لم يكن لشيءٍ مقبَّب، محدَّب، يُظلِّلُ الرأسَ والأبدانَ، في الصيف والشتاء، يقيها من الحرّ كما ينأى بها عن البلل، أن يرتحلَ جغرافياً ويعبرَ فصول التاريخ، ببعض التنازع والاختلاف حول أصله وفصله، لولا أنّ هذا «الشيء» تخطّى اعتبارات الحاجة البحتة ليصبح قيمةً اجتماعيةً وثقافيةً واقتصاديةً، بل وفنيّة مدهشة، سبقتها – بحكم تطوّر العديد من الأشياء – قيمة تاريخية ودينية واعتبارية..
تتحدّث هنا حزامة حبايب عن المظلة، كاختراع بشري، لم تشِ محدوديّة استخدامها في البدء، وطابعها العملي، وشكلها مكرَّس الهوية، أنّها قابلة لاستيعاب كلّ الأفكار الممكنة، بل قد تستظلّ تحت محيطها أكثر الأفكار والتصورات خياليّة وجموحاً.
ما إن حمل الإنسان المظلّة، كإكسسْوار – وإن ليس ملحِّاً – حتى طوّع نهاراته «مجازاً»، فأصبحت الشمسُ أكثرَ رأفةً به، كما حدّ من هجْمة الشتاءات عليه، فلم يعُد ماء السماء يطوِّقه، وإن ظلّ يغازله، وكثيراً ما قد يباغته، فلا «يلحق» أن يشهر مظلّته في وجه انثيالاته.
بين اللهيب والبلل، تفتّحت الشماسي والمظلات فوق الرؤوس خلال حقب التاريخ، وعبر الثقافات الإنسانية، قطعت التصاميم والألوان والخامات البحار والمحيطات، جاءت فرادى ثم توافدت جماعات، حتى إذا استقرت في مداخل البيوت في البيئات المشمسة جداً أو الماطرة – بطبيعتها – بغتةً، حتى تفرغ الإنسان لاشتقاق الفنّي والآسر والفاتن من هذا الاختراع البسيط، السلس في الظاهر..
في اللغة..
الغلبة للشمس
«المظلة» و«الشمسية» مفردتان لأداةٍ واحدة، شقّتا طريقهما إلى لغتنا العربية. وفي حين اقترنت كلمة «شمسية» بالمحكية العربية الشفاهية، وظلّ معناها مقيداً باستخدامها الوحيد المتعارف عليه كأداة حماية من الشمس (أو المطر لاحقاً)، فإن المظلّة اتّسع مداها، متخطِّيةً عتبة المادي المحسوس إلى المجاز، إذ تشكِّل المظلة نطاقاً تستظل تحته الأفكار والرؤى والمؤسسات، ذات القواسم المشتركة، حيث تتحرك بطريقتها، وفي الوقت نفسه تكون مرتهنة لشرط الفضاء الذي تُتيحه مساحة ظلها، على اعتبار أن مساحة الظل هنا هي المعنى الشامل، وبالتالي فإن المظلة تكون بمثابة «منطقة حماية لمجموعة من الأشياء المشتركة».
من بين مفردات كثيرة تحمل معنى مظلة باللغة الإنجليزية، تظل مفردة Umbrella الأكثر شيوعاً واستخداماً، حيث تتقاطع المفردة – بطريقة أو بأخرى – مع مفردات مشابهة في العديد من لغات العالم. هناك أيضاً كلمة لا تقل شيوعاً هي Parasol، والمستخدمة في لغات عدة كالإنجليزية والفرنسية والإيطالية والهولندية والدانماركية والبولندية وغيرها. تعود كلمة Umbrella إلى مفردة umbra اللاتينية، ومعناها فيء أو ظلّ، والكلمة اللاتينية مشتقة أساساً من المفردة الإغريقية القديمة ombros، التي تفيد المعنى نفسه. ثمة مصادر تفيد بأن الكلمة مشتقَّة من المفردة اللاتينية umbella (حيث إن الـ umbel هي وردة دائرية مسطحة، وهو ما يقترن بسطح المظلة الدائري)، أو من مفردة umbra التي تعني «مظلَّل». أما كلمة Parasol، فتتألف من مقطعين؛ para وتعني «وقاء» أو «إيقاف»، و sol ومعناها شمس.
وعلى الرغم من أنّ المعنى الدلالي لكلّ من Umbrella و Parasol واحد، لجهة ارتباط المفردتين بـ«الحماية من الشمس»، فإن المظلة المستخدمة للوقاية من حرّ الشمس يشار لها بالإنجليزية Parasol، في حين أن تلك التي تستخدم لدرء زخات المطر فتعرف بـ Umbrella، والفرق بين كل منهما هو الخامة المستخدمة في صنعها، فمظلة المطر مصنوعة من قماش مقاوم للماء.
أيا كانت المفردات الدلالية والاشتقاقات اللغوية، من الجليّ أن المظلّة أو الشمسية، وما يتفتّق عنهما من مفردات تحوم في إطار المعنى نفسه، اقترنت في المنشأ بالحماية من الشمس، لا من المطر كاستخدام ثانٍ، دخل لاحقاً في مفردات الثقافة البشرية. والحقّ أنّ غالبية المصادر التاريخية تكاد تجمع أن المظلة ظلت لحقبة تاريخية طويلة أداة أو إكسسواراً للحماية من الشمس، والتماس بعض الفيء، خاصة في فترات الظهيرة اللاهبة. ولم تعد مُجازةً لدرء المطر إلا في فترة متأخرة نسبياً، وذلك في القرن الثامن عشر. لا يوجد سبب متّفق عليه لهذا الأمر، الذي يبدو للوهلة الأولى غريباً، لكن ثمة رأياً أنثروبولوجياً في هذا الخصوص يلقى مصداقية، مفاده أن الشمس، وإن كانت مهابةً في معظم الثقافات، إلا أنها اقترنت بالجفاف، يباس الأرض ومَحْلها وبخلها. في حين ظل المطر رديفاً للخير الذي تنعم به السماء على أهل الأرض، وبالتالي لم يكن الإنسان ليفكِّر أبداً بحجبه عن نفسه أو عن الأرض، فالبلل خصب وحياة ونظافة، وقطعاً فإن محاولة صدّ أو إيقاف ماء السماء أمر مثير للاستهجان، بل كان ضرباً من التجديف أن تحول – متعمداً – بينك وبين المطر.
