كان احتراف المرأة للفنون التشكيلية ولا يزال موضع أسئلة تحاول مقارنته حجماً ونوعاً بإنتاج الفنانين من الرجال. وهذه الأسئلة ليست خاصة بثقافة معينة بل يكاد طرحها أن يكون عاماً في كل ثقافات العالم وأعرقها تمرساً في الفنون التشكيلية.
الناقد محمد المنيف يعرض لنا تجربة المرأة السعودية وتاريخها في مجال الفن التشكيلي المعاصر وما آل إليه واقعها اليوم.
إلى أي مدى تستطيع المرأة أن تتخلى عن واقعها المشحون بالكثير من التفاصيل والجزئيات كأم وإنسانة تبحث عن الوقت ليستوعب احتياجاتها اليومية، فتتحول إلى سجينة المرسم واللوحة مع إبداع كبير كانت هي في الأصل ملهمته في اللوحة والقصيدة والرواية والقصة، ولتصبح هي نفسها فنانة تعيش في عزلة مع الفكرة والتقنيات وتحديات معالجة العمل الفني بكل أسسها وقوانينها في عالم الألوان والخطوط والمساحات وأدواتها المتعددة، والغاية أن تقدم في النهاية أعمالاً تثير الدهشة والإعجاب متفاعلة مع معطيات الواقع بكل همومه وشؤونه وشجونه معيدة صياغتها في إطار ثقافتها المعاصرة؟
ثم يأتي سؤال أكثر التحاماً مع شخصية المرأة في إبداعها الفني بعد أن وضعت بصمتها وحضورها على الفن التشكيلي، وهو حول اختلاف هذا الأداء عن أداء الرجل. هل يقل أم يزيد؟ وهل المرأة في فنها بقيت تابعة لفن الرجل نتيجة التأثر بأعماله، خاصة وأنه سبقها بأشواط طويلة في هذا المضمار؟
قبل أن نُجيب عن هذه التساؤلات، علينا أن نتعرف على ملامح حضور الفنانة التشكيلية السعودية وتاريخه، مع الإشارة إلى أن تاريخ الفن على المستوى العالمي يؤكد أن دخول المرأة هذا المجال جاء متأخراً، ما بين القرنين السادس عشر والسابع عشر الميلاديين. وتم ذلك بجهود فنانات كنّ في الأصل زوجات لفنانين لهم حضورهم الإبداعي في تلك الحقبة التاريخية. من هنا نجد العذر عندما نقول إن الحضور النسائي التشكيلي المحلي وبشكله المكثف، جاء بعد مرحلة من الحضور الرجالي الذي حقق فيه الرجل دوراً تأسيسياً كبيراً باستثناء أسماء قليلة تعد على أصابع اليد الواحدة، برزت مع أول خطوة في بناء الحركة التشكيلية السعودية.
معارضهن
وتبع تلك المرحلة التأسيسية حضور نسائي في غالبية المعارض التي يمكننا أن نفصلها على النحو الآتي:
– المعارض الرسمية
– معارض القطاع الخاص
– معارض جماعية بجهود ذاتية
– معارض فنانات ممارسات ممن لهن تجارب
– معارض فنانات واعدات
وتُظهر هذه المعارض لغير المتخصص الكثير من الخلط بين من يمكن أن توصف أعمالهن بـ الهواية ، وبين من لديهن مواصفات الاحتراف، أو من يمارسن أعمال الفنون التطبيقية لأغراض الديكور والتزيين. وهنا تتضح الفكرة القائلة إن الحالة التشكيلية النسائية تمر حالياً بزوبعة من عدم التنظيم والتصنيف، مما أدى إلى تراجع المستوى العام للفن التشكيلي عامة، والنسائي شكلاً ومضموناً، ثم إلى تراجع متابعة الجمهور له خصوصاً الجمهور الواعي الباحث عن العمل التشكيلي الناضج.
وعند تفصيل أدوار تلك المعارض نجد أن الرسمية منها تقوم بدور تشجيعي وداعم للفنانين والفنانات مهما اختلفت مستويات الإبداع والقدرات. فاختلط فيها الغثّ بالثمين. وأصبحت المعارض ميداناً فسيحاً للجميع، الأمر الذي دفع بالكثير من الأسماء النسائية المعروفة والمحترفة إلى الانسحاب من المشاركات، فخلت الساحة للهاويات والواعدات، ومنحن الجوائز المتقدمة، وأضيفت إليهن صفة الفنانات في كل إصدار حول الفن التشكيلي.
من جهتها، لم تكن معارض القطاع الخاص أقل سوءاً من حيث التنظيم. إذ أن الهدف من معظمها كان دعائياً، فترك الباب مشرعاً أمام قصور النظرة المستقبلية لدى المعني بالتنظيم، أو من أوكل إليه وضع آلية المعرض أو المسابقة، أو توجيه الدعوات إلى المشاركات.
