قضية العدد

جلال الدين فايس
(جوليان سابقاً)
فرنسي سكنته موسيقى الشرق..
فاستوطن حلب!

  • 34a

ترك الموسيقى الغربية حباً في الموسيقى العربية. وإكراماً لعينيها ترك بلاده واستوطن حلب. غرس جذوره عميقاً في المدينة، وبمرور الوقت صار عَلَمَاً من أعلام نسيجها الثقافي والفني. إنه الموسيقي المستعرب الفرنسي الأصل جوليان فايس، الذي اختار اسم جلال الدين بعد أن استوطن حلب الشهباء.
الزميل محمد أبو رمضان يرسم لنا صورة هذه الشخصية المميزة.

ألِفَ سكان حلب القديمة، وخاصة المنطقة المجاورة لباب قنسرين، رؤية ذلك الرجل الخمسيني ذي الملامح الأوروبية يتجول فـي أحيائهم بملابس عربية. عرفوه منذ منتصف الثمانينيات ضيفاً أجنبياً، أما اليوم فصار واحداً منهم. بارع فـي العزف على القانون وعاشق للموسيقى الشرقية وفن الطرب الأصيل الذي غيَّر حياة الرجل وذهب بها فـي اتجاه يبعد كثيراً عن بداياتها الأوروبية الصرفة!

ولد جوليان فايس فـي باريس سنة 1953م من أب فرنسي وأم سويسرية من أصل ألماني. هوى الموسيقى منذ شبابه وتعلم عزف الغيتار الذي كان آلته الموسيقية المفضلة، إلى أن حصل ما شكل المنعطف الأول الكبير فـي حياته.

يروي فايس حكاية هذا المنعطف بنفسه فيقول: فـي أحد أيام العام 1976م حضرت حفلاً فـي باريس فـي منزل السيد فاروق حسني الذي كان آنذاك مديراً للمعهد الثقافـي المصري، وتركت تلك الحفلة أثراً بالغاً فـي نفسي، فبدأت دراستي للموسيقى الشرقية بشكل حقيقي سنة 1977م، وكنت أعيش وقتها فـي مصر. وازداد تعلقي بها بتعمق تجربتي وتوسع اطلاعي عليها فـي البلدان التي زرتها لهذه الغاية مثل تونس والعراق وتركيا، إضافة إلى ما تعلمته فـي مصر طبعاً، وتعرفـي على العديد من الفنانين وأهمهم عازف القانون العالمي سالم حسين.

ما الذي أتى به إلى حلب؟ هنا يتحدث فايس عن المنعطف الكبير الثاني فـي حياته الذي قاد زورقها إلى الرسو فـي هذه المدينة الجميلة بشمال سوريا، يقول: فـي سنة 1985م كنت أعيش فـي باريس، وكنت متزوجاً من هند أبو إبراهيمي الفيلالي وهي مغربية، ولي منها ابنة وحيدة تدعى كنزي. وخطر لي آنذاك أن آتي إلى حلب لشراء قانون حلبي. كانت هذه هي الغاية من الزيارة فقط. وخلالها أحببت أن أحضر إحدى الأمسيات الموسيقية فـي المدينة فدعيت إلى عدد منها. وكانت الأولى فـي بيت يحيى زين العابدين الذي كان يجمع فـي منزله الواقع فـي حي باب الحديد فـي حلب مساء كل سبت عدداً من المطربين والعازفين والأصدقاء لقضاء أمسية جميلة على أنغام الموسيقى والطرب الأصيل. ومنذ ذلك الحين فكرت جدياً بالاستيطان نهائياً فـي حلب، بعد أن فكرت لبعض الوقت بالعيش فـي بغداد.

ولا يعرف السبب إلا من يعرف عن كثب مدينة حلب، فهذه المدينة هي بحق مدينة الذوق المرهف على كل الصعد. وتشكل الموسيقى المعلم الأبرز ليس من حياتها الثقافية بالمفهوم التقليدي للكلمة، بل من واقع الحياة اليومية للآلاف من أبنائها.