وبالطبع، لا يمكن أن نتغاضى عن الدور الثالث والرئيس للمظلة، بعد الوقاية من الشمس وصدّ المطر، والمتمثل في كونها أداة «تقنيّة» أساسية في التصوير الفوتوغرافي، إذ تساعد المصور الفوتوغرافي المحترف في التقاط صور على درجة عالية من الدقة، خاصة في صور «البورتريه» متحكِّماً في شدّة الإضاءة ودرجة السطوع، حيث تسهم المظلة في توفير الإضاءة المطلوبة داخل الاستوديو. من جهة أخرى، تستخدم المظلة في التصوير خارج الاستوديو، خاصة في اللقطات الإعلانية، وذلك للتحكم بضوء النهار الطبيعي.
المظلّة في الفنّ..
ضوء مخاتل وخيال مشاكس
لا توجد أداةٌ تضاهي المظلةَ في مدى قابليّتها لتطويعها فنياً. لقد أدرك كبارُ الفنانين، عبر العصور، قيمتَها الجمالية وقابليّتَها لاحتواء تشكيل فنّي يزاوج بين الإحساس بالقبض على الحركة/ الحياة من جهة وبين احتواء الضوء المخاتل، المراوغ، وإعادة صوغه أو عكسه ضمن لعبة «آسرة» تكون فيها «خبطة» الفرشاة أو «مسحتها» بمثابة «اصطياد» لحظة الضياء، وما يتفتّق عنها من ظلال، لتعود الألوان إلى تعريفها الأساسي، بوصفها أحد تجليات المزاج الضوئي..
لعل الانطباعيين كان لهم شرف «الافتتان» الأجمل بالمظلة، هم الذين انطلقت فلسفتهم، كما فرشاتهم، في المقام الأول من مفهوم «اقتناص» الضوء في خصائصه المتغيرة والمتبدِّلة، إلى جانب تضمين «الحركة» في اللوحة باعتبارها عنصراً حيوياً في بناء الخبرة والإدراك الإنسانيين.
كان الرسام الفرنسي كلود مونيه، مؤسِّس الحركة الانطباعية في القرن التاسع عشر، من أوائل من «لعب» على مفهوم الضوء، الذي تحجزه المظلة، أو تقتنصه، أو تمتصه، أو تعكسه، أو توزِّعه، وذلك من خلال عديد من الأعمال، من بينها ثلاث لوحات على الأقل تحت عنوان رئيس «امرأة تحمل مظلة»، مع فارق جوهري في كلّ عمل، له علاقة بحركة المرأة أو السيدة في اللوحة؛ ما إذا كانت تتحرك إلى اليسار أو اليمين، ذلك أن الحركةَ تحدِّدُ اتجاه الضوء.. يُلاحظ أن وجوه النساء في هذه اللوحات مغلَّفة بالظلال، ذلك أن المظلات تحجب عنهن الضوء السافر، ما يضفي على نظراتهن مسحة غموض ورومانسية ولين.
من بين أعمال الانطباعيين التي يجمع معظم نقاد الفن على عبقريتها لوحة «المظلات» للفرنسي بيير – أوغست رينوار، الذي أسهم بصورة جوهرية في تطوير ما يعرف بـ «الستايل الإمبريشنستي»، مضفياً على الانطباعية خصوصيةً تحيطُ اللوحةَ بجمال وبهاء وحسيّة متدفقة. رسم رينوار «المظلات» في ثمانينيات القرن التاسع عشر، حيث تصوّر مشهداً لشارع مزدحم في باريس. يحمل معظم الناس في اللوحة النابضة بالحياة مظلات لحمايتهم من المطر. الشخصية الأبرز في اللوحة امرأة تسير بلا مظلة، وهي صاحبة الملامح الأوضح، الأكثر نُطقاً، لكأن نظراتها تخاطب الرائي. على أن المرأة، التي بوغتت ربّما بالمطر تبدو وكأنها ترفع حاشية فستانها كي لا يتلوث بالماء والطين.. كذلك ثمة طفلتان، في اللوحة، بلا مظلة. من الجليّ أن المطر هطل في اللوحة للتو، ذلك أن إحدى نساء اللوحة المتواريات تنظر إلى أعلى وتهمّ بفتح مظلتها، وهي لقطة لحظية «انطباعية» بامتياز، ذلك أنها تعزِّز من قيمة الاحتفاء بالحركة في فلسفة الانطباعيين. على الرغم من العفوية الجميلة والفاتنة التي يبدو عليها أناس اللوحة، إذ يتحركون ويسيرون في الشارع دون توقف، ويكادون يصطدمون بنا، إلا أنه يلاحظ أن رينوار حرص على أن يولي المظلات اهتماماً خاصاً، مرتباً إياها بعناية في زوايا معيَّنة، بحيث تتخذ أشكالاً هندسية تحافظ على توازن بصري جمالي. مكمن الفتنة في اللوحة هو ’المظلات‘ بلا شكّ، وفيها يتجلى إبداع رينوار. فاللوحة التي يطغى عليها، من النظرة الأولى، اللونان الرمادي والأزرق الداكن إنما تشعّ بجملة ألوان من «النظرات» التالية المعاينة الفاحصة، حيث تبدو مسحات الضوء التي تطوِّق أسطح المظلات بسلاسة امتداداً لضياء الطبيعة المنساب مع المطر أو المتخلل عبر الغيم المباغت؛ والمظلات التي تبدو ذات خامة لونية واحدة، إنما تنسج كلٌّ منها مع الضوء لونَها الخاص بها ما يجعل التماثل أو التطابق اللوني محض افتراء هنا!
