الرحلة معا

مربط البيت العربي
هل يجوز أن نرشح الجنادرية مربطاً للفكر العربي المتجدد؟

باسترجاع سنتها الأولى، تبقى في ذاكرتي تلك الندوة الثقافية الكبرى، التي أطلقت مهرجاننا الوطني للتراث والثقافة عبر الأرض العربية (الثقافية والفكرية). كنت هناك في تلك السنة منتدباً من صحيفة الرياض كمحرر ثقافي مبتدئ.. وكان هناك جهابذة الفكر العربي، أو قل، إذا شئت، كان هناك صفوة من حملة القلم العربي وقادة الرأي من المحيط إلى الخليج. على سبيل المثال لا الحصر كان هناك يوسف إدريس، عمدة القصة العربية القصيرة، ومحمد أركون، صاحب النصوص الجدلية التي تحتاج إلى معامل لتكريرها وتيسير هضمها عند القراء البسطاء من أمثالي. وكان هناك حشد من كل أطياف الثقافة العربية والإشكال العربي، الذي لم يغب يوماً عن الساحة.

وللتاريخ، تاريخ الجنادرية وتاريخ العرب، لم يكن هناك ما يبعث على التفاؤل بحدوث متغير ثقافي عربي، فقد شعرت حينها أن كل مثقف أو أديب أو شاعر (كبير) يعيش في واديه القطري من دون أن تكون لديه بادرة لفتح قنوات تصب في أودية الأقطار العربية الأخرى. أكثر من ذلك كنت كلما سألت، كصحافي، مفكراً معروفاً عن مفكر معروف آخر وجدت أن بينهما من الخلاف والتنافر ما تنوء بحمله الجبال الراسية، وبالتالي فإن ما كان يحدث في تلك الندوة على مدار ثلاثة أيام هو خليط من الحضور الثقافي العربي المهم المشفوع بمزيد من التنافر والصراخ وتبادل الاتهامات عن كيف قصّر هذا المفكر في أداء دوره في الحياة العربية، أو كيف ضيّع ذلك المثقف عمره منتسباً لتيار فكري لا ينسجم مع التيار العام الذي يتبناه ذلك الآخر، وإلى ما هنالك من أمور لم تكن تدل على وجود رغبة واضحة في إصلاح خلل البيت العربي ورتق شقوقه التي تتسع سنة بعد سنة. ولم تكن هذه الحالة حكراً على الجنادرية. بل كانت تتجلى في كل مناسبة ثقافية عربية تحاول أن تجمع بين المثقفين العرب، فلا تحصد سوى صور تفرقهم وتناقضاتهم.

وعلى الرغم من أن تلك الندوة المبكرة التي احتضنتها الجنادرية لم تترك أثراً واضحاً في البيت العربي الكبير، ظلّ القائمون على المهرجان الوطني للتراث والثقافة، بإصرار وتفاؤل سعودي متواصل، يعقدون الندوات ويختارون لها موضوعات مهمة وملحة لعل وعسى أن يحدث ما يأملونه من أن ينهض الفكر العربي وتنهض الثقافة العربية بحياة العرب العامة، إذ لا يوجد لديهم أدنى شك في أن الفكر المستنير هو الضمانة الوحيدة لحياة متطورة في كل وجوهها. وأيضاً لقناعة عندهم أن العمل الثقافي المثمر هو في النهاية تراكم، يحتاج إلى جهود متواصلة ومتابعة وإصرار ولا يقف أمام العثرات والسلبيات.

والآن، بعد هذه السنوات الطويلة من عمر إسهاماتها في الحياة الفكرية والثقافية العربية، ألقت الجنادرية بثقلها وخبرتها لتناقش موضوعات شديدة الأهمية تحت عنوان أكثر صراحة وشفافية هو: «إصلاح البيت العربي». ذلك البيت الذي عُنيت به في كل دوراتها التسع عشرة السابقة. تحاول الجنادرية في ظل هذا المحور الدقيق أن تنقذ ما يمكن إنقاذه، مستندة كالعادة إلى دور الفكر والمفكر في ترميم الحياة العربية والرقي بالإنسان العربي ليكون إنساناً مستنيراً ومنتجاً ومشاركاً في التخطيط لمستقبل أقل غموضاً وأكثر إشراقاً.

تريد الجنادرية أن تشارك بسهم كبير في مواجهة كل ما يتهدد حياة ومستقبل الإنسان العربي، والمنطلق الذي تفضل أن تبدأ به هذا السباق الطويل نحو متغير عربي واضح هو الإصلاح الذي يبدأ بالإنسان وينتهي لفائدته وأمنه ورخائه.

تحت هذا العنوان، توظف الجنادرية، على ما أعتقد كل إمكاناتها وخبرتها لتؤسس قاعدة فكرية لإصلاح البيت العربي، والمفكر بلسانه وقلبه العربي سيتحمل، بناء على ما ستفرزه هذه القاعدة، مسؤولية التبشير بأسس هذا الإصلاح. ومن البديهي أن أي مبشر بالإصلاح لا بد أن يتمتع بشعور عام ومخلص يخرجه من شخصانيته أو قطريته إلى الفضاء العربي العام، ويضمن أنه أينما اتجه سيجد ممارسة فكرية عربية تلتقي وإياه على هم مشترك ومصير واحد. في هذه الحالة فقط يمكن أن نتفاءل ونرفع من قدر توقعاتنا عن مستقبلنا.

أضف تعليق

التعليقات