الثقافة والأدب

زهرة الجاهلية
حمّيش المغربي يؤرِّخ للجاهلية بفانتازيا ساحرة

موضوعها مشرقي مستوحى من تاريخ في العصر الجاهلي، ومؤلفها مغربي، والترحيب بها عربي عام. إنها زهرة الجاهلية للروائي سالم حمّيش، الصادرة عن دار الآداب في بيروت.
الناقد إلياس سحّاب يقدم هنا قراءته لهذا العمل المتميِّز على ضوء محتواه وأيضاً لما يمثله على صعيد التواصل بين المغرب العربي ومشرقه، وإسقاطات محتواها على حياتنا المعاصرة.
هذا روائي من المغرب اخترق الحواجز التقليدية بين المغرب والمشرق، التي تحولت عند الأدباء والمثقفين المغاربة أشبه بعقدة تقليدية يتم تردادها بمناسبة وبغير مناسبة، ومفادها أن المغاربة يبالغون في تعشق الثقافة الواردة من بلدان المشرق، والاطلاع عليها بعمومياتها وخصوصياتها، ومتابعة مؤلفات كل نجومها في الرواية والشعر والقصة وسوى ذلك، بينما يبالغ المشارقة، بالمقابل، في عدم الاهتمام بثقافة المغرب ومثقفيه، إلى درجة الجهل أو التجاهل.

سالم حمّيش، روائي مغربي من جيل التسعينيات، أصدر ثمانية من كتبه التسعة في دور نشر مشرقية هي: دار الآداب ودار الطليعة اللبنانيتان، ودار رياض الريس السورية – اللبنانية، قبل أن ينتقل مركزها من لندن إلى بيروت.

أكثر من ذلك، كانت دار رياض الريس المنصة الأولى التي أطلقت الأديب المغربي في سماء الشهرة، عندما نال جائزة مجلة الناقد (التي كانت تصدر في لندن عن دار رياض نجيب الريس) للرواية، قبل أن تتولى الدار نفسها طباعة روايته مجنون الحكم ، في العام 1990م.

أما دار الآداب البيروتية فلم تكتف بطباعة أربع روايات للروائي المغربي، بل إن إحدى هذه الروايات الثلاث المنشورة في العام 1997م (العلاّمة)، نال عنها حمّيش جائزة نجيب محفوظ للرواية العربية.

غير أن رواية حميّش الأخيرة التي صدرت العام الماضي، زهرة الجاهلية ، تكتسب موقعاً خاصاً في تلك العلاقة الملتبسة حتى الآن بين أدب المشرق وأدب المغرب، ومستعيدة ومستكملة تقليداً راسخاً في الثقافة العربية الكلاسيكية، عندما كان كبار مثقفي المغرب العربي والأندلس، في القرون الغابرة للنهضة الحضارية العربية الكبرى، يضعون مؤلفات أدبية وتاريخية، موضوعها مشرقي خالص (أشهرها العقد الفريد لابن عبد ربه الأندلسي)، تعبيراً عن حنين عرب المغرب الطبيعي إلى المواقع الأساسية التي انطلقت منها الحضارة العربية والدعوة الإسلامية في المشرق.

في رواية زهرة الجاهلية يغوص الروائي المغربي سالم حمّيش عميقاً في جغرافية المشرق العربي وتاريخه، وكأنه يرد التحية للروائي اللبناني أمين معلوف في روايته ليون الإفريقي .

تنتمي رواية حمّيش المغربي الأخيرة إلى ذلك النوع من الفانتازيا الأدبية التاريخية، التي تميز بها اللبناني أمين معلوف. وهي فنتازيا تنطلق أساساً من وقائع تاريخية ثابتة، ولكنها تنطلق بعد ذلك في الأفق الرحب للفانتازيا الأدبية فتخلط بين الوقائع الثابتة ووقائع أخرى متخيلة، كما تخلط بين شخصيات واقعية لها تاريخ معروف وثابت، وشخصيات أخرى متخيلة، وذلك في لون أدبي ممتع غرضه الغوص في الوقائع التاريخية لمنطقة جغرافية ما، وحقبة تاريخية ما، وصولاً إلى أعماق روح تلك المنطقة المعنية، في تلك الحقبة المعنية.

