بخلاف كل الصور المعقَّدة عن المثقف، وأنماط التعامل مع أوجه النشاط الثقافية التي تتصف أحياناً -جزئياً أو كلياً- ببعض السلبيات، تكاد صورة «عبدالحميد السلمان» كما يرسمها هنا هيثم السيد، أن تكون واحدة من أنقى صور المثقف الأصيل، بكل ما يفترض أن يميِّز هذا المثقف النادر من صدق وجدية وابتعاد عن التكلف، والمتابعة التي لا تعرف الكلل.
لا يمكنك أن تذهب إلى ندوة أو محاضرة أدبية في الرياض من دون أن تراه موجوداً بثوبه الأبيض، وشماغه الذي يأخذ الوضعية نفسها دائماً إلى الأعلى، ولحية يملؤها الشيب وقاراً، وملامح بشوشة تزيل أي حاجز نفسي دونها ودون الآخرين. رجل لا يجد مشكلة في القدوم إلى النادي الأدبي مباشرة بعد جولة تسوق، حاملاً كيساً من المشتريات المنزلية والغذائية يضعه أمامه، قبل أن يجلس مستمعاً بإنصات تام. لا يثير الأسئلة ولا يطلب المداخلة، حتى يعلن المدير انتهاء الندوة فيتجه صوب المحاضر ويسلِّم عليه بحفاوة، وينثر عدداً من التحيات على من حوله، قبل أن يغادر حاملاً كيسه، ومحملاً بكمية هائلة من الامتنان لكل شيء. إنه المعنى الإنساني المقابل تماماً للتكلف.
يفعل الشيء نفسه لسنوات عديدة، ويمارس تلك الشخصية التي تنطوي على غموض من النوع المحبِّب للاكتشاف، غير أن اعتبارات كثيرة لم تكن تجعلنا نسأل، أولها أن بعض الأشياء تبقى جميلة حين لا نتدخل فيها، وليس آخرها المحبة الواضحة التي تملأ هذا الإنسان بالغ التلقائية للثقافة، محبة يعبِّر عنها بإنصات هادئ تعقبه عاصفة من الابتسامات. وبالتالي، لم يكن من المنطقي سؤاله عن واقع يتكفل بالإجابة عن نفسه.
في معرض الكتاب
الفضول وحده أوقفنا في معرض الكتاب، تحديداً أمام جناح دارة الملك عبدالعزيز حين لمحنا الشخص نفسه يناقش ثمن أحد الكتب التاريخية. لم يصل إلى اتفاق مع البائع، ففتح الله بينهما، ليخرج صاحبنا مبتسماً بشوشاً بعد أن أعاد الكتاب إلى مكانه بمنتهى الرقة. حينئذ لم نكن قد قررنا تماماً الطريقة التي سنوقف بها شخصاً لم نتحدث إليه سابقاً، رغم أننا نتبادل النظر والابتسام منذ ما يفوق سنوات عشر. لكنه حسم الموقف هذه المرة باحتفاء مؤدب وحميم لم نجد فيه فرصة حتى للتعريف بنفسنا، إذ تولى هو المهمة: «أتذكرك زين، كنت تجي النادي الأدبي ومعاك واحد يلبس نظارات». وفي الوقت الذي استغرقه تذكر الشخص المقصود، كان صاحبنا يمسك بنا فيما يشبه الدعوة لجولة في المعرض، جولة تختلف عن كل المرات السابقة التي رافقنا فيها أصدقاء إعلاميين وأدباء ومثقفين. فنحن الآن نجول مع الإنسان البسيط الذي يستلطفه الجميع على نحو فطري، ونفكر دائماً في اكتشاف سر حبه للثقافة، وأن نكتب عنه نموذجاً لسقوط فرضية النخبة التي تستأثر بالمعرفة، وتأكيد ارتياد كل شرائح المجتمع للأندية الأدبية. وعندما كنا بصحبة الشخص الغامض، رحنا نفكر في الطريقة التي ستختم عهدنا بغموضه، تماماً كما فكرنا في إمكانية رفضه الحديث صحفياً كامتداد لصمته المعهود في الندوات. لكن الغموض كان قد انتهى تماماً حين بدا أكثر حماساً منا للحديث. فقد أخذنا «أبو محمد» بعيداً عن الازدحام: «ابشر، بقولك كل شي تبيه..وين تبغانا نجلس؟».
وفي الطريق إلى استراحة المعرض، كان يوجه أحد الشباب نحو دار نشر معينة، ويجيب عن تساؤلات آخر بشأن كتاب ما، ثم عاد إلينا، فبادرناه بسؤال حول حضوره الدائم في النادي الأدبي. ولم تكن الإجابة مفاجئة بقدر ما جعلتنا نستعد لمزيد من المفاجآت: «أنا أجي النادي الأدبي من قبل ماتولد أنت!». وعبارة كهذه لا تشعر إنساناً بأنه صغير السن حين تأتي من شخص كهذا. غير أنه لم يترك لنا فرصة للسؤال عن عمره -بارك الله فيه- وهو يقول بابتسامة تواكب ديناميكية جلوسه على مقعد الاستراحة «أنا روحي شبابية».
كانت زيارة صاحبنا الأولى للنادي الأدبي في يومٍ ما من عام 1398هـ إبان فترة رئاسة الشيخ أبو عبدالرحمن بن عقيل الظاهري، وكان حينئذ يطرح الأسئلة والمداخلات العلمية. يتذكر كثيراً من فعاليات النادي في تلك الفترة، ومن أبرزها محاضرة لمفتي المملكة الشيخ عبدالعزيز بن باز، رحمه الله، كانت هي الأولى والوحيدة من نوعها. وحظيت بحضور جماهيري لم يشهد النادي مثله من قبل.
