كانت ترتع آمنةً في شبه الجزيرة العربيّة: حمر وحش وبقر وحش، وغزلان ووعول ونعام.. ولم يبق منها إلاّ ذكرها في شعرنا الجاهليّ مقترنةً بأقدم وسيلة عيش عرفها الإنسان وأكثر الرّياضات تدليلاً على لذّة القتل.. للتّسلية: الصّيد. فهل نلوم الشّعر الجاهليّ على انقراضها!؟ الدكتورة سوسن يموت أبحرت في هذه الرحلة الجاهلية..
يحتلّ الصّيد موقعًا كبيراً في الشِّعر الجاهليّ, فإن خلت قصيدة من مشهد صيد فإنّها قد لا تخلو من صورة منه أو إشارة إليه. ومشاهد الصّيد ترد في القصائد إمّا بشكل مباشر حين يعمد الشّاعر إلى وصف مشهد صيد قام به وذلك فخراً بذاته أو بفرسه, و إمّا في معرض تعزّي الشّاعر لفقد عزيز بتتبّع مظاهر الموت في كائنات الطّبيعة، وإمّا استطراداً في وصف الشّاعر لناقته أو فرسه بحيوان أثناء عدوه هرباً من صائد، وهي الأغلب. ومع أنّ الفكرة الشّائعة هي أنّ مشهد الصّيد نمطيّ وواقعيّ كالشّعر الجاهليّ عامّة, إلاّ أنّ هناك تنويعات كبرى ضمن هذه النّمطيّة تفرضها كيفيّة ورود هذا المشهد في القصيدة وتطال طرق الصّيد ونتائجه ما يشي بخروج هذه المشاهد عن واقعيّتها لتتكيّف مع بنية القصيدة بشكل عام، وما ألفه الشّاعر في بيئته من صور التّنظيم الاجتماعيّ والاستسلام لمفهوم السّيادة والصّبر على صعوبات الحياة ومواجهتها بالإقدام والمدافعة.
الصيد في مشاهد الصّائد- الواصف
في الشّكل الأوّل (المباشر) يكون الصّائد هو الواصف ويأتي مشهد الصّيد استكمالاً لصفات فرس الشّاعر وإبرازاً لها، حينما يعمد الشّاعر إلى وصف سرعة هذا الفرس في اللّحاق بالطّريدة وتمكين الصّائد منها. ويصوّر عبد المسيح بن عسلة فرسه بأنّه:
لا يَنفَعُ الوحشُ مِنهُ أن تحذّرَهُ
كأنّه عَالقٌ منها بِِخُطّافِ
والصّيد يأتي أيضاً استكمالاً لصفات الفتوة الجاهليّة، فهو فعل فخر بالذّات يتباهى به الجاهليّ أمام الآخرين كما يفصح قول زهير بن أبي سلمى:
وقد أروحُ أمامَ الحيِّ مُقتَنِصاً
قُمْراً مراتِعُها القيعانُ والنَّبَكُ
ويقترن الصّيد في هذه المشاهد بثلاثة عناصر متلازمة وهي الفرس، الرّمح، القطيع. فالصّيد يتمّ دائمًا من على صهوة الفرس. و الضّحايا هي دائمًا قطعان من الوحش. فالصّائد- الواصف لا يصيد حيواناً مفرداً إلاّ أن يتمّ ذلك عرضاً. والوسيلة المستخدمة في الصّيد في هذه المشاهد هي الرّمح لا غيره من الوسائل الّتي تظهر في غير هذه الفئة من المشاهد كالقوس والسّهام أو الأفخاخ. والمكان الصّالح للصّيد هو مكان مخصب ترتاده القطعان للرّعي وهو موضع يتحاماه النّاس إلاّ الشّجاع منهم. أمّا خير وقت يتمّ فيه الصّيد فهو الصّبح. ويصف أبو دؤاد الإياديّ كيف انتظر وصحبه حتّى تضيء لهم قطعة من اللّيل وتلوح الخيوط الأولى من الصّباح فيغدون بالفرس ضامِر الحالبين كسِوار المتهالكة على الرّجال:
…فلمّا أضاءت لنا سُدفَةٌ
ولاحَ مِنَ الصّبحِ خيطٌ أنارَا
غدونا بهِ كَسِوارِ الهَلوكِ
مضطَمِراً حالِباه اضطمارا
والصّيد في هذه المشاهد نشاط مترف يدلّل على الحياة اللاّهية المترفة الّتي يحياها الشّاعر. فهذه المشاهد لا تعوزها عناصر الأبّهة الكاملة من مراقب يربأ القطعان أي يرصدها من مكان مرتفع ويستتر كالذّئب:
بَعَثنا ربيئًا قبلَ ذلك مُخمِلاً
كذئب الغضا يمشي الضّراءَ و يتَّقي
كما لا تخلو من غلام خادم مدرّب على ركوب الخيل متعوّد النّحر جريء في اللّحاق بالطّرائد عندما يبلغ الصّيد أحياناً حدّ المأزق، فهو في ذلك ينوب عن الواصف نفسه أو عن الجماعة الّتي خرجت تصطاد إلاّ في أحوال قليلة يتدخّل فيها الصّائد الواصف حين يخفق غلامه فيوجّه إليه نصائح تتعلّق بكيفيّة الصّيد ومعاملة الفرس. أمّا دور الشّاعر فلا يتعدّى الجلوس بين صحب يتساقون تحت ظلال البُرودِ ويتمتّعون بالغناءِ واللّحمِ مشويّاً ومطبوخاً في القدور يذكر الأعشى:
وظَلِلنا بين شاوٍ وذي قِدرٍ
وســـاقٍ ومُسمِــــعٍ محفــــالِ
واقتران الفرس بمشاهد الصّائد – الواصف له ما يسوّغه. فإنّ الصّيد وسيلة للّهو والتّرف لا يكتمل إلاّ بوجود الفرس. فالفرس رمز للغنى ورهافة العيش. واقتناء الجياد كان حكراً على الفئة الغنيّة المقتدرة.