من الانطباعيين الذين يجدر التوقف عندهم، لجهة استنطاق المظلة جمالياً، الرسام الفرنسي غوستاف كاييبوت، وذلك في لوحته الشهيرة «شارع باريسي، يوم ماطر»، التي تعدُّ من بين أعماله الأكثر تميزاً، حيث يُلاحظ أن كاييبوت «طبّق» فيها أبرز خصائص الانطباعية، تحديداً لجهة عاملي الضوء والحركة، مع إضفاء تأثير فوتوغرافي واقعي يتجلّى في وضوح القسمات والملامح. كذلك، تكاد تكون مظلات كاييبوت في الشارع الباريسي من بين الأكثر تسربلاً بالضياء، مع مسحة غيم جليّة.
حضرت المظلة وتفتحت وأينعت في فرشاة عديد من الفنانين، من مختلف الأزمنة والثقافات، وعكست – إلى جانب الضياء والجمال – الاتجاهات والتيارات الفنية عبر التاريخ. ومع ازدهار فن المجسَّمات في القرن العشرين، أطلقت المظلة العنان للخيال البشري، فذهب إلى أفق مشاكسة، مشاغبة. فمرة، تكون المظلات سرب طيور، ومرة عنقود ألوان، ومرة كرات مضيئة، ومرة ثريات متوهجة، ومرة زهرات متفتحات، ومرة ثمرات ناضجات على شجرة، ومرة فراشات، ساكنات، تستريح بأجنحتها المفروشة على العشب.. وفي كل تشكيل، يجاهد الخيال كي يمضي أبعد في خيالاته..
نترككم مع صور بعض المجسّمات الفنية التي ابتدعها الخيال الإنساني، إذ تزرع في عيوننا الدهشة..
أصل وفصل..
من النبلاء إلى النساء
لا يوجد تاريخٌ مجمَع عليه بشأن تاريخ المظلة، كما لا يمكن الاتفاق على نسب أصلها إلى ثقافة بعينها، فثمة دلائل أركيولوجية وأنثروبولوجية تفيد بأن المظلة كانت متداولة – تاريخياً – في عديد من الثقافات البشرية، فعرُفت في مصر والصين واليونان القديمة وروما القديمة والهند وبلاد الرافدين وبلاد فارس، على أن معظم المصادر تجمع بأن تاريخ المظلة يعود بين ثلاثة إلى أربعة آلاف عام (ما يجعلها من أقدم الاختراعات البشرية)، وأنها شهدت ولادتها الأولى في الصين.
إلى ذلك، ارتبطت المظلة بالرِّفعة وسموّ المكانة الاجتماعية، حيث اقتصرت في صيغتها الأولى على رجال الدين وطبقة الأثرياء والنخبة في المجتمع. ففي مصر القديمة، كانت البشرة الفاتحة، غير المدعوكة بالشمس، من سمات طبقة النبلاء، لذا كان من الشائع أن يلجأ أفراد المجتمع المخملي إلى المظلّة لحماية بشراتهم من التلوّح بحرارة الشمس، حيث كان العبيد هم الذين يحملون المظلات الضخمةَ فوق رؤوسهم. وكانت المظلات المصرية عبارة عن مروحة مصنوعة من سعف النخيل أو أوراق الشجر العريض أو مجموعة من الريش الملون مثبَّتة على مقبض طويل. وكلما كانت المظلة ضخمة، وبتفاصيل كثيرة، كلما عكست مكانة صاحبها وحجم ثرائه. وبلغ من تقدير المصريين القدماء لمظلاتهم أنهم ضمنوها في رسوماتهم ومنحوتاتهم، باعتبارها توقيعاً بارزاً على حظوتهم الاجتماعية.
ولا تفوتنا الإشارة إلى أن المظلة كانت رمزاً دينياً في المعتقدات الدينية الأولى، إذ اقترنت بآلهة الخصب والحصاد، والموت والانبعاث، فالآلهة المصرية نوت، آلهة السماء في مصر القديمة، كانت تشبه أحياناً مظلة، إذ ترى جسدها في الرسومات مُنحنياً فوق الأرض في وضعيّة تقوُّس على هيئة مظلة. ويمكن العثور على رمز ديني شبيه في العديد من الحضارات التي عرفت «التعددية الإلهية».
في صيغتها الأقرب إلى مفهومها الحالي، تشير السجلات التاريخية إلى أنّ أول مظلة قابلة للطيّ موثقة تعود إلى العام 21 ميلادية، حيث صممت خصيصاً للإمبراطور الصيني وانغ مانغ، كغطاء فوق عربته ذات الأربع عجلات، حيث كان بالإمكان التحكم بدرجة اتساع المظلة وانكماشها، حسب الحاجة. ويُعتقد أن المظلة، القابلة للفتح والطي، قد عُرفت فعلياً في الصين في القرن السادس قبل الميلاد. عموماً، يميل العديد من المؤرخين إلى نسب المظلة، في صيغتها الأولى إلى الصين، قبل أكثر من ثلاثة آلاف عام، حيث يرى الباحثون أن الصينيين الأوائل قاموا بربط أوراق شجر ضخمة بأضلاع شبيهة بالأغصان فيما قد يكون أول اختراع فعلياً للمظلة. بيد أن باحثين آخرين يؤكدون أن فكرة المظلة الأولى استُلهمت من شكل الخيمة، وهو الشكل الذي ظلت عليه المظلة على مدى التاريخ وحتى يومنا الراهن. وأياً ما كان الأساس أو المفهوم الذي انطلقت منه المظلة الصينية، فلقد اقترنت بطبقة الحكام والنبلاء. كذلك، دل تصميم المظلة، وحجم البذخ في التفاصيل على نفوذ صاحبها، خاصة مع تطور تصاميم بعض المظلات بحيث كانت تتألف من عدة طبقات. إذ تشير الروايات التاريخية إلى أن مظلة إمبراطور الصين تألفت من أربع طبقات، في حين كانت مظلة ملك سيام مؤلفة من سبع أو تسع طبقات. ووصفت كتابات قديمة عثر عليها في بورما (ميانمار حالياً) الحاكم بـ«سيد المظلات الأربع والعشرين»، نسبة إلى عدد الطبقات التي تألفت منها مظلته هائلة الحجم.