ومع أن رواية الأديب المغربي لا تتجاوز الصفحات التسعين، من القطع الصغير، فقد انطلق مؤلفها بين ثنايا وقائعها المعروفة تاريخياً، وخياله الروائي المجنح، للغوص في أعماق حياة الجزيرة العربية وثقافتها في العصر الجاهلي الذي سبق ظهور الإسلام، منذ مطلع القرن السادس الميلادي. كما أن المؤلف لم يلجم خياله الفني عندما كان يجد في حياة العرب العامة في القرن الأخير للجاهلية من الظواهر السلبية ما يذكّر بظواهر سلبية مشابهة في حياة العرب المعاصرين. غير أن تلك المقارنات جاءت في نسيج الرواية أشبه بالقطبة الخفية فلا يعمد المؤلف في أي موقع من مواقع هذه المقارنات إلى أية إشارة مباشرة، ولكنه يعتمد أسلوب التلميح البعيد كل البعد عن التصريح (سنورد بعد هذا المقال نماذج مطولة لبعض هذه النصوص).

اعتمد سالم حمّيش لدعم فكرته الفنية على شخصية نسائية جاهلية اسمها زهرة البكرية، من قبيلة بكر بن وائل، التي هي قبيلة شاعري الجاهلية طرفة بن العبد وخاله المتلمس، ويبدو أن روايات الرواة أطلقت عليها اسم زهرة الجاهلية (عنوان الرواية) فشاع اسمها هذا واستقر. ويقول المؤلف إن سبب تواتر أخبارها في أسمار العرب راجع إلى كونها امرأة عمّرت طويلاً، وجربت كثيراً، وأنطقها الدهر بالكلام العميق العريق، بعضه كما ادّعت بالحرف: من وحي الوجد وغلبته عليّ .

تيتمت زهرة وهي دون العاشرة، إذ مات أبوها بسهم طائش أثناء حرب البسوس بين قبيلتي بكر وتغلب، ولحقت به أمها، بعد اشتداد غم الحداد عليها. كان لها من الحسن نصيب وافر، متوسطة القد والوزن، كثيفة الشعر، في عينيها الواسعتين سحر، وفي صوتها رقة ونغم .

بعد مأساتها الأولى بوفاة والدها ووالدتها وهي طفلة، تعرضت لمأساة ثانية عندما توفي خالها الذي تولى رعايتها، وهي الوفاة المدونة في روايتين مختلفتين، تقول الأولى إنه بعدما نفقت الناقة التي كانت تقلهما، انتابت الخال حمى فادحة ماحِقة، فطلب من زهرة أن تنجو بنفسها وألقى بنفسه في مياه البحر الأحمر. أما الرواية الثانية، فتقول إن زهرة اضطرت إلى معاركة الرجل وقتله بحجر.. ثم احتمت بقافلة من الحجاج نقلتها إلى مكة، ثم بقافلة تجار حملتها إلى ظاهر يثرب، حيث قضت أياماً مختبئة وراء أطلال بيت أبويها الدارس من كثرة إلحاح الريح والمطر عليه، فلما فقدت صبرها وأنهكها الجوع، خرجت إلى قبيلتها بشعر مشعث وجسم ضامر، فأخذها شيخ عجوز جارية في منزله (…) وبعد أيام عاودتها العافية (…) واسترجعت اهتمامها بذاتها وحرصها على النظافة والتزين الخفيف .

بعد هذه البداية المأساوية، يدخل المؤلف بهذه الشخصية في أعماق عادات وتقاليد وأحداث ومعتقدات العصر الجاهلي، بأسلوب فني أخاذ يراعي روح ذلك العصر، حتى في صياغة أسلوبه اللغوي، باقتدار وجمال.

إلى جانب الشخصية الرئيسة في الرواية (زهرة)، يبتكر المؤلف شخصية شيخ هائم ضال، يبحث عن ربه آناء الليل وأطراف النهار اسمه أبو القرني، ويلقبونه تفضلاً أو تجاوزاً بـ الغوث . هذه الشخصية تظهر لزهرة في بعض لحظات الضيق، لتغيثها ثم تختفي. بعد ذلك، تقترن زهرة بأعرابي خدعها حسن صورته، ولكنها تكتشف فيه لاحقاً الشراسة وجلافة الطبع.. تزوجته وأنجبت منه فتاة فائقة البشاشة والصحة. لكن زواجها التعس ينتهي بقيام الزوج بوأد ابنته، على عادة أهل الجاهلية.

