بدأ اهتمام الغرب ببلاد العرب منذ القرن الخامس قبل الميلاد في كتب هيرودوتس وثيوفرست تلميذ أرسطو، ولاحقاً في القرنين الأول والثاني للميلاد عند الجغرافي اليوناني سترابون، والمؤرِّخ الروماني بليني. بعد ذلك لم يضف الكثير على ما كتب آنذاك، حتى جاء القرن الخامس عشر الميلادي وبدأ تدفق الرحّالة الأوروبيين إلى الجزيرة العربية.
الزميل خالد الطويلي، يوجز بعض أهم هذه الزيارات التي دخلت في سياق الحج إلى الديار المقدسة، وأثمرت توصيفاً مدوناً عن المنطقة، فصارت تعد اليوم بمثابة مراجع عن الأحوال السياسية والاجتماعية والاقتصادية خلال الحقب المختلفة التي شهدت هذه الرحلات.
بقيت مكة المكرمة منذ نشأتها وعلى مرّ العصور، مجهولة الملامح لغير العرب الذين كانوا يحجون إليها، وعصية على الغزو الأجنبي رغم محاولات أباطرة الروم وملوك فارس في حقب مختلفة. وكان عدم توافر معلومات واضحة عن الصحارى العربية من أهم الأسباب التي أحبطت أولئك الغزاة الذين راودتهم فكرة الغزو.
وخلال حقبة انتشار الإسلام في أوروبا، تفاقم ذلك الغموض الذي كان يحيط بمكة المكرمة وبالمدينة النبوية خصوصاً بالنسبة إلى أولئك الذين أرادوا معرفة ما يمكن عن منشأ الإسلام الذي ساق الجيوش إلى ديارهم. ولأنهم كانو ممنوعين من دخولها، ولبعد المسافة ومشقة السفر وخطورة المغامرة، تمكنت المدينتان من الاحتفاظ بأسرارهما وغموضهما عبر كل ذلك التاريخ المتقلب، وبقي حب المعرفة يدغدغ فضول المهتمين لاختراق حاجز سريتها ضمن مناطق جغرافية أخرى في المشرق اهتم بها تيار فكري غربي سمي بالاستشراق. وبتنوع خلفيات هؤلاء المهتمين وأهدافهم وتوجهاتهم وسبلهم، ظل الحج الوسيلة الأمثل لتغلغلهم إلى داخل هذا المجتمع المنغلق أمامهم. أتقنوا اللغة العربية، وانتحلوا شخصيات إسلامية في سبيل هذه المعلومات، رغم المخاطر التي كانت تحيط بهذا النوع من التسلل الذي أثار حسب روايات بعضهم ريبة أهل البلد وكاد يجلب الهلاك لهم. ولم يكن الفضول وحسب هو الذي أتى بهم جميعاً، فقد كان منهم الرحالة المستشرقون، وكان منهم الجواسيس ومنهم من ساقتهم ظروف مختلفة كالعبودية وخلافها إلى الحج. وقد عرفنا منهم من تسنَّت له العودة إلى بلده من دون أن يهلك وأن ينشر مذكراته عن تلك الرحلات، ومنهم الكثير ممن لم تصلنا أخبارهم.
بدأ تدفق الرحالة المستشرقين إلى المنطقة خلال القرن الخامس عشر الميلادي في إطار لا يمكن عزله عن التطورات الدولية السياسية والعسكرية. وكانت كتاباتهم عنها متباينة من حيث الالتزام بالموضوعية والحياد، ولكنها كانت تعكس اهتمام الأوروبيين المتزايد بالشرق عندما بدأت البوادر الأولى للصراع من أجل السيطرة والتوسع، والذي بدأته إسبانيا والبرتغال ثم هولندا وفرنسا وبريطانيا كقوى بحرية استطاعت الوصول إلى الشرق العربي والجزيرة العربية.
طلائعهم: مماليك أو في لباسهم
كان أول من ادّعى الوصول إلى مكة المكرمة من المستشرقين جون كابوت عام 1480م، أي قبل 12 عاماً من سقوط الأندلس واكتشاف أمريكا، ولكن لم يصل إلينا أي شيء مما كتب عن تلك الرحلة. أما أول سجل وصلنا حول رحلة مستشرق إلى الحج فكان حول رجل إيطالي يدعى لودفيجو دي فارتيما عام 1503م دخلها كجندي في حرس المماليك وانتحل لنفسه اسم يونس المصري . ويبدو أن تقمص شخصية المملوك لفارتيما وغيره كما سيأتي ذكره لاحقاً كانت أكثر سهولة كون كثير من المماليك كانوا من المسيحيين الذين اعتنقوا الإسلام.
أبحر فارتيما من البندقية في عام 1503م، وزار كلاً من الإسكندرية وطرابلس وأنطاكية وبيروت ودمشق وسارع منذ وصوله دمشق، إلى تعلّم اللغة العربية، واستعدّ لاستئناف الرحلة جنوباً، ثمّ أمّن لنفسه مكاناً في القافلة الذاهبة إلى مكة المكرمة، بعد أن عمل على عقد عُرى الصداقة مع أحد زعماء المماليك الذي عيّنه حارساً من حرّاس القافلة.