من الصين، سافرت المظلّة إلى اليابان، ومنها إلى كوريا، كما وصلت بلاد فارس، ومن ثم انتقلت إلى العالم الغربي عبر طريق الحرير. كذلك، عُرفت المظلة تاريخياً في مملكة آشور في العراق، حيث تظهر المظلات في المنحوتات التي عُثر عليها في نينوى بكثرة. لكن المظلة الآشورية ظلت حصراً على الملك، الذي كان أصلع، حيث كان الخدم يحملون له المظلة، ولم يكن من المسموح أن ترفع المظلة فوق أي شخص آخر! في بلاد فارس، تكرر ظهور المظلة في منحوتات مدينة برسبوليس، أو تخت جمشيد، عاصمة الإمبراطورية الأخمينية. في بعض المنحوتات، توجد رسمة لملك فارس إلى جانبه خادم يحمل المظلة فوق رأسه. وعلى الأرجح أن المظلة كانت رفيقة أساسية في رحلات الصيد التي كان ملوك فارس يقومون بها، إذ تكشف بعض الرسوم النحتية، التي تشكل وثائق تاريخية جوهرية، والتي يعود تاريخها إلى قرابة ألف ومائتي عام خلت ملكاً يعتلي ظهر حصان، أثناء رحلة صيد للغزلان، مع وجود مظلة تغطي رأسه يحملها له أحد خدمه.
عُرفت المظلة في بلاد الإغريق قبل مئات السنين، لكنها سجلت تطوراً اجتماعياً نوعياً هناك، فاليونانيون القدماء أول من طوروا استخدام المظلة للنساء على نطاق واسع، حيث يذكر الكاتب والمسرحي اليوناني أرسطوفانيس المظلة باعتبارها من بين الإكسسوارات التي تستخدمها المرأة اليونانية، وكانت تُفتح وتُغلق. ويبدو أن المظلة في اليونان ظل استخدامها مقتصراً على النساء. ومن المحتمل أنها انتقلت إلى روما من اليونان، حيث كانت شائعة الاستخدام وسط النساء أيضاً، حيث كانت تستخدم لصدّ حرارة الشمس، وليست لتجنب بلل الأمطار.
مظلات بمواصفات عالمية في الحرم النبوي
من بين المشروعات الخلاَّقة التي تم تنفيذها أثناء توسعة خادم الحرمين الشريفين في المدينة المنورة، هي إضافة 250 مظلة على شكل زهرة اللوتس تغطي ساحات الحرم النبوي الخارجية لوقاية المصلين من وهج الشمس الشديد والأمطار كذلك.
تغطي المظلة الواحدة 576 متراً مربعاً، وتعمل بنظام آلي لفتحها وإغلاقها عن بُعد حسب الحاجة حين تسمح الظروف المناخية بذلك.. كما يشكِّل الرمح والتاج نهاية المظلة من الأعلى، وهي مصنعة من النحاس الملمع المطلي بالذهب (طلاء كهربائي)، أما نسيج المظلة فهو مصنوع من التفلون المقاوم للحريق.
مظلات لوّنت ذاكرتنا السينمائية والغنائية
كإكسسوار جمالي، رمزي أو قصديّ، استُثمرت المظلة – بتعبيراتٍ دلاليةٍ متنوعة – في عدد من المرويّات السينمائية. وفي بعض التجارب كانت المظلة بصمة الفلم الأبرز والأميز.
لا يمكن الحديث عن المظلة في السينما أو الفن دون أن نتوقّف مع الفلم الغنائي الاستعراضي «الغناء تحت المطر» (1952) بطولة جين كيلي. ففيه يقدِّم كيلي رائعته «أغنّي تحت المطر»، من خلال أداء استعراضي يتناوب فيه على فتح المظلة وإغلاقها، حيث تشكل المظلة جزءاً أصيلاً من تصميم «الكريوغراف»، وهو ما قد يكون أول أداء استعراضي من نوعه في تاريخ الفن باستخدام المظلة.
من كلاسيكيات السينما العالمية التي تشكِّل المظلة فيها جزءاً أساسياً من الفلم، معنى ومضموناً، كثيمة قابلة لأكثر من تأويل، الفلم الفرنسي «مظلات شيربورغ» (1964) من إخراج جاك ديمي، بطولة كاترين دينوف ونينو كاستلنوفو، وهو فلم «مُموسق» بالكامل، فكلّ حواراته مُغنّاة، في محكية سينمائية تنساب بعذوبة، لا يشعر الرائي معها بأن الموسيقى عنصر خارجي، وإنما من نسيج الفلم. يحمل الفلم اسمه من محلٍّ لبيع المظلات تديره امرأة مع ابنتها الصبية «جنيفيف» (كاترين دينوف)، ذات الـ17 ربيعاً. تقع جنيفيف في غرام الشاب «غي» (نينو كاستلنوفو)، لكن كقصص الحب الخالدة، لا تُكتَب نهاية سعيدة للعاشقين، إذ يشكِّل كل منهما أسرة، بمعزل عن الآخر، تشدّه إلى عالم الواقع. «مظلات شيربورغ» رواية الخسارات والحب الضائع؛ قد تقينا المظلات من المطر لكنها لا تقينا من انعطافات الزمن.
للتلطيف من مزاج الفقد، نتوقف مع فلم «ماري بوبنز» (1964)، وهو فلم غنائي استعراضي، من بطولة جولي أندروز وديك فان دايك، دخل كلاسيكيات السينما من خلال شخصية المربية «ماري» ذات القوى الخارقة، حيث تهبط بمظلتها على عائلة «بانكس» الإنجليزية، لتصلح حالهم وأحوالهم، فتعلِّمهم الدرس المهم في الحياة، وهو أنّ الحياة وُجدت كي نعيشها ونستمتع بها. لم تقترن المظلة بشخصية ماري بوبنز فحسب، وإنما خرجت من الشاشة حيث أصبحت رمزاً لوظيفة المربية «الاستثنائية» التي يمكن أن تصنع المعجزات في تربية الأطفال «المستعصين»! ثمة إشارة لهذا الرمز في فلم «مذكرات مربية» (2007)، الذي تلعب فيه الممثلة الأمريكية سكارليت جوهانسون دور «آني برادوك»، وهي خريجة جامعية تعمل مربية لدى عائلة ثرية، حيث ترى آني رسماً لمظلة على إحدى المباني في إحالة على وظيفة المربية التي تلتحق بها صدفةً، أو بالأحرى عن طريق «الخطأ»، قبل أن تغدو التجربة جزءاً حيوياً من تطوّر شخصيتها على أكثر من صعيد.