فأينما تجول المرء فـي هذه المدينة وخاصة فـي أحيائها القديمة يجد لافتات صغيرة على الشرفات ومداخل الأبنية تقول: نعلّم عزف العود، نعلّم الغناء وعزف القانون، نعلم القانون والكمان ..
وفـي أحد أحياء حلب القديمة الزاخرة بدور السكن القديمة والمساجد الأثرية والخانات والحمامات والأسواق التي يبلغ مجمل طولها نحو 14 كيلو متراً، وتحديداً بالقرب من الأسوار الجنوبية، اشترى جلال الدين فايس بيتاً أثرياً يعود إلى القرن الرابع عشر وانتقل إلى العيش فيه.

يشعر الذي يزور هذا المنزل الأثري الهادئ الجميل وكأنه فـي متحف مليء بالقطع الأثرية النفيسة والسجاد والمنسوجات وشهادات التقدير والثناء التي حصل عليها فايس فـي مجال الموسيقى.

وفـي هذا البيت يستقبل فايس كبار العازفين والمطربين الحلبيين والعرب فـي أمسيات موسيقية عمودها الفقري مجموعة من المطربين الحلبيين ألفوا فرقة للطرب والغناء وسموها صالون الموسيقى الشرقية . وتقام هذه الأمسيات يوم الخميس مرة كل شهر على الأقل، فيجلس الموسيقيون على الإيوان وهو مصطبة تعلو الساحة الوسطى للمنزل، فـي حين يتحلق الضيوف والحضور الذين يسمونهم فـي حلب السميعة حول نافورة الماء التي تتوسط الساحة وتشتهر بها البيوت العربية التقليدية. وفـي هذا الجو الذي ينضح بهجة، يسمع الزائر المطربين يتبادلون الأدوار فـي الغناء، ونذكر من هؤلاء عازف الناي المعروف محمد قدري دلال، والمطرب صبري المدلل الذي يجسد بالفعل الذاكرة الحقيقية للغناء الشرقي الأصيل، يرافقه المطرب الشعبي المعروف عمر سرميني وغيرهم العشرات من أصحاب الباع الطويل فـي فن الموشح والقد الحلبي بشكل خاص.

زوّاره اليوم كثر، يقصدونه للتحدث معه عن حياته وتجربته، فيحدثهم حديث الواثق بنفسه: أعتقد أنني حققت نجاحاً على صعيد إغناء تجربتي الموسيقية وإنتاجي أيضاً. فقد تطورت معلوماتي كثيراً بفضل مرافقتي للعديد من المحترفين الأقوياء المجتهدين فـي الحفاظ على التراث الأصيل من أمثال محمد قدري دلال وزياد قاضي أمين وهو أفضل عازف ناي فـي سورية، وعازف الجوزة فـي بغداد محمد كومار، ومطرب المقامات حسني إسماعيل الأعظمي، وغيرهم من الكبار مثل صبري المدلل وأديب الدايخ وعمر سرميني من حلب وحمزة شكور من دمشق وأحمد حبوش ولطفي بوشناق من تونس.

تعاونت على الدوام مع هؤلاء العمالقة، وبلغ عدد أسطواناتي حوالي ثماني عشرة أسطوانة عالمية تتضمن عزفاً منفرداً على القانون، وموسيقى عربية وموشحات مع فرقة إنشاد.

ويلخص فايس أثر الموسيقى الشرقية فـي حياته فيقول: لقد قلبت حياتي رأساً على عقب. أعطيتها نصف عمري فهندست روحي وكياني ومشاعري. والفضل فـي ذلك يعود إلى وجودي فـي حلب، درة المدن العربية، فمن الصعب أن أحقق ما حققته فـي أي مكان آخر.

أضف تعليق

التعليقات