مع شعراء الجاهلية
ينطلق المؤلف بعد ذلك إلى أعماق العصر الجاهلي. من خلال ابتكاره شبكة من علاقات متخيلة بين بطلة روايته زهرة وخمسة من أشهر شعراء الجاهلية، وفقاً لتسلسل ظهورهم على مسرح الحياة أو خروجهم منه. يبدأ بالمهلهل (531م) ثم أمرئ القيس (540م) ثم طرفة بن العبد (564م) ثم المتلمس (569م) ثم عنترة بن شداد (525 – 615م)، مع ذكر عابر لشاعر جاهلي آخر من الصعاليك هو الشنفرى من أوائل القرن السادس.

– 
من خلال علاقة زهرة بالمهلهل تعرض الرواية لجلسات أدبية كان يخصصها المهلهل للنساء، في خيمة له بواحة في غرب مكة، مفروشة بالحصائر والقطائف، يجلس فيها متجملاً متعطراً مع أنه كان قد بلغ من العمر عتياً، حيث روي أن للمهلهل في الزينة مذهباً، وفي معاشرة النساء قصصاً، حتى لقب بالمتزين، ولقب بالزير أيضاً، متبوعاً باسمه الصغير سالم .

ثم يروي المؤلف كيف كانت القبيلة تغفر للمهلهل غزواته تلك لقاء أن ينطلق لسانه ويذلق في تعليم العيال والبنات بطولات تغلب في حرب البسوس، وانتصاراتها المظفرة على بكر بن وائل . ويتخذ المؤلف من ديوان المهلهل مسرحاً يروي من خلاله أخبار ابن اخته (امرئ القيس) وأشهر حكايات المجتمع الجاهلي وعاداته وقيمه في زمن تداخل اليهودية بالمسيحية بالوثنية. وتنتهي علاقة زهرة بالمهلهل بعد أن يكمل المؤلف الاستغلال الفني لتلك العلاقة في سرد وقائع شاملة من مختلف جوانب حياة المجتع الجاهلي، بنفور زهرة الجاهلية من جرأة المهلهل الطاعن في السن، في مغازلتها.

– 
يبدأ المؤلف سرد العلاقة بين زهرة وامرئ القيس باحتمالين: تسللها إلى خبائه، أو تسلله إلى خبائها، في إشارة مقصودة لطبائع ذلك العصر. أما هدف العلاقة فيحدده المؤلف برغبة زهرة في أن تشكو لامرئ القيس خاله المهلهل. ثم ينطلق ليعرض من خلال تلك العلاقة الجديدة تفاصيل ما كان يميز الذكر عن الأنثى في المجتمع الجاهلي، إضافة إلى تفاصيل العلاقات الزوجية. ثم تعرّج الرواية بالطبع على رحلة امرئ القيس التي قصد فيها قيصر الروم طلباً للثأر لأبيه الملك واسترداد ملكه في عرش كندة، ثم موته بوباء الجدري في أنقرة حيث دفن، ويغتنم المؤلف هذه القصة التاريخية الحقيقية لإدانة فكرة دعم السلطة السياسية من الخارج.

– 
علاقة زهرة بطرفة بن العبد، يطرحها المؤلف ليعرض الحياة البوهيمية التي عاشها ذلك الشاعر الذي وصل إلى ذروة نبوغه الشعري (أحد شعراء المعلقات) برغم عمره القصير (538 – 564م)، ويعرض لنقاش فكري غني بين زهرة وطرفة بن العبد في شؤون ذلك العصر وشجونه. ولعل أعمق مقاطع ذلك الفصل من الرواية، تعريض طرفة بن العبد بهشاشة وسطحية المنافسة السياسية والمنافسة الثقافية في عصره (يستخدمه المؤلف في إسقاط واضح على عصرنا الراهن) فيروي عراكاً بين شويعرين، تبارزا لأن كلاً منهما لم يعترف للآخر بأنه وحيد زمانه في الشعر، ثم ينتقل من مجال الشعر، ليعمم نظرته إلى زمانه (وزماننا) بكل قيمه الثقافية والسياسية، فيقول المؤلف على لسان طرفة:

عبثية أيامنا، يا زهرة الأزهار، وحروبنا الدامية الدامسة، كعراك الشويعرين، طرر وترّهات في بقاع لا نسغ لها ولا مجد.. إنا هنا بين السهول والهضاب، نسكن أو نترحّل متعيشين، ونحشو دنيانا بالآلهة والغيلان والمردة، وبأوهام أخرى، عسانا نلهو عن غربتنا في الكون، أو ترتفع عقيرتنا بالتضرع والشكوى أمام طاغوت الفراغ المؤبد .