لكن المظلة «السينمائية» لا تنطوي على إيحاءات رومانسية بالضرورة، إذ تستخدم المظلة كسلاح قاتل من قبل «الرجل البطريق»، رمز الشر، (الذي يجسده الممثل الأمريكي داني دفيتو) في فلم «عودة الرجل الوطواط» (1992)، كما تُستخدم كسلاح سري فعّال في أفلام الإثارة البوليسية والجاسوسية مثل فلم «المنتقمان» (1998)، حيث يكاد لا يُشاهَد العميل البريطاني جون ستيد (الذي يتقمّصه النجم رالف فيانس) دون سلاحه الرئيس: المظلة!
على صعيد الأغاني، تزخر المكتبة الغربية بالأغنيات التي تدخل فيها المظلة كمفردة ذات إيقاع مبهج بالمُجمل. من أشهر تلك الأغنيات، كما أشرنا سابقاً، «أغني تحت المطر» التي أداها جين كيلي. على أنه قبلها وبعدها تضيء في الذاكرة أغنيات كثيرة تحتفي بالمظلة، كرمز دافئ المعنى، لعل أشهرها أغنية «دع الابتسامة تكون مظلتك في يوم ماطر»، التي تعود إلى عشرينيات القرن الماضي وقُدِّمت بمئات النسخ، من أبرزها وأكثرها انتشاراً تلك التي أدّاها المغني الأمريكي بينغ كوسبي عام 1957. لعل أشهر الأغنيات الحديثة التي أخذت المظلة، اسماً ومعنى، أغنية «المظلة» للمغنية الباربادوسية ريانا (2007).
الملاحظة التي لا يمكن تفويتها هو غياب المظلة، شبه التام، عن المكتبة الموسيقية العربية. فإذا ما عصرنا فكرنا في محاولة استعادة أقرب أغنية تتناول هذه الثيمة، تبرق في الذاكرة «دقوا الشماسي» للمغني الراحل عبدالحليم حافظ في فلم «أبي فوق الشجرة» (1969) الذي يتقاسم بطولته مع نادية لطفي وميرفت أمين. و«الشماسي» في الأغنية هي جمع «شمسية»، وهي تلك زاهية الألوان، ضخمة الحجم، التي تُغرس في رمال الشاطئ، مسرح الأغنية، ضمن أوبريت صيفي غنائي خفيف، على أحد شواطئ الإسكندرية. من الأغنيات التي راجت في منتصف تسعينيات القرن الماضي أغنية «تحت الشمسية» للمغني اللبناني زين العمر، حيث اشتهرت بسبب إيقاعها الخفيف من جهة وموضوعها غير المألوف، لجهة ندرة استخدام مفردة الشمسية في الأغنية العربية عموماً. وإذا كانت «شماسي» عبدالحليم حافظ، الأشهر قاطبة إن لم تكن الوحيدة، يتم التغني بها لصدّ شمس الصيف، فإن «شمسية» زين العمر أقرب إلى مناخ منطقة الشرق الأوسط، حيث الغلبة لمطر الشتاء على حرّ الصيف، فهي لصدّ زخات المطر.
رجل إنجليزي شجاع!
لم تلقَ المظلة رواجاً أو استعمالاً على نطاق عريض في أوروبا إلا في القرن السابع عشر، وعلى الأرجح أن المظلة وصلت أوروبا من الصين. ويُقال إن الطليان أول من «عمّموا» استخدام المظلة، التي أشاروا إليها بـUmbrella، وكان الرحالة الإنجليزي توماس كوريات قد أشار إلى أنه شاهد الخيالة في إيطاليا يحملون بأيديهم مظلات وهم على ظهور الجياد، ما جعل مساحة وفيرة من الظل تفترش فوق رؤوسهم. جاء ذلك في كتابه المرجعي في أدب الرحلة «كروديتيز» (1611)، الذي يسجِّل فيه ملاحظاته أثناء قيامه بجولة في أوروبا، قطع أجزاءً كبيرة منها سيراً على القدمين، متوقفاً في فرنسا وإيطاليا وألمانيا ودول أوروبية أخرى.
وصلت المظلة فرنسا في القرن السابع عشر، حيث يسجل التاريخ أن النساء الفرنسيات هن اللاتي عمّمن استخدام المظلة وقد تحوّلت في أيديهن إلى إكسسوار أنيق وموضة. وكانت المظلات قد تفتحت، زهرات صيفيات يانعات، في أيدي النساء الإنجليزيات، في النصف الثاني من القرن السابع عشر، وإن كن أقل ولعاً وأقل إقبالاً عليها مقارنة بنظيراتهن الفرنسيات. يقال إن البرتغالية كاترين أميرة براغانزا هي أول من أدخلت المظلات إلى إنجلترا في أعقاب زواجها بملك إنجلترا تشارلز الثاني عام 1661، إذ كانت قد أحضرت معها – ضمن جهاز العروس – شمسية برتغالية الصنع.