مشاهد الصّائد- الموصوف
في هذه الفئة من المشاهد تختفي صورة الصاّئد – الواصف اللاّهي المترف لتظهر صورة الصّائد المحترف الّذي اتّخذ الصّيد مهنة يعتاش منها. فهو إمّا يصيد لغيره من المترفين كما مرّ, وإمّا يصيد طلبًا للقوت. على أنّ صورته تكاد تكون دائماً واحدة في الحالتين. فهو فقير قشف أغبر قصير العظام ضئيل قد يبس جسمه من الضّرّ وشدّة الحال مشقّق اللّحم غائر العينين. يقول أوس بن حجر:
صدٍ غائرُ العينين شقّقَ لحمَهُ
سمائمُ قيظٍ فهو أسود شاسِفُ
وثياب هذا الصّائد تدلّ على ما يعانيه فهو لبّاسٌ الخلق من الثّياب لا يملك غيرها كما يقول أبو ذؤيب الهذليّ:
يُدني الحَشيفَ عليهِ كي يواريَها
ونفسَه وهو للأطمارِ لبّاسُ
ولذلك فهو يتحسّبُ للإخفاق وتضطرب نفسُه إذا قُدِّرَ له أن يعود بلا صيد. ويزداد همّه حين يطلب الصّيد ليقيم به أود زوج وأولاد عوابس ضامرين كاليعاسيب يرتقبون عودته. يقول بشر بن أبي خازم الأسديّ:
أبو صبية شُعثٍ تُطيفُ بِشَخصِهِ
كوالِحُ أمثالُ اليعاسيبِ ضُمَّرُ
وقد تميّز الصّائد في كثير من الأحيان بالاسم والنسبة كمسعود بن سعد ومشجّعة الجرمي وغيرهما. وفي صيد الثّيران نجد أنّ المحترفين لذلك ينتمون إلى جديلة أو لحيان أو ثعل أو بني أسد أو فقيم أو نبهان أو أنمار أو الغوث. وقد اقترن بصيد الحمر أسماء ذلاّن وعامر وصباح وجلاّن والخضر من القبائل. كما تميّز منهم عامر الخضريّ والعكراش بن ذؤيب وكعب بن سعد وابنا غمار وابنا يزيد بن مسهر وعثلب.
وتختلف طريقة الصيد في هذه الفئة جذريّاً عن طريقته في فئة الصّائد – الواصف. فالصّيد لا يتمّ بالرّماح من على ظهور الخيل بل بواسطة الرّماة المتخفّين المسلّحين بالقسيّ والسّهام والكلاب المدرّبة. كما تظهر شخصيّات جديدة في مسرح الحدث. منها النّاجش وهو الّذي يثير الصّيد ويحوشه ليمرّ على الصّيّاد بحيث لا يستطيع أن يروغ عن الوجهة الّتي يترصدّه فيها الصّائد. و هذه الوجهة تكون عادة طريقًا ضيّقًا لا تستطيع الطّريدة أن تتحوّل عنه.