وفي الثامن من أبريل 1503م تحرّك فارتيما إلى مكة المكرمة بزي جندي مملوك. وحينما وصل إلى المدينة بقي فيها ثلاثة أيام، ودخل الحرم الشريف، الذي يصفه وصفاً موجزاً، فيقول: إنه مسجد مقبب يدخل إليه من بابين كبيرين، ويحمل سقفه حوالي أربعمائة عمود من الآجر الأبيض، وفيه عدد كبير من المصابيح المعلّقة – الثريّات – يناهز الثلاثة آلاف ، ويشير إلى وجود عدد من الكتب، في جهة من جهات المسجد التي تحتوي على تعاليم الدين الإسلامي.
وينتهز فارتيما الفرصة لتصحيح الاعتقاد الشائع في أوروبا آنذاك من أن جثمان النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) معلّق في الفضاء، فيقول: أما بخصوص هذه الأخبار فأنا أخالفها تماماً، وأؤكّد أن هذا ليس صحيحاً . ويذكر في الفصل الذي يتطرّق فيه إلى مكة المكرمة وتشييدها وإنشائها أنها مدينة جميلة تكتظ بالسكان، لأنّها تحتوي على ستة آلاف أسرة. ودورها حسنة للغاية، مثل دور الإيطاليين ، على حد تعبيره، ويذكر كذلك أن مكة المكرمة لم تكن مسوّرة، لأن أسوارها هي الجبال الطبيعية التي تحيط بها، ولها أربعة مداخل. وقد اندهش فارتيما من كثرة الحجاج الهائلة وتعدد جنسياتهم وقومياتهم، فيقول أنه لم يجد مطلقاً، من قبل، مثل هذا العدد من الناس يجتمع في بقعة واحدة من الأرض.
ويمضي الرحالة في نقل انطباعاته ومشاهداته، فيذكر في الفصل المخصص للحج من رحلته أن مركز مكة المكرمة يوجد فيه معبد جميل جداً، على حدّ تعبيره، مبني من اللبن المشوي، وللمسجد الحرام، أو المعبد كما يسميه مئة باب، ثم يشير إلى وجود الكعبة الشريفة في الوسط من دون أن يذكر اسمها. ثم يصف بئر زمزم قائلاً: إن لها قبة جميلة، وإن عمقها يبلغ سبعين قامة، وإن ستة أو سبعة رجال يقفون عادة حول البئر ليستقوا الماء للناس منها. وهؤلاء يريقون ثلاثة أسطل من ماء زمزم فوق كل حاج من الحجاج ، فيتبلل به من قمّة الرأس إلى أخمص القدم، ولو كان لباسه من حرير .
ويظل القرن السادس عشر الذي كاد يطبع بصبغة برتغالية، شاهداً على محاولات أخرى، على هذا الصعيد وفي السياق نفسه. ففي يوليو 1565م حجّ إلى مكة المكرمة مملوك برتغالي الأصل مجهول الاسم، فكتب وصفاً دقيقاً عنها، رغم اختصاره واقتضاب ما جاء فيه. وقد اكتشف ما كتبه هذا المملوك في حاشية كتاب عربي موجود في مكتبة الفاتيكان برقم 217.
وفي الوقت نفسه تقريباً، وصل إلى مكة المكرمة رجل ألماني يسمى هانس وايلد كان الأتراك قد أخذوه أسيراً في هنغاريا، وسيق إلى مكة المكرمة، فلم يعد إلى ألمانيا إلاّ سنة 1611م. وبعده بسنوات قليلة أُسر فتىً بندقي يدعى ماركو دي لومباردو وهو يعبر البحر الأبيض المتوسط بصحبة عمّه القبطان، فبُعث به إلى مكة المكرمة من مصر مصاحباً لابن سيده. وقد دوّن أشياء طريفة عن سفرته.
أما جوزيف بيتس فهو شاب انجليزي يافع من أهالي أوكسفورد، وقصته طريفة وغير عادية. فقد كان هذا البريطاني شديد التعلق بالبحر، وعندما بلغ الخامسة عشرة من عمره التحق بسفينة كانت متوجهة إلى أمريكا عام 1678م، وفي طريق العودة، على مقربة من الشواطئ الإسبانية، هاجم قراصنة جزائريون السفينة وأسروا أعضاء الطاقم ونقلوهم إلى العاصمة الجزائرية، حيث بيعوا في السوق كعبيد.
قام بيتس برفقة سيده الجزائري بالحج إلى مكة والمدينة في أواخر القرن السابع عشر. ثم تمكّن من الفرار، ونشر قصة رحلته تلك في بريطانيا سنة 1704م، وهي قصة فيها بعض الأخطاء والمبالغات الشائعة في الكتب المعاصرة له. ولكن الكتاب وعنوانه وصف أمين لديانة وأخلاق المحمديين اجتذب اهتماماً كبيراً. فقد كان بيتس من أوائل الإنجليز الذين دخلوا شبه الجزيرة العربية ووصفوا شعبها، والأماكن المقدسة فيها، وشعائر الحج في مكة، وقد زار كذلك قبر النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، ونفى كما فعل فارتيما من قبله حكاية أن القبