وسط تكاثر الكتب التي يوقِّعها نجوم المجتمع من فنانين ورياضيين وسياسيين وتتضمَّن في معظم الأحيان سيرهم الذاتية أو غير ذلك، ثمة سؤال مشروع يدور في ذهن «من لا يعرف» حول الموهبة الكتابية التي يتمتع بها هؤلاء وكيفية تدبرهم للوقت اللازم لتأليف هذه المجلدات الضخمة وسط أعمالهم العديدة.
غالية قباني تحدثنا عن ماهية «الكاتب الشبح» الذي يبدو أنه يلعب دور المؤلف السري والفعلي للعديد من هذه الكتب، وبات وجوده يخرج إلى العلن من حين إلى آخر.
في الفلم الفائز بجائزة مهرجان برلين الأخير، «الشبح»، يسأل رئيس الوزراء البريطاني السابق المفترض، الكاتب الذي جاء للقائه لإنجاز سيرته الذاتية بحسب الاتفاق مع دار النشر المرموقة: «من أنت؟» فيجيبه الكاتب: «أنا شبحك».
إنها جملة تحمل شيفرتها المفهومة للقارئ الغربي المعتاد على وجود هذا النوع من الكتَّاب، ولكنها ليست كذلك للقارئ العربي. إنها مهنة يختبئ خلفها الكتَّاب الفعليون وتبرز أسماء نجوم المجتمع، الذين، وبمجرد أن يصدر الكتاب، تتصدر صورهم واجهات المكتبات ويصبحون محل أنظار الصحافة والقرَّاء، بينما يبقى «الأشباح» في العتمة، مكتفين بأجورهم التي لا تصل بأي حال إلى الأرقام الخيالية الذي يحصل عليها النجم صاحب الكتاب. ولا تقتصر المهنة على كتب السيرة فقط، فهناك من يشتري الشهرة في عالم الكتابة الروائية أيضاً. لكن مهلاً، لا يعتقد أحد من القرَّاء أن الصفقة مغرية، فلا أحد محصَّن عن الفضح في الغرب، مهما تمَّت المحافظة على سرية عملية النشر، ومهما حاول البعض أن يدَّعي ما ليس له من موهبة.
الاسم على الصك البنكي
بدلاً من غلاف الكتاب
كتب واحد من هؤلاء «الأشباح» أخيراً تحت اسم مستعار في صحيفة بريطانية، تساءل فيها إن كان يمكن تخيل صدور عشرات كتب السير الذاتية لولاه هو وصحبه. إنها الكتب التي تتحدث عن نجوم عالم الرياضة والأزياء والإعلام والسينما والسياسة، بل وحتى عن مشاهير برامج الواقع التلفزيونية الذين يقفزون خلال أيام قليلة إلى الأضواء، ويتصدَّرون صفحات الصحف الشعبية. من يصدِّق مثلاً أن لاعب المنتخب الإنجليزي الشهير ويين روني قادر على صف الكلمات المنمقة للتعبير عن أفكاره وتفاصيل حياته، أو أن نجمة فرقة سبايس غيرلز فيكتوريا بيكام، تملك من البراعة اللغوية ما يؤهلها لتأليف كتاب يبيع ملايين النسخ؟ وقس على ذلك عشرات المشاهير الذين لا علاقة لهم بعالم الكتابة.
يقول واحد من الكتَّاب الأشباح: «كاتب من دون اسم، شخص غير موجود». ويرد عليه آخر «لا يعنيني وجود اسمي على غلاف الكتاب، طالما أنه موجود على الصك البنكي»! إنها مهنة تستفيد من رغبة المشاهير في رؤية أسمائهم فوق الكتب، بينما هم في غالبيتهم غير قادرين على تقديم أحلامهم وأفكارهم وذكرياتهم، بطريقة لائقة تصلح للنشر في كتاب. من هنا، يجهد الكاتب الشبح كثيراً لإعادة صياغة الأحلام الجامحة والذكريات التي تتداخل مع الرغبة في تعظيم النفس، ويقدِّمها في النهاية بأسلوب لائق وممتع.
يقول واحد من هؤلاء الكتَّاب المتخفي وراء اسم جيمس: «لو أني نشرت نصف ما قيل أمامي من كلام، لحجر على غالبية من ألَّفت سيرهم، أو صاروا موضوع الحديث الساخر للمدينة». ويكمل قائلاً: «هناك مدرِّب رياضي عتيد، كان يقول لي في كل مرة نلتقي فيها، نفس القصة بتفاصيل وأسماء مختلفة، وكان عليَّ أن أجري بحثي الخاص للتأكد من صحة المعلومات»!.
سِيَرْ الرؤساء
على أية حال، لا تنتمي ظاهرة الكاتب الشبح إلى القرن الجديد، بل تعود الى حقبة الستينيات عندما ظهرت السير الذاتية لنجوم هوليوود. وفي السبعينيات سئل الرئيس الأميركي الراحل رونالد ريغان عن كتابه الذي عرض فيه مذكراته، فقال: «سمعت أنه كتاب رائع، وعلي أن أجد الوقت الكافي هذه الأيام لقراءته»! أما بالنسبة للرئيس الأميركي جون كيندي، فإنه ظل حتى اغتياله، يصر على أنه مؤلف كتاب «شخصيات شجاعة» الذي حاز جائزة بوليتزر للآداب عام 1957م في فئة كتب السيرة.