ثم كان أن أهدت الصين العالم المظلة «المشمَّعة» المقاومة للماء، والمستخدمة خصيصاً لصدّ زخات المطر، فزاحمت مظلة المطر مظلات الشمس في أوروبا بدءاً من مطلع القرن الثامن عشر. منطقياً، وبالنظر إلى المناخ الماطر في معظم أيام السنة في إنجلترا، كان مقدراً لمظلة المطر، التي كان يشُار لها في البداية باسم Umbrellow، من كلمة Ombrelle الفرنسية (المشتقة بدورها من الإيطالية Ombrellino) أن تلقى رواجاً وسط الإنجليز. ومع ذلك، تأخّر تداولها على نطاق رجالي، حيث اقتصر استخدامها في البداية في المقاهي؛ فكانت المظلات مثبتة عند مدخل المقهى، حتى إذا غادر الزبون، سارع أحد العاملين في المقهى إلى حمل المظلة فوق الشخص ومرافقته بها إلى عربته، وذلك لحمايته من البلل. ولم يكن الرجل ليجرؤ على أن يحمل مظلة بيده، خشية أن يكون مثار سخرية المجتمع، كونه يتشبّه بالنساء!
جرياً على سنّة التطور والارتقاء في الحياة، أخيراً تجرأ رجل إنجليزي على حمل مظلة. إنه الرّحالة الشهير جوناس هانْوي، الذي كان أول إنجليزي يسير في الشارع يحمل مظلة في يده في شوارع لندن. يقال إن هانْوي حمل المظلة بدءاً من منتصف القرن الثامن عشر، وظلت في يده ثلاثين عاماً حتى وفاته في العام 1786، فكان نادراً ما يُرى دون المظلة، مفتوحة فوق رأسه، ومغلقة في يده، يتكئ عليها كعصاة في أيام الصحو، حيث كان يستخدمها شتاء للمطر، وصيفاً للشمس. لم يسلم هانْوي من تعليقات الناس، فكانوا ينادونه تندراً بـ«الفرنسي»، ذلك أن الرجال الفرنسيين كانوا قد سبقوا نظراءهم الإنجليز في حمل المظلة، والسير بها في الشوارع دون خجل!
لكن الإنجليز إذ انتقعوا بمياه المطر بما يكفي، وبعدما لم تعد معاطفهم تقيهم البلل، أقبلوا على المظلات في الشتاء، التي أطلقوا عليها في البداية اسم «هانْوي» نسبة إلى «الرفيق» جوناس هانْوي، «أشجع» بني الإنجليز في مجابهة المطر، وأقلهم حياء في اعتماد إكسسوار ظل لعقود نسائياً بامتياز! في تلك الفترة برز التمييز واضحاً بين نوعين من المظلات: مظلة الصيف، التي ظلت مقتصرة تقريباً على النساء، ومظلة الشتاء التي صار الرجال يتسابقون إلى حملها.
مجدٌ أوروبي
عاشت المظلة مجدها في أوروبا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، إذ شهدت تطوراً في تقنيتها وتنوعاً في الخامات المستخدمة في صناعتها. تاريخياً، سجلت أول براءة اختراع للمظلة، رسمياً، باسم الإنجليزي جون بيل وذلك عام 1786، حين تقدَّم بفكرة قبة أو مظلة مخروطية دائرية تدعمها أضلاع متصلة بقصبة مركزية. ومع تحول المظلة إلى قطعة أساسية في كل بيت، لها مكان مخصص في الخزانة أو في «علّاقة» الملابس بجوار المعاطف والجاكيتات في القرن التاسع عشر، بدأت براءات اختراع المظلات في ازدياد مطرد، حيث قُدِّر عددها بأكثر من 40 في العام، بدءاً من العام 1860 وحتى منعطف القرن العشرين. وشهد العام 1830 حدثاً فريداً في بريطانيا مع افتتاح أول محل من نوعه مخصص لبيع المظلات في لندن. يحمل المحل اسم «جيمس سميث وأبناؤه»، ولا يزال قائماً حتى يومنا هذا في شارع أكسفورد.
قطعاً، أسهمت الثورة الصناعية في ازدهار السوق العالمية للمظلات، وكانت بريطانيا قطب الصناعة الأول في العالم، ونقطة التصدير الرئيسة، خاصة إلى مستعمراتها، بما في ذلك أمريكا. بموازاة المظلات المخصصة للمطر، التي اتسمت بمتانة خاماتها مقابل تواضعها الجمالي، شهدت مظلات الصيف «الشماسي» موضة لا غنى عنها للمرأة في القرن التاسع عشر، كإكسسوار جمالي أكثر منه عملي أو وظيفي، وهو إكسسوار كان قد ترسخ في القرنين الـ17 والـ18، قبل أن يسلك مسالك أكثر ترفاً وبذخاً في القرن الـ19، بحيث بات جزءاً مكملاً لإطلالة المرأة الأنيقة، يعكس مكانتها الاجتماعية والاقتصادية. فغصّت الأسواق بكل أنواع المظلات المصنوعة من الأقمشة المطرزة بعناية، أو المشغولة بالخرز، أو الأقمشة المخرمة الثمينة أو تلك المحيكة من الحرير، وكانت قصبات المظلات من الأبنوس أو العظم (خاصة عظام الحوت)، في حين تنوعت خامات مقابضها من أغلى أنواع الخشب إلى تلك المصنوعة من العاج أو من المعدن، والمرصعة بالجواهر الثمينة.
وحدث التطور النوعي، فبدأت ثورة صناعة المظلات على يد الصناعي الإنجليزي صامويل فوكس في العام 1852 من خلال ابتكار ما يعرف بأضلاع المظلة المصنوعة من الفولاذ على هيئة حرف U بالإنجليزية، والتي ظلت الأساس لهيكل المظلة العصرية، على أن ثمة من يؤكِّد أن مفهوم الأضلاع المعدنية تبلور فعلياً في نهاية القرن الثامن عشر.
.. والمظلة
سلاح فتَّاك أحياناً
قطعاً استخدم الإنسانُ المظلةَ كسلاح، وفي أفضل الأحوال كأداة دفاعٍ عن النفس. والخيال البشري، المهووس بالشرّ كما الخير، طالما سعى إلى «تسليح» المظلة.
تعود فكرة استخدام المظلة في القتال أو الاشتباك إلى قرابة قرنين من الزمان، وتحديداً في العام 1838، حين وضع البارون الإنجليزي تشارلز دو بيرينغر دراسةً مستفيضةً حول آليات استخدام المظلة كسلاح للدفاع عن النفس في مواجهة قُطّاع الطرق والأشرار. من بين التقنيات «القتالية» التي اقترحها بيرينغر القيام بإعاقة أو سدّ مجال الرؤية لدى الشخص الذي يحاول الاعتداء، من خلال فتح المظلة في وجهه، قبل القيام باستخراج مسدس (يُفترض أنه بحوزتنا)، ومن ثم إطلاق الرصاص على المعتدي!