وهنا يتقبّل الصّيد احتمالات مختلفة فإمّا أن تُغرى الكلاب باللّحاق به, وهنا يأتي دور المؤسد وهو مدرّبها وقد تعوّدت على أمره ونهيه, وإمّا أن يتصدّى له النّابل أو النّبالة مباشرة يرشقونه. يقول أبو ذؤيب:
حتّى إذا ارتدّت و أقصَدّ عُصبَةً
منها وقامَ شَريدُها يتَضَرَّعُ
فَدَنا له ربُّ الكِلابِ بِكفِّهِ
بيِضٌ رِهابٌ ريشهنَّ مقزَّعُ
فَرَمى لِيُنفِذّ فذَّها فأصابه
سهمٌ فأَنفَذَ طُرَّتَيه المِنزَع
وبالطّبع قد تكون عمليّة الصّيد مزيجاً لبعض هذه الطّرق أو كلّها. فقد يبادر النّبالة برمي السّهام حتّى إذا عجزوا أرسلوا كلابهم, وهو الأكثر ندرة, كقول لبيد:
حتّى إذا يئِس الرُّماةُ وأرسلوا
غُضفاً دواجِنَ قافِلاً أعصامُها
وأهمّ السّمات البارزة في كلاب الصّيد أنّها مسترخية الآذان سفع اللّون زرق العيون متباعدة الأطراف صغيرة الرّأس واسعة الأشداق وهي ضامرة أنحلها كثرة الإطلاق. تجوّع لتكون أضرى, مدرّبة تدريبًا كاملاً على الإغراء سريعة جسورة قويّة يستبين في نحورها وفي آذانها أثر المعارك الساّبقة. فهي أقرب إلى النّحل والزّنابير أو السّهام أو الخطاطيف… و لهذه الكلاب أسماء تدعى بها حين ندائها أو نهرها أو إيسادها, ومنها زنباع وفارع وعطاف وأجبل وركاح وسائل وكساب وسخام وملحم وسلهب… وكلاب الصّيد تقلّد في أعناقها لتمسك وتطوّق بسيور من جلد يابسة قافلة أعصامها ولعلّ ذلك أن يكون لجفاف الدّماء عليها.
أمّا سلاح الصّيد الأساس في هذه الفئة من المشاهد وهو القوس والسّهام فالشّعر مليء بأوصافه. وهو يصنع من أنواع شجر معيّن كالنّبع أو السّدر الضّال. وهناك الكثير من التّفاصيل حول صنع القوس تفرّد في عرضها الشّمّاخ بن ضرار الذّبيانيّ.
وتوصف القوس بصفرتها الّتي يجعلها الشّمّاخ زعفراناً تذوبه نساء عطاّرٍ يمانٍ ويخزنّه: تُميرُهُ خوازنُ عطّرٍ يمانٍ كوانِزُ وهي ملساء زوراء مائلة الجوانب ليّنة قويّة الوسط والوتر. ويتفنّن الشّعراء في وصف صوتها فهي هتوف صوتها كعزيف الجنّ أو النّحل أو الجمر أو ترنّم العود أو ترنّم الثّكلى:
إذا أنبضَ الرّمونَ عنها ترنّمت
ترنُّم ثَكلى أوجَعَتها الجنائِزُ
أمّا السّهام فتصنع من الأشجار الّتي تصنع منها القوس. و يراعى في السّهم أن يكون معتدل الطّول منتفخ المتن مدمجاً دقيقاً مستوياً وقد يشرّب نصله السّمّ. و لا بدّ للنّصل أن يكون حادّاً مرهفاً عريضاً أبيض مصقولاً.
وفي هذه الفئة من المشاهد وفئة المشاهد الّتي تأتي تدليلاً على الموت، لا يكون الثّور المطارد في قطيع وإنّما يكون مفرداً. وهو بعد أن رعى فترة طويلة أدركته شدّة العطش فصام عن الأكل أيّاماً وصار همّه أن يجد الماء، ومن أجله يقوم برحلة طويلة. و تفاجئه الطّبيعة بسقوط المطر فيلجأ إلى شجرة من الأرطى يحاول أن ينكرس في جوفها فيتهيّل الرّمل تحت رجليه وتنطف عليه نقط المطر فلا يستطيع النّوم. وهو في تحرّفه وحركة رأسه يشبه الصّيقل الّذي أكبّ على السّيف يجلو صدأه:
جنوح الهالكيّ على يديه
مُكِبّاً يجتلي نُقبَ النِّصالِ
ويطلع عليه الصّبح فيفاجئه الصّائدون وكلابهم فيبدأ بالهرب لكنّ عزّة نفسه وثقته بقرنيه/ سلاحه تردّانه إلى ساحة المعركة.