ويتناول الكتاب رموزاً مهمة من أعضاء مجلس الشيوخ عبر تاريخ أمريكا، ضحوا بمراكزهم مقابل التمسك بمبادئهم. الكتاب كرسَّه في عالم السياسة وأهلَّه للترشح للانتخابات الرئاسية. على أنه لم يعد خافياً، أنه منذ صدور الكتاب، نسبه كثير من الدارسين إلى تيد سورنسون كاتب خطابات كينيدي الذي كان يوصف بـ «الذات البديلة لكيندي». ويقال إن السيناتور الشاب طرح الأفكار على شكل ملحوظات، وترك إنجاز الكتاب بصياغته النهائية، بحثاً ولغة وأسلوباً، لسورنسون.
هل كتب الأكاديمي والمنظر التربوي البارز بيل آيَرس السيرة الذاتية للرئيس الأمريكي باراك أوباما؟ والمقصود هنا كتابه المعنون بـ «أحلام من طرف أبي»، الذي وصفته صحيفة نيويورك تايمز، بـ «أفضل ما كتب في السير الذاتية لسياسيين أمريكيين بسبب لغته الأدبية الراقية». التشكيك جاء من بعض المحافظين في الولايات المتحدة، وادعى الباحث جاك كاشي أنه في تحليله لكتاب أوباما اكتشف تشابهاً كبيراً بين أسلوبي الرجلين. لكن علينا أن ننتبه هنا، إلى أن تلك الادعاءات تأتي من اليمين الأمريكي المناهض لوصول رئيس من أصول إفريقية إلى سدة الرئاسة، فقد بدأت قبل سنتين، أي مع الحملة الانتخابية للرئاسة، لضرب عصفورين بحجر، ينفون كون أوباما كاتباً بارعاً، ويربطون اسمه بشخص متطرف، عارض مع مجموعة يسارية حرب فيتنام في الستينيات وهددوا بتفجير مبانٍ حكومية. وقد وصلت الحملة إلى حد أن واحداً من خصومه في الكونغرس، وهو كريس كانون، حاول هو وشقيق زوجته، استئجار أكاديمي من جامعة أكسفورد مشهور في استخدام الكمبيوتر كوسيلة للتحليل اللغوي، لإثبات أن آيَرس هو الكاتب الشبح لسيرة أوباما. إلا أن الأكاديمي البريطاني رفض الدخول في لعبتهما، وأكد لاحقاً أنه لا يوجد منطقياً ما يدعم هذا الادعاء.
وفي عالم الرواية أيضاً
ولا يختص عالم الكتابة الشبحية بالسير الذاتية، بل قد يطال، ولو بشكل محدود، عالم الرواية وغيرها من أشكال الإبداع. من ذلك، أنه في عام 2004م، صدر كتاب بعنوان «الكتابة الشبحية» كشفت فيه جيني إردل أنها الكاتبة الفعلية لغالبية الكتب التي صدرت باسم نعيم عطالله الناشر الفلسطيني الأصل. فقد عملت جيني في دار «كوارتيت» لمدة خمسة عشر عاماً، بدأت خلالها مترجمة لرسائل الكاتب الروسي باسترناك، قبل أن يعرض عليها الناشر أفكار كتب، استهلها بحوارات مسجلة مع نساء مشاهير، فرغتها وحررتها وأضافت عليها مواداً بحثية. واقترح لاحقاً فكرة رواية رومانسية، ومقالات نشرها في الصحف باسمه، قصائد، وخطابات رسمية ألقاها في المناسبات. باختصار باتت جيني الكاتبة الفعلية لأفكاره. وتبرر موافقتها على هذا العمل بأنها كانت بحاجة إلى المال، كونها أم لثلاثة أطفال صغار ولم يكن دخل زوجها يكفي مصاريف العائلة، وهو مبرر وجده أستاذها الذي شكت له همها مرة، أشبه بالعمل «بائعة جسد»، ولكن الفرق، أنها تبيع في عالم النشر.
المشهد الروائي في بريطانيا شهد فضيحة أخرى العام الماضي، بعد أن فوجئت الكاتبة الشبح ريبيكا فارنوورث بالمبيعات الضخمة التي حققتها الروايات الأربع التي أنجزتها باسم عارضة أزياء تدعى كاتي برايس. العارضة تحوَّلت إلى سيدة أعمال، ثم أرادت أن تصبح «روائية»، وبالفعل فقد باعت «كتبها» أكثر مما فعلت الروايات المرشحة للقائمة القصيرة لجائزة «بوكر» عام 2007م. عندها شعرت ريبيكا فارنوورث، الكاتبة الشبح، أنها أولى بهذا النجاح، فقررت أن تكشف عن نفسها، وأصدرت رواية العام الماضي بعنوان «فالانتاين». ولكن وللغرابة، لم تحقق الرواية النجاح المفترض، لا نقدياً ولا على مستوى المبيعات. لقد نست ريبيكا أن أحد الأسباب الرئيسة لرواج الروايات والسير الذاتية التي أنجزتها في السابق، قام على أساس أنها تخص عارضة الأزياء السابقة الجذابة، وليس على أساس أدبي.
حسناً كان هذا عن عالم النشر في بريطانيا، ولكن ماذا عن «الأشباح» الذين يختفون خلف عشرات الأسماء العربية في الصحافة والأدب؟ هل يجرؤ أحد منهم على الكشف
يا ترى؟