– 
بعد ذلك، تنتقل علاقة زهرة من طرفة بن العبد، إلى خاله المتلمس، في مواصلة فنية رفيعة، لعرض طبيعة الصحراء العربية وطبيعة حياة مجتمعاتها في العصر الجاهلي.

– 
أما عنترة بن شداد، فلا تتعرف إليه زهرة إلا في شيخوخته (عمّر تسعين عاماً كما تقول المراجع)، فتكون العبارة الأولى على لسان زهرة عندما تقابل عنترة أول مرة: ألست أنت عنترة بن شداد العبسي، أو ما تبقى من عنترة ؟ . ويتركز حوار الاثنين بعد ذلك في شرح عنترة لما أرادت زهرة أن تعرفه عن غرامه بعبلة، وعن دور التفريق الجلدي (التعبير الفني عن التمييز العنصري ) في استحالة ذلك الغرام، ويتخذ المؤلف مدخلاً فنياً رائعاً لذلك الحوار، يستند إلى أشهر أبيات عنترة في التغزل بعبلة والتعبير عن عشقه ووجده:

ولقد ذكرتك والرماح نواهـــل
مني، وبيض الهند تقطر من دمـي
فـوددت تقـبيل السيوف لأنــهـا
لـمعـت، كـبارق ثـغـرك المتبسم

ويتحول موضوع التمييز العنصري في كل العصور إلى موضوع أساسي للحوار بين زهرة وعنترة. بعد هذه الجولة الشاملة العميقة الأغوار التي يقودنا سالم حمّيش فيها عبر علاقات زهرة الجاهلية لخمسة من كبار شعراء الجاهلية (ثلاثة منهم من شعراء المعلقات)، يختم جولته بلوحة فنية رائعة امتدت على أربع صفحات ونصف، في خاتمة روايته، تختلط فيها الصور الفنية الرائعة، بخلاصة فكرية يحاكم المؤلف من خلالها الجاهلية العربية في عصرها القديم، كما في كل عصر.

الدكتور بنسالم حِمِّيش
الدكتور بنسالم حِمِّيش
– اشتهر باسم سالم حمّيش.
– من مواليد مكناس بالمغرب في أغسطس 1949م.
– 
تلقى دراسته العليا في الفلسلفة وعلم الاجتماع في الرباط أولاً ثم في باريس حيث حصل على شهادة الدكتوراة في الفلسفة من جامعة السوربون سنة 1987م.
– كاتب ومؤلف بالعربية والفرنسية كما يجيد الإنجليزية والإسبانية واليونانية.
– 
له أعمال عديدة في البحث التاريخي والفكري والفلسفي، وأخرى في الإبداع الشعري والروائي.
– 
نال جائزة مجلة الناقد عام 1990م على روايته مجنون الحكم التي اختارها اتحاد كتاب مصر ضمن أحسن روايات القرن العشرين. وترجمت إلى الإسبانية والفرنسية والإنجليزية. كما حصل على جوائز عربية عديدة منها جائزة نجيب محفوظ عام 2002م، وجائزة الأونيسكو سنة 2003م.
– عضو في مكتب اتحاد كتّاب المغرب.
– يعمل حالياً أستاذاً للفلسفة في جامعة محمد الخامس.

من زهرة الجاهلية
صفحة 54 – 55:

