفهد الصباح خمسين طير حباري انضمّت إلى حيوانات المحمية. ويقول “إن التصاقي بالمحمية نوع من العشق.. إنه تجاوب مع نفسي وإرضاء لضميري وتكفير عن سيئاتي. لأني أشعر بأنني أخطأت في حق هذه الحيوانات، وأحاول قدر الإمكان تعويض ما فات”.
الاطمئنان إلى المستقبل
ولأن المؤسسات الثقافية التي أنشأها البابطين مرتبطة بشخصه، كان لا بد من إثارة موضوع مستقبلها من بعده. وفي هذا المجال يقول: “من الظلم للمتلقي العربي أن تنتهي هذه المؤسسات بنهاية شخص. وبهذا فقد شرعت في وضع ترتيبات تكفل لهذه المؤسسات الاستمرارية من بعدي. لقد أهدتنا الحكومة الكويتية قطعة أرض، وسنبني عليها برجاً يصل إلى خمسين طابقاً، وسنسلمه لوزارة الأوقاف لتشرف عليه، ولينفق ريعه على هذه المؤسسات. إنني باكتمال هذا المشروع سأكون مطمئناً لجهة استمرارية ما بنيته”. أما الثروة التي كانت وراء كل هذا، فيقول عنها عبدالعزيز البابطين: “إن الثروة لوحدها والسعادة لا يلتقيان. الثروة في أغلب الأحيان تكون نقمة على صاحبها، ولن يجد الإنسان السعادة إلا إذا أحسن استعمال ثروته. ومن لا يستثمر ماله في خدمة الآخرين يفوّت الفرصة على نفسه”.