قول في مقال

حال الرواية

  • 24a

في ظل التحولات الكبيرة التي يشهدها العالَمْ على الصعد الثقافية والفنية، وحتى على نمط الحياة ككل، بات من الممكن أن نتساءل.. هل تراجع دور الرواية في التعبير عن الواقع الإنساني؟ وما هي طبيعة التنافس بينها وبين الأشكال الأدبية الأخرى؟ وما هي التحديات التي تواجهها في ظل ثورة المعلومات والاتصالات وسيطرة الصورة المرئية.. شيخ الرواية العربية الحائز على جائزة نوبل الأديب نجيب محفوظ يخص القافلة برأيه في هذا الموضوع.

منذ أن ظهرت الرواية بشكلها البسيط – في صورة حكايات – إلى أن وصلت إلى شكلها الذي نعرفه الآن وهي تقوم بدورها في كل العصور في التعبير عن الواقع في المجتمع الذي تولد فيه خاصة البعد الاجتماعي والإنساني لهذا الواقع، وهذا هو سبب بقائها وقربها من الناس.. وذلك لأن الناس في كل عصر يحبون الحكايات، وعندما تكون الرواية ذات مستوى أدبي وتقني رفيع، فإنها تنجح في التأثير في الناس وتدفعهم للتفاعل معها.. وأهم أسباب حب الناس وتفاعلهم مع الرواية أنها تشبع العديد من الحاجات الإنسانية لديهم فالناس دائماً بحاجة إلى واقع جديد – أياً كان – بشرط أن تكون خيوطه هي نفس الخيوط التي نُسجت منها حكاياتهم هم والتي يعيشونها في الواقع.. لذلك عندما يقرأ الإنسان رواية ما فإنه في أحيان كثيرة يجد نفسه بطلاً للحكاية التي تسردها الرواية، أو أنه يتمنى أن يصبح هذا البطل أو يجد نفسه في أحد شخصياتها.. ومن الممكن أن يجد في أشخاص الرواية صورة لأشخاص يعرفهم أو عرفهم في حياته.. إذن قد يجد الإنسان في الرواية قصة وأحداثاً عاشها أو تمنى أن يعيشها أو – على الأقل – كان شاهداً عليها.. وفي أحيان أخرى تكون الرواية مهرباً من الفشل الذي يلاقيه الإنسان في حياته الواقعية، حيث يرى فيها واقعاً آخر تمنى أن يعيشه أو آمالاً تمنى أن يحققها، فمثلاً إذا كان يعاني من فشل في الحب فإن قراءة قصة حب ناجحة يسعده فتراه يتأثر ويتفاعل مع الحب الذي يقرأ عنه فإذا جاء مشهد فيه جفاء بين الحبيبين فهو يشعر بأنه هو الذي يعيش هذا الموقف ويتمنى أن ينتهي مشهد الجفاء بين الحبيبين.. كذلك قراءة موقف يعبر عن معاناة إنسانية يجد فيه – القارئ – عزاءً إنسانياً له عن ما يعيشه من معاناة ربما تكون متشابهة مع ما تحكيه الرواية.

وليس صحيحاً أن الإيقاع السريع للحياة جعل الناس تبتعد عن القراءة بشكل عام، والرواية بشكل خاص.. صحيح أن المادة طغت على كل شيء في العصر الذي نعيشه، لكن كلما طغت هذه المادية شعر الإنسان بأنه أكثر حاجة إلى إنسانيته، فمثلاً يمكنك أن تجلس على الإنترنت لتعقد صفقات في دقائق قليلة، أو تعرف معلومات تتحول إلى أموال ورغم ذلك ستجد نفسك تقضي أضعاف هذا الوقت في مطالعة رواية لن تعود عليك بأي مكاسب مادية؛ وذلك لأنك بحاجة إلى إنسانيتك بحاجة إلى إشباع حاجات إنسانية لن تشبعها المكاسب المادية.. ولا تهم الوسيلة التي تطالع بها الرواية سواء كانت كتاباً أو على الإنترنت، المهم أنك ستسعى إليها، لأنها تمثل لك شيئاً مهماً يعيدك إلى إنسانيتك التي تبحث عنها والتي فقدتها وسط طغيان المادة.