قالت زهرة: شكراً لك يا قيس وبورك فيك! وقوفك إلى جنبي ينعشني حسّاً ومعنى، واستقبالك لوعكات وجودي يبدِّد أوجاعي ويحيي آمالي. فيا لك من شاعر يعرف كيف يقلِّد رؤوس الثكالى بأكاليل الفرج والرجاء!
أما عن أتعس اللحظات مع الأجلف، وهي كثيرة، لن أثقل عليك بذكرها مفصلة. فتقبل منِّي ما في أحداثها روّعني وهدَّ رأسي وكياني… في اليوم الذي تيسَّر لي خلاله الوضع بعد حملٍ أليمٍ مرير، خرجت منِّي صبية تشبهني إلى حدّ كبير، فاعترتني فرحة جامحة بقدر ما امتلأ زوجي تطيُّراً مما وضعت ونفوراً ما بعده نفور. ولم يمض شهر حتى أقدم الوغد على وأد مولودتي بعد أن كمّمني وكبّلني، وواراها التراب في مكان خفيّ ما زلت أجهله وأنشده. فتصوَّر يا قيس كلاكل غمتي وحافة اندحاري وقد بتُّ أجرجر الحياة فيّ، وطيفُ طفلتي الموؤدة يلازمني ويدميني في يقظتي ومنامي، وتصوّر أن لا أحد من العرب حرّك ساكناً، أو أتى يواسيني ويعزِّيني. فكيف لي أن أحيط العرب بمحبَّتي وأحطّهم محطّ افتخاري…

صفحة 58:

ومرَّت الأيّام والليالي، والمرأة في جحيمها الجاهليّ لا تعيش إلاّ على أمل رجوع الملك الضلّيل إلى عرشه وإليها. وكان وقتذاك أن بعث إليها القرني رسولاً أسكنها في غارٍ منيع، قريبٍ من أطلال بيت طفولتها. وهنا انطوت على نفسها وتقوقعت، مكتفيةً بالقوت الزهيد الذي أمست تجود به عليها يدٌ خفية، لا ريب أنَّها يدُ الولي المعمّم. وبينما هي على حالها لا تطلب من الحياة إلاّ الغيبوبة والهدأة بعد أن دوَّخها سراب الانتظار، إذ أتاها خبر موت زوجها متأثِّراً بشظية تلقاها في رجله بعد أن رفست جمجمة الشنفرى، فلم تقو المرأة إلاّ على الهمس بكلمات مفادها أنَّ هذه الميتة على هذا النحو لهي حقّاً من تدبير السماء، وأنَّ مقاطعة الحزن والحداد بهذه المناسبة واجب عليها… ودخل على المرأة رهط من الشعراء يسألونها عمّا هي فاعلة الآن وقد ترمّلت واحتدَّ الطلاق بينها وبين عرب هذا الزمان، فقالت: إنّي حقّاً في خصام مرير مع عصري، لكنّي عامرة بالأمل في أن تبرز في هذا الليل العربيّ البهيم وجوه مشرقة تجذب الناس إليها، وتنفخ فيهم روحاً نورانية تنشئهم نشأً آخر . وذهب الشعراء بالجواب مكتوباً على سعف النخل، كأنَّهم يريدون نشره بين القبائل أو تضمينه أبيات القصائد.

صفحة 72 – 73:

مضى شهر فآخر، وفي غرة الثالث أقدم على المرأة في غارها رجل يُدعى المتلمِّس، فسلَّم ونعى إليها طرفة، واصفاً كيف قُتل غيلةً على الطريقة المحفوظة في ديوان العرب.
قال: أنا المتلمِّس، خال طرفة ورفيقه في الطريق إلى البحرين. قصدنا معاً هذا البلد وكلانا متأبِّط كتاباً من ملك الحيرة، عمرو بن هند اللخمي، إلى عامله هناك، يأمره فيه بإحسان مثوانا وإغداق الهبات والمال علينا. لكن ما إن أوشكنا على إكمال السفرة حتى اعتراني ريب شديد في مضمون كتابي ففتحته، فإذا فيه أمر بقتلي، فولّيت راجعاً بعد أن يئست من حثّ طرفة على فضّ كتابه والاطلاَّع عليه. وقد علمت بما أُخبرك الآن به: إنَّ طرفة قد قتل على يد عامل جديد استعمله عمرو بن هند بعد أن رفض السابق تنفيذ ما في الكتاب لقرابة تجمعه بالمُوصَى به…
لم تنبس زهرة بكلمة، بل انزوت في عقر غارها، وطلبت من المتلمِّس أن يتركها ولا يخبر عنها أحداً. ولما انفردت أخذها نعاس ناعم سرعان ما انتظم في حلقات رؤى ثأرية شديدة متلاحقة:
فقد رأت أنها تحوّلت إلى حورية تمارس في حق عتاة العصر الإغراء والجذب، ثم تقتل كل ساقط في شباكها بخنجر شديد الطعن…
ورأت الصحراء تزحف رمالُ كثبانها وسهولها على كلّ أخضر وكل حيّ… ورأت السماء تمطر أوحالاً كحلاء، وسيولاً من القطران والكبريت والدم… واعتورت حلقاتِ نوم المرأة رؤى أخرى أفدح وأعتى…

إقرأ للأدب
مذكرات ماركيز
…والحياة عند كاتب الرواية الكولومبي الأشهر في أمريكا اللاتينية، غابريل غارثيا ماركيز ليست ما عاشها الواحد منا ، كما يقول في أكثر كتبه إثارة لشوق القراء بل ما يتذكرها وكيف يتذكرها ليحكيها .

في سيرة حياته يكشف ماركيز أصداء وظلال شخصيات وحكايات تسكن أعمالاً روائية له مثل مائة عام من العزلة ، والحب في زمن الكوليرا ، و الكولونيل لا يجد من يكاتبه ، و وقائع موت معلن ، الأمر الذي يجعل من رواية أن تعيش لتحكي رفيقاً لا غنى عنه لمشاهد لا تُنسى من رواياته الخالدة.

لم يكن أحد يتوقع أن يقوم الكاتب الحائز على جائزة نوبل للآداب عام 1982م بكتابة مذكراته الشخصية وإصدارها، لأنه لم يكن معروفاً عنه أنه يميل إلى ذلك النوع من الكتابة، إذ كان يعتبر دائماً أن رواياته هي إعادة كتابة لحياته التي عاشها، وخصوصاً ذكرياته خلال الطفولة التي قضاها في بيت جده الكولونيل الذي قضى عمره في انتظار رسالة حكومية تشكره على شجاعته، وتكافئه على حسن بلائه من أجل الوطن براتبٍ مالي يقيه شر الحاجة. لكن عندما وقف الكاتب أمام جمهور مهرجانٍ كبيرٍ في المكسيك قبل سنوات ثلاث؛ ليقرأ صفحات كتبها عن حياته الخاصة أذهل الحضور، فأوضح أن ما رواه ليس سوى كتابات قرر أن يسجِّل فيها أشياءً خاصة بحياته، حسب ترتيبها التاريخي. ويقص في هذا الجزء الأول بعضاً من حياته منذ قرر امتهان الكتابة ليتوقف في العام 1955م أي عندما كان في الثالثة والعشرين من عمره.

الجزء الأول من مذكراته بقي سراً طوال 13 عاماً. غير أن ماركيز خرج عن صمته بعد قراءة ذلك الفصل في المكسيك؛ ليصرح أنه يكتب مذكراته. وكان خلال فترة الصمت كتب روايتين الجنرال في مصيدته و الحب وشياطين أخرى ، ومارس الكتابة الصحافية وتابع أحوال الصحافيين، وما كانوا يتعرضون له على أيدي تجار المخدرات والجماعات المسلحة، وأنتج رواية ثالثة.. هي نبأ اختطاف .

كان لاكتشاف ماركيز إصابته بمرض السرطان عام 1999م أثر في تراجع نشاطه السياسي المحموم، وتحوله إلى مصارعة المرض. وحاول من خلال نشر الفصل الأول من مذكراته في صحيفة الباييس الرد على من أشاعوا خطورة وضعه الصحي. وفي هذا الجزء تناول ذكريات رحلته الأولى إلى قريته بارانكيا لبيع منزل الجد القديم، ودورِ أمه في تخفيف وقع اتخاذه من مهنة الكتابة حرفة لكسب عيشه، على الأب الذي كان يحلم له بمستقبل أفضل له من مهنة يعتبر أنها لا تجلب سوى الشقاء لصاحبها.

مذكرات ماركيز صدرت في العام 2002م في طبعة من مليون نسخة تم تقديمها في كل من برشلونة (إسبانيا) وبوغوتا (كولومبيا) ويونيس ايريس (الأرجنتين) ومكسيكو (المكسيك) في وقت واحد، بعدما كان الكاتب أعاد صياغتها مخفضاً عدد الصفحات من 900 إلى 596 صفحة فقط. ولا أحد يعرف ولا حتى الكاتب نفسه عدد الأجزاء التي ستصدر لاحقاً لاستكمال هذه المذكرات.

والرواية المذكورة ترجمها إلى اللغة العربية الدكتور طلعت شاهين وصدرت عن دار سنابل للنشر والتوزيع – مصر 2003م.

أضف تعليق

التعليقات