وهنا تدور معركة ما بين جائع ظامىء وجائعين فيكرّ كالمحارب النّجد فيصرع الكلاب:
يَخُشُّ بِمِدراه القلوبَ كأنّما
به ظمأٌ من داخلِ الجوفِ يُنقَعُ
ثمّ يستأنف السّعي للوصول إلى الماء. يشقّ خمائل الدّهناء كسهم الرّهان أو الشّهاب أو الشّعلة.
وفي مشاهد صيد حمر الوحش تكون الأخيرة في رحلة أيضاً لطلب الماء لشدّة الظّمأ ويتفنّن الشّعر في وصف صبرها على حزونة المناطق الّتي يجتازها القطيع توقُّدُها في الصَّخرِ نيرانُ عَرْفَجِ وجوّ الرّحلة المتلهّب القائظ:
إذا استقبَلَتهُ الشّمسُ صدَّ بِوجْهِه
كما صدّ عن نارِ المُهوِّلِ حالِفُ
ويظهر الحمار ذكراً حازماً شديد الغيرة مستقوياً على أتنه الحامل متى ما تُخالفْهُ عنِ القَصدِ يُعذَمِ لِنابيْهِ في أكفالِهِنَّ كُلومُ مبادراً يقودها للورد ويرتبىء لها.
وقلّما يمهل الشّاعر القطيع الوقت الكافي للريّ إذ يفاجئه الصّائد بنباله. إلاّ أنّ الحمار ينجو دائمًا وتنجو معه بعض الأتن فيشايعها في الهرب ويحميها من النّبال المشرّعة.
بين الواقع والشّعر
وفي غياب الدّليل على أنّ الثّور حيوان مفرد بطبعه على عكس الحمار الّذي لا يوجد إلاّ مع أتنه، ومع إجماع مشاهد الصّيد في فئة الصّائد – الواصف على جعل الثّور جزءاً من قطيع, يجعل غلبة انفراد الثّور و اجتماع الحمر في مشاهد الصّيد من هذه الفئة مسألة شعريّة بحتة قصد إليها الشّاعر الجاهليّ ليطوّع هذا المشهد لقدرة الحيوان الرّئيس وإمكاناته بحيث يظلّ محافظاً على صورة التّفوّق لكونه في الأساس معادلاً لناقة الشّاعر أو راحلته الّتي شبّهها به. فإذا كان الثّور الوحشيّ يمثّل البطولة الفرديّة المطلقة لأنّه مسلّح بسلاح فرديّ يمكّنه من الدّفاع عن نفسه فإنّ الحمار يستعيض عن عجزه عن القتال بعلاقته بأتنه يحقّق عليها سيطرته من جهة ويحقّق بالألفة الاجتماعيّة بينهما أفقًا جديداً: الإرهاص بالحمل والتّوالد واستمرار الحياة.
ومن السّهل أن نعلّل اختلاف مصير الحيوان باختلاف شخصيّة الصّائد. فالموت غالب في القصائد الّتي يرد فيها الصّيد في معرض رثاء لأنّ الغاية في القصيدة هو التّعزّيّ بتتبّع مظاهر الموت في الكائنات. كما أنّ غلبته في فئة القصائد الّتي يكون فيها الصّائد هو الواصف متوقّعة لأنّ الهدف الأساس من إيراد المشهد هو تبيان صفات الواصف أو صفات الفرس, وحسن أدائه في الصّيد هو جزء منها. أمّا نجاة الحيوان الغالب حين يكون الصّائد هو الموصوف أي حين يأتي مشهد الصّيد استطراداً لتشبيه فرس الشّاعر أو ناقته بحيوان ما, فإنّ ذلك لأنّ اهتمام الشّاعر معلّق بالحيوان المصيد لأنّه عدل للفرس أو النّاقة الّتي يصفها الشّاعر. وبموت الحيوان يفقد تشبيه راحلة الشّاعر به قيمته.
لو كنتِ في روما معي
لو كنتِ في روما معي
كنَّا تبادَلنَا الشِّجاراتِ الَخفيفة
والعتابا
والخُبزَ
والضَّحكَ المؤجَّلَ
والقصائدَ
والشبَّابا
والحبَّ تحتَ الشَّمسِ
حَيثُ الحبُّ
لا يخشَى عقابا
لو كُنتِ في «روما» معي
لو كُنتِ في «روما» معي!!
في شارعٍ يَمتَصُني
شجَناً
ويأكُلُني اغْتِرابا
جِئنا، ولم يَأتِ الطريقُ
فلا تُحبِّيني
غيابا
أنا ما عَشِقتُكِ شَوكَةً
حتَّى تُحبّيني عذابا
ما زارني مطرُ المحبةِ
منذ خاصمْت السحابا
لو كُنتِ في روما معي
لَفَتَحتُها
بَاباً
فَبَابَا
أحمد بخيت – القاهرة