أبو محمد رجل يفتح لك كتاباً من النوع الذي يجتذبك بأشعة غريبة داخل صفحاته فتجد نفسك في زمن آخر، وهنا كانت الفرصة لنسأله عن أول معرض كتاب أقيم في الرياض. لم نتوقع أبداً أن يكون قد غاب عنه، ولم يخيِّب توقعنا فقال: «أذكره، وكأني أراه اليوم، كان في عام 1397هـ في مقر جامعة الملك سعود -مكتبة الطالبات الجامعية حالياً- في شارع الستين مقابل ملعب الملز. وكان المعرض الثاني بعده بعام وفي المكان نفسه. واستمر لسنوات متتالية حتى تم تطبيق نظام المداولة السنوية في تنظيمه بين جامعتي الملك سعود وجامعة الإمام». ويصف تلك المعارض التي حضرها جميعاً، بأنها كانت تروي عطش الناس للكتاب في وقت كان البعض يضطر للسفر إلى دول عربية لمجرد اقتناء كتب يعتقد أنها مهمة.
ويضيف أبو محمد «كانت المعارض في بدايتها متواضعة، لا تتضمن أي نشاط ثقافي مصاحب، كما أن دور النشر كانت قليلة لا تتجاوز المائة دار، تعرض كتباً معتقة مخزنة لفترات طويلة، لدرجة أننا نتخيل أنها كانت قيد المستودعات لفترات طويلة». ولما سألناه عن أهم كتاب كان مطلوباً في تلك الفترة أجاب من دون تردد: «كتاب الأعلام لخير الدين الزركلي..كان بغية كل باحث، تخيل أنه بقي يؤلفه لأكثر من نصف قرن وحين توفي، انقرض الاهتمام بكتابه!».
لا هاتف .. ولا ساعة!
أبو محمد هذا الذي يتصل روحياً بزمن أصيل، ويناقش بمعرفة عميقة، هو نفسه الذي لا يحمل جهاز جوال، ولا يلبس ساعة في يده حين يكون في معرض كتاب. وبحسب كلامه، فهو لا يلبسها كي لا ينظر إليها فيكتشف أن الوقت قد مر، وانتهت فترة الزيارة. يقول أبو محمد: «أحب شيء عندي الكتب، أجيء إلى هنا كل يوم من الظهر وأبقى إلى نهاية المعرض، الساعة العاشرة مساءً». عشر ساعات يقضيها في التجول والقراءة وإرشاد الشباب نحو أفضل الكتب والتراجم. يشتري الكثير ويرفض قطعياً الاستفادة من خدمة «حمل الأمتعة». فهو لا يرضى أن يحمل أحدٌ كتبه إنابة عنه وذلك لتقديره لها. تتغير العبارة في حالة أبي محمد لتصبح «حمل المتعة»، ولتكون جزءاً من السعادة التي يعيشها صاحبنا المفعم بالمودة، والمحمل بذاكرة ثقافية مغرية ومثرية. يصف الفترة الحالية بأنها العصر الذهبي للثقافة السعودية، ويوضح قائلاً «منذ سنوات أربع، لم يعد ثمة مقارنة بين واقعنا الثقافي في الماضي والحاضر. نحصل الآن بكل سهولة على الكتب التي نتمنى الحصول عليها. كنا نتعطش لحضور معارض خارجية لنجد عناوين نزعم أنها نادرة. الآن، وفي معرض الرياض، نحصل على كتب هي أندر من النادرة!».
حدثنا عن علاقته بالعلامة حمد الجاسر الذي كان يراسله ويزوره في شارع الوزير حيث مقر مجلة العرب، وعن الصالونات الأدبية، وفن كتابة السيرة الذاتية والتراجم. يتأكد كل مرة أننا ندون كل ما يقوله، ويتذكر في كل مرة فكرة مهمة تدفعنا إلى معاودة التدوين حتى ونحن نتناول معه وجبة الغداء الحائلية التي أصر على إكرامنا بها.
ومن خلال حديثنا الطويل معه، عرفنا أكثر مما تقدم، عن الشيخ عبدالحميد عبدالعزيز السلمان، الأديب الإسلامي، مؤسس وقف الكلمة الطيبة العالمي، والمؤرخ الذي قادنا إلى دار الضياء لنقرأ أكثر من ترجمة له في أكثر من كتاب معروف، المثقف الذي يملك صالوناً أدبياً يقام كل أربعاء منذ 14 عاماً، وهو الذي بدأ وهو في الصف الثالث الابتدائي في تكوين مكتبة تحتوي الآن 23,500 عنوان، إذا استثنينا حصيلة معرض الكتاب الحالي. إضافة إلى أرشيف ضخم يضم مئات الوثائق والشهادات والآثار المرتبطة بحياته، بما في ذلك أول ساعة اشتراها وأول نظارة ارتداها. ولن يضر بعد كل هذا أن نضيف فقط أنه لا يرى ضرورة للبس «البشت» رغم مكانته العلمية والأدبية، وأنه يقرأ كل الصحف المحلية والمجلات بشكل منتظم، تحديداً منذ أول اشتراك له في صحيفة الرياض في عام 1392هـ.
إنه باختصار رجل يعيش كلياً مع الكتابة والقراءة والكتابة، وللكتاب وللقراءة وللكتاب، ويسلك في تعاطيه مع الكلمة مسلكاً قلَّما عرفنا له مثيلاً عند المثقفين، في جدواه وجمعه العمق إلى البساطة.