ثم تأتي المعارض الذاتية التي تقوم على جهود شخصية من بعض الفنانات. وهي فكرة جميلة وجدت القبول، وكان من أهم أسباب إقامتها تجاهل المعارض الأخرى لأعداد كبيرة من الراغبات في المشاركة، فوجدن أن عليهن القيام بعمل ما لخدمة إبداعهن والتعريف به. وكان لتلك الخطوات نجاح كبير على الصعيد الإعلامي. إلا أن المشكلة في الاختيار ونوعية الأعمال بقيت قائمة، وذلك لحاجة منظمي المعرض إلى كل الأعمال المشاركة من دون النظر إلى مستواها.
وعلى الرغم من النشاط الملحوظ الذي عرفته الحركة التشكيلية النسائية، فإن الحضور المكثف لم يسد النقص في المستوى، أو يوجد البديل عمن أثبتن جدارتهن من الأسماء القليلة، أو ممن كانت لهن الريادة، مع تراجع بعضهن عن المشاركة أو الحضور الإبداعي نتيجة مسببات كثيرة. ومنهن على سبيل المثال الفنانة صفية بن زقر (من مواليد جدة 1940م)، والتي أقامت أول معرض لها في دار التربية الحديثة في مدينة جدة سنة 1968م، فسُجّل في تاريخ الفن السعودي كأول معرض نسائي. وتأتي الفنانة منيرة موصلي في السياق التاريخي نفسه، إضافة إلى الفنانة نبيلة البسّام.
المرحلة الحالية بسلبياتها
بعد مرحلة الريادة تلك، نجد أن الساحة التشكيلية في الفترة الأخيرة تزخر بأعداد كبيرة من الأسماء النسائية التي دخلتها باندفاع نتيجة التعليم المتخصص العالي وتشجيع الجهات المعنية مثل الرئاسة العامة لرعاية الشباب التي أطلقت أول معرض تشكيلي جماعي للفنانات من مختلف مناطق المملكة.
إلا أن الفترة الأخيرة التي نحددها بما لا يزيد على الخمس أو الست سنوات الأخيرة، رسمت علامة استفهام كبيرة عند المتابع والراصد لمسيرة الفن التشكيلي المحلي. ومن أهم أسبابها أن وجود بعض الأسماء في الساحة جاء نتيجة الاضطرار إلى مواجهة محدودية الإبداعات، وبعضها لا يمكن أن يصنّف كأعمال تشكيلية بناءً على ما يتوجب أن تكون عليه الأعمال المتعارفة عالمياً على مقاييس جديتها بدءاً من الفكرة مروراً بالثقافة وانتهاءً بالتقنيات ومستوى أداء الفنانة. فغالبية الأعمال المشاركة في المعارض التشكيلية النسائية لا تتعدى ما تمّ إنجازه في أقسام التربية الفنية كمشاريع تخرج من المعاهد. وعلى الرغم من قصورها وتدني مستوى تأثيرها في المشاهد، فإن امتلاكها للحد الأدنى من مواصفات العمل الفني، يمكّن صاحباتها من الحصول على أول مشاركة في المعارض، والحصول بكل يسر وسهولة على صفة الفنانة.. وبناءً عليه، أصبحن وبشكل سريع في مصاف الأخريات ممن يعتبرن فنانات نتيجة ما تحقق لهن من إنجاز في الخبرات والتجارب، وربما يمتلكنه من مختزل ثقافي واعٍ لكل ما هو جديد في هذا الفن.
هناك وجود غير منظّم وغير مدروس في المعارض عموماً لن يحقق أية إضافة إلى الساحة الفنية بقدر ما يؤدي إلى زعزعة الثقة. أما أهم أسبابه فهي الآتية:
–
أن قسماً كبيراً من المشاركات لا يحملن من المعرفة الفنية غير ما تلقينه من دروس في كليات التربية الفنية وبشكل عابر لا يحقق القدر المطلوب لتصبح الدارسة فنانة تشكيلية بالمواصفات المفترضة.
–
أن قبول أية مشاركة من قبل منظمي المعارض لمجرد التشجيع أعطى فرصاً للغثّ أكثر مما أعطى للثمين، وزعزع ثقة رواد المعارض الذين من حقهم أن يتوقعوا مشاهدة الأفضل.
–
أن غالبية المشاركات في المعارض لا يفرقن بين هواية عابرة وبين موهبة مصقولة بالدراسة والبحث والتجريب اليومي، وفي مقدمتها القدرات الخاصة على الرسم.
إضافة إلى أن ما يقدم من أعمال يندرج عادة في واحد من ثلاثة تجمعات أو أربعة:
أ –
أعمال اعتمد فيها على النقل من صور فوتوغرافية أو لوحات لفنانين عالميين، وبشكل يكشف ضعف المحاولات.
ب –
أعمال تم التدخل في تنفيذها بمشاهدة من غير الفنانة نفسها، أو كُلِّف بها رسامون أو خطاطون يكشفه تنوع الطرح عند المشاركات من معرض إلى آخر.