والقول بأن الرواية لم تعد تقوم بدورها يحتاج إلى الكثير من المراجعة؛ لأن الأزمة التي تمر بها الرواية ليست أزمة أدبية لكنها جزء من أزمة عامة تتمثل في حالة الانحدار العام في كل شيء في الأدب والفنون والسياسة والرياضة وكافة مجالات الحياة فعندما يكون المناخ العام سيء لا بد أن يتأثر كل شيء بهذا المناخ.. ولا يمكن للأدباء أن يفعلوا أكثر مما يفعلون فهم يعبرون عن هذا الواقع المتردي في إنتاجهم الأدبي، أما أن يُقبِل الناس على هذا الإنتاج أو لا فطالما أن الإنتاج جيد ويعبّر عن الواقع فإنها ليست أزمة الأدب أو الأديب فقط لكنها أزمة المجتمع كله.

في وقت من الأوقات كان الشعر سيد الأشكال الأدبية جميعاً.. لكن في السنوات الأخيرة استطاعت الرواية أن تسحب البساط من تحت أقدام الشعر لأنها تقدم للناس احتياجاتهم الإنسانية أكثر من الشعر لذلك تفاعلوا معها.. فالشعر يكتفي بالضغط على أوجاع الناس فيصرخون ألماً.. أما الرواية فإنها تتعامل مع الجرح بيد جرَّاح ماهر فتغوص بداخله وتلقي الضوء على أبعاده المختلفة وتناقش تفاصيله المتعددة وهو ما يخلق حالة التقاء إنساني بين القارئ والرواية تؤدي إلى حالة التوحد التي تدفعنا إلى عدم القدرة على إغلاق رواية ما إلا بعد أن ننتهي من قراءتها حتى النهاية.

ولست أخشى على الرواية من التراجع لأنه مهما تغيرت أحوال الدنيا ستظل الرواية أكثر الأشكال الأدبية تعبيراً عن الواقع، وأكثر ما يمكن أن يشبع الحاجات الإنسانية لدى الإنسان، لذلك مهما طغت القيم المادية على الحياة وحولتها إلى مجرد أرقام فإن الإنسان سرعان ما سيدرك ما الذي يحتاجه وستدفعه فطرته الإنسانية إلى إدراك أنه يحتاج إلى إنسانيته، وأن هذه المادة التي سيطرت عليه ما هي إلا مجرد وسيلة لا يجب أن تسيطر عليه، لذا ستجده يبحث عن ما يشبع حاجاته الإنسانية، وهنا سنجد الرواية والتي يجب أن تستمر – رغم كل المتغيرات – في القيام بدورها في التعبير عن واقع الإنسان والتأريخ الاجتماعي للتحولات الخطيرة التي تطرأ عليه لأن هذا الاستمرار هو الضمان لبقائها، فإذا توقفت عن التعبير عن هذا الواقع أو تجاهلته تكون قد انتهت.

التطورات التكنولوجية المتلاحقة وثورة المعلومات، والتي جعلت العالم أشبه بقرية صغيرة تخلق تحدياً جديداً أمام الرواية، حيث سيكون في استطاعة القارئ بسهولة شديدة الاطلاع على الإنتاج الأدبي لأدباء من كل مكان في العالم مما سيعد منافسة شرسة بين الأدب المحلي والأدب العالمي.. وفي تقديري إنه على الأدباء أن يعبروا عن القضايا المحلية أكثر؛ لأن الإغراق في المحلية الشديدة – على ما يتصور البعض – هو الضامن للاحتفاظ بالقارئ فإذا كانت الرواية العالمية أكثر تقدماً وتتمتع بتقنيات وأدوات فنية أكثر تأثيراً فإن محلية الرواية الداخلية ستضمن بقاءها في المنافسة، لأنها مرتبطة بواقع القارئ مما يجعلها أكثر قرباً منه وأكثر تعبيراً عن حاجاته الإنسانية.

ورغم كل ذلك لا نستطيع أن ننكر أننا في عصر العلم الذي أصبح الوحيد لتقدم الأمم على عكس عصور مضت كانت الآداب والفنون هي مقياس تقدم الأمم وتحضرها.. لكن ذلك لا يلغي دور الأدب والفنون ربما يقلل من دوره – مؤقتاً – نوعاً ما لكنه لا يلغيه لأنه – كما قلت – جزء من نسيج الإنسان ومعبر حقيقي عن واقعه الإنساني والاجتماعي.

أضف تعليق

التعليقات