وفي العام 1897، نشر الإنجليزي جيه إف سوليفان مقالة في مجلة «لودغيت» الشهرية بعنوان «المظلة: سلاحٌ أُسيء فهمه»، دعا فيها إلى تطوير استخدام المظلة كسلاح للدفاع عن النفس، منتقداً عدم وجود مدرسة في لندن لتعليم ما وصفه بـ«المبارزة بالمظلة» أسوة بالمدارس والأندية اللندنية التي تعلم فن المبارزة بالسيف.
لم يمض وقت حتى اعتمد الإنجليزي إي دبليو بارتون – رايت، المتخصص في الفنون القتالية، استخدام المظلة وعصاة المشي في الدفاع عن النفس، من خلال «البارتيتسو»، (و«البارتيتسو» شكل من أشكال الفنون القتالية تم تطويره في لندن في الأعوام من 1898 إلى 1902، حيث جمع فيه بارتون – رايت، صاحب الفكرة، بين أفضل عناصر وتقنيات الأساليب القتالية في كلّ موحَّد، على حدّ وصفه). بعد أن أغلق نادي البارتيتسو أبوابه عام 1902، انتقل تدريس تعلّم القتال والدفاع عن النفس باستخدام المظلة إلى أندية رياضية أخرى في لندن، ثم سافر هذا الفن إلى الولايات المتحدة في العام 1908، حيث تبنى معهد فيلادلفيا للثقافة البدنية منهاج «استخدام المظلة في الدفاع عن النفس»، وكان موجهاً على نحو الخصوص للسيدات اللاتي قد يعترض طريقهن في الشارع لص، فلا يجدن سوى مظلاتهن أفضل وسيلة يدافعن بها عن أنفسهن، ويحبطن من خلالها أي محاولة من جانب اللص لسرقة حقائبهن أو الاعتداء عليهن، إذ كانت من تقنيات استخدام المظلة كسلاح تسديد ضربة بها على رأس المعتدي، أو محاولة إعاقة حركته بـ«احتجازه» من رقبته عبر تطويقها بمقبض المظلة المعقوف!
لكن المظلة لم تكتف بأن تكون سلاحاً دفاعياً، يصدّ ولا يهاجم. ومفهوم تطوير المظلة كسلاح قاتل خرج من روايات الخيال العلمي والسينمائي إلى الواقع، لتتحول إلى أداة اغتيال فعلية! استُخدمت المظلة كسلاح قاتل في اغتيال الكاتب البلغاري المنشق جورجي ماركوف في العام 1978. وكان ماركوف قد فرّ من بلغاريا عام 1969 إلى أوروبا الغربية، حيث عمل في عديد من الوسائل الإعلامية، موجِّهاً من خلالها نقداً لاذعاً لنظام الحكم الشيوعي في بلغاريا. ويُعتقَد أن الحكومة البلغارية قد سعت إلى «إخراسه» بأي ثمن، إذ قام عملاء من الشرطة السرية البلغارية بمساعدة الاستخبارات السوفياتية بمحاولتين فاشلتين لاغتياله، قبل محاولة ثالثة ناجحة. وقعت عملية الاغتيال في 7 سبتمبر/ أيلول 1978، بينما كان ماركوف يقطع جسر واترلو، الممتد فوق نهر التايمز في لندن، حيث توقف كي يأخذ الحافلة إلى عمله في محطة البي بي سي الإذاعية. عندئذ شعر بوخزة دبوس في فخذه اليمنى، فنظر خلفه ليرى رجلاً يلتقط مظلة من الأرض ويركض مسرعاً قبل أن يركب سيارة أجرة ويمضي بعيداً عن المكان. ذهب ماركوف إلى عمله، لكنه لاحظ أن الألم كان يتعاظم في ساقه. في المساء أصيب بحمى أُدخل على إثرها المستشفى، ليموت بعد ثلاثة أيام من الحادثة وذلك في 11 سبتمبر/ أيلول. وتبين أن سبب الوفاة مادة الريسين شديدة السمية، حيث دخلت جسمه عن طريق قذيفة أو رصاصة صغيرة تم إطلاقها من المظلة. ولقد وُصفت هذه الحادثة بـ «عملية الاغتيال بالمظلة».
وأخيراً.. أهلاً بالمطر!
في القرن العشرين، انحسر دور المظلة في الحماية من الشمس، وتعززت وظيفتها في الوقاية من المطر. وفي الثلاثينيات، سقطت «الشمسية» من يد المرأة، بعدما أصبحت البشرة السمراء الملوَّحة بدفء الشمس هي الموضة الدارجة. إلى ذلك باتت الحظوة، بلا منازع، لمظلة المطر. وغدت صورة الرجل يمشي في الشارع ببزة أنيقة ومظلة سوداء في يده من السمات الاجتماعية التي اقترنت بالجنتلمان المدني بعد الحرب العالمية الثانية.
انطلاقاً من النصف الثاني من القرن العشرين، خضعت المظلة للتطور التقني الذي وسم مختلف مظاهر الحياة في الغرب، فابتُكرت المظلات الشفافة التي لقيت رواجاً تحديداً في ستينيات القرن الماضي. وفي الخمسينيات، ظهرت المظلات المصنوعة من النايلون، التي حققت نجاحاً كبيراً كونها عملية وقوية ومقاومة للاهتراء، مقارنة بتلك المصنوعة من الأقمشة المعالجة بالمشمّع. ثم تطورت المظلة القابلة للطي، التي تعود فكرتها تاريخياً إلى الصينيين القدماء، من خلال تقنيات طيّ ولفّ متنوعة، بحيث بات بالإمكان إغلاق المظلة وطيّها ووضعها في حقيبة اليد بكل يسر، وهناك ما يعرف بـ«الميني أمبريلا» (أي المظلة الصغيرة جداً) أو الـ«بوكيت أمبريلا» (أي مظلة الجيب)، وهي مظلة لا يزيد حجمها، وهي مغلقة ومطوية، على حجم الموبايل، ويمكن وضعها في الجيب. في العام 2007، شهد العالم أول مظلة مضاءة، ينبعث منها ضوء، يمكن التحكم بدرجته، في الليل، سواء من خلال إضاءة القصبة أو من خلال لمبات مثبتة تحت قبة المظلة، حيث سُجلت براءة المظلة المُنارة باسم الأمريكي دوين كاهيل من بنسلفانيا.
من بين أنواع المظلات الأكثر شيوعاً وتداولاً في الوقت الراهن: «المظلة المقاومة للهواء»، وهي تمتاز بأنها ذات هيكل متين وإطار محكم، بحيث لا تنقلب «قبة» المظلة، أيا كانت سرعة الريح. وهناك «المظلة القلم» التي تمتاز بقصبتها المعدنية الرفيعة جداً كالقلم. وبالطبع لا ننسى «مظلة الغولف» الشهيرة، التي تتّسم بأنها أكبر حجماً من المظلات العادية، كما أنها أكثر متانة، وأغلى ثمناً، والغرض منها ليس فقط حماية لاعب الغولف، من حر الشمس أو ماء المطر، وإنما عربته كذلك. وعلى الرغم من أنّ «مظلة الغولف» صنعت خصيصاً من أجل ملاعب الغولف، إلا أنها حظيت بسمعة طيبة خارج الملاعب، لتعلو الرؤوس في الشوارع، نظراً لإمكاناتها في توفير حماية أكبر من أنواء الطبيعة المختلفة.
من الأبّهة الملوكية والإمبراطورية، فالمسحة الدينية، ومن ثم النخبوية، نزلت المظلة من عليائها، لتصير في يد العامة، قبل الخاصة.. ومن خصوصيتها النسوية وحصريتها الأنثوية، صارت قرينة للجنسين. ومن إكسسوار شمسي استحالت سمة شتوية أساسية.
ككل الأدوات «البشرية».. بدأت المظلة رمزاً، وانتهت حاجة.. وبين الرمز والحاجة، قطعت المظلة رحلة حياة طويلة، تفتحت خلالها تحت لهيب الشمس، ثم تحت وابل المطر.. بين الرمز والحاجة، انضوت تحت المظلة أفكار وخيالات ورؤى وأغراض شتى.
المظلة الأغلى
في العالم
بات بإمكان نخبة النخبة «الجنتلمانية» في المجتمعات الأوروبية التباهي بحمل ما قد تكون فعلياً المظلة الأغلى في العالم! المظلة تحمل توقيع «بليونير إيتاليان كوتور»، العلامة التجارية الأكثر رفاهيةً، حيث تُعد «أول علامة تجارية عالمية راقية من نوعها للرجال حصرياً».
أسس هذه العلامة الراقية رجل الأعمال الملياردير الإيطالي فلافيو برياتوري، الذي اقترن اسمه بسباق فورمولا 1، بالتعاون مع مصمِّم الأزياء الإيطالي البارز أنجيلو غالاسو. ولقد طرحت بليونير إيتاليان كوتور في مطلع العام 2009 مظلةً للرجال مصنوعةً من أرقى وأغلى أنواع جلد التمساح، المقاوم للماء، وبالتأكيد غير القابل للبلى والاهتراء!
وكي تكون المظلة حصريةً أكثر، فقد حرص كل من برياتوري وغالاسو بأن تحملَ كلُّ قطعة تفاصيل فردية، تميِّز صاحبَها، وهي تفاصيل تأتي «حسب الطلب». تُباع المظلة في المحل الرئيس لعلامة بليونير إيتاليان كوتور في العاصمة البريطانية لندن بمبلغ 50 ألف دولار أمريكي أو ما يعادله! (لنعترف أن هذا الثمن يشكِّل «فراطة» أو «خردة» في جيوب المليارديرات!)
متحف أغلفة المظلات
يقول المثل: «الفاضي يعمل قاضي» والأمريكية نانسي هوفمان «فاضية» بالتأكيد! وفي «فضاوتها» ألهمتها إحدى بنات أفكارها بفكرةٍ غريبة من نوع جمع أغلفة المظلات وإقامة متحف مخصَّص للاحتفاء بها.
يُعرف المتحف باسم «متحف أغلفة المظلات»، حيث تأسس في العام 1996 في جزيرة بيكس آيلاند، بولاية مين الأمريكية. ولقد بادرت نانسي إلى إقامة المتحف بعدما اكتشفت، أثناء ترتيب بيتها، أن لديها خمسة أو ستة أغلفة مظلات، حيث لم تعرف ماذا تفعل بشأنها، فقررت أن تجمعَ الأغلفةَ التي بحوزتها، وتلك التي يلقيها الآخرون أو يتبرّعون بها لها، بحيث تعرضها في متحف.
وغلاف المظلة هو عبارة عن الكيس الذي يتم الاحتفاظ بالمظلة في داخله، حيث يكون عادة مصنوعاً من خامة المظلة نفسها، كما يحملُ النقوشَ أو الرسومَ نفسها. يُعرف الغلاف بالجورب أو الجراب أو الكيس. ويضم متحف نانسي، الذي يعدُّ الوحيدَ من نوعه في العالم، أكثر من ستمائة غلاف مظلة، جمعتها من مختلف أنحاء العالم، معظمها تبرعات من زوار المتحف، الذي يفتح أبوابه في الصيف فقط، حيث يُغلق في الشتاء.. (ربما لأن الناس لا يستغنون عن مظلاتهم وأغلفتهم في موسم الشتوية!)
بحسب الموقع الرسمي للمتحف على الشبكة العنكبوتية، فإن الهدف من متحف أغلفة المظلات هو «الاحتفاء بالعادي في حياتنا اليومية، فالأمر له علاقة بالعثور على العجيب والجميل في أبسط الأشياء، وأن نعرف أن هناك قصة دائماً وراء كل غلاف.»