ج –
أعمال تعتمد على استلهام الزخرفة والنقوش أو الصور الخيالية بإيحاء حالم ورومانسي أقرب إلى رسم أغلفة القصص والدواوين الشعرية.
د –
أعمال تندرج تحت مظلة التحديث أو الفن التجريدي إما لعدم قدرة الفنانة على تقديم ما يثبت قدراتها أو توقعاً منها أن مثل هذا الفعل هو السائد. من دون علمها بأن اللوحة التجريدية لا تأتي عبثاً أو صدفة، بقدر ما تختزل تجارب قوية ومتميزة. والأهم من ذلك هو أن الأسلوب لا يحتمل لَيَّ ذراعيه ليطاوع رغبة الفنان، بل يفترض بالفنان الانقياد له نتيجة مخاضه الطويل مع التجارب والعمل المتواصل.
..وبإيجابياتها أيضاً
من هنا، وللحفاظ على أن تكون قاعدة الإبداع النسائي صلبة، فإن الوقت لا يزال مهيئاً لضبط آلية صالحة ومجدية لتنظيم المعارض. تحدد فيها أولويات المشاركة والمستوى المطلوب، على أن يتم ذلك على أيدي لجان قادرة على حسم النتائج وتقييم العمل تقييماً صحيحاً. فالساحة حافلة بالمبدعات. واستطاعت الفنانة التشكيلية السعودية أن تنافس وتحصد الجوائز. ولكل فنانة يهمها أمر إبداعها أن تبحث وتجرب وتصقل موهبتها بالخبرات. لا أن تضع الإبداع في حيّز الهواية والتسلية أو التقليد لمجرد الوجود. فلكل خطوة في الفن التشكيلي محاذيرها. إذ تتكشف فيها الحقائق وتبرز القدرات. ولم يعد العمل أو المعرض في حدود الأسرة أو الأصدقاء، بل تعداها إلى أعين المتلقين في كل أرجاء العالم، إضافة إلى أن الفن التشكيلي بكل وسائله ووسائطه ليس شكلاً من أشكال التجميل أو التزيين، بل أصبح رافداً في الفكر وعنصراً مهماً في بناء ثقافة العصر.
الفرص متاحة
والواقع أن مثل هذا الوجود وتلك الكثافة تعني أن الفرص قد أتيحت للإبداع المرن دون أي شروط أو مواصفات خصوصاً في مرحلة البدايات. دون أية شروط أو مواصفات خصوصاً في مرحلة البدايات. وهذا بالطبع سلاح ذو حدين. ففي حالة استمرار هذا التدفق دون وجود آلية تنظم ما قد تنعكس فيه النتائج على المستوى العام للفن ويصبح الوصول إلى الأفضل صعب التحقيق. أما في حالة مراجعة التنظيم ووضع الخطة المدروسة لتلقي من يستحق أن يمثل الفن النسائي فسوف نخرج بمحصلة رائعة ومحققة للهدف.
ونحن اليوم أمام عديد ليس بالقليل من الأسماء التي أصبحت الآن على هرم التميز وفي مقدمة الركب التشكيلي من الفنانات اللواتي يمكن لنا استخلاصهن، والأخذ بهن وتوظيف إبداعهن لتمثيل مسيرة التشكيلي السعودي مع زملائهم التشكيليين.
ويمكن لنا على سبيل المثال ذكر بعض الأسماء التي لفتت بإبداعها أعين النقاد والمتابعين محلياً ودولياً لما تمتعت به من ملكات فكرية وثقافية وتقنية عائدة إلى معرفة مستفيضة بمعنى الفعل التقني لتنفيذ العمل. وإذا عدنا للأسماء البارزة أو المستحقة للذكر والإشادة نجد منهن الفنانة فوزية عبداللطيف، منى القصبي، اعتدال عطيوي، نوال مصلي، زهرة أبو علي، إلهام بامحرز، مريم مشيخ، بدرية الناصر، شريفة السديري، شادية عالم، هدى العمر، رضية برقاوي، حميدة السنان، منى المروحن، سلوى العثمان، غادة بنت مساعد، شاليمار شربتلي، إضافة للرائدات منيرة الموصلي وصفية بن زقر ونبيلة البسام.
وحول اتجاهات الفنانات في احتواء العمل الفني فقد تنوعت بين تسجيل للواقع ورصد العادات والتقاليد إلى تجارب في استخدام الخامات المتنوعة وصولاً إلى النحت.
لقد مارست الفنانة التشكيلية السعودية مختلف التجارب بمغامرة مدهشة خصوصاً عند اللواتي لم يتعلمن الفن عن طريق الدراسة الأكاديمية أو تخرجن من معاهد ذات علاقة ومع هذا فقد أثمرت تجاربهن الكثير من النجاح والتميز وصل فيه الكثير من الفنانات إلى تحديد الشخصية أو الخصوصية التشكيلية على مختلف السبل والأساليب لمختلف المدارس الفنية العالمية مع حفظ الانتماء إلى الواقع والموروث المحلي بكل معطياته البصرية والفكرية الثابت منه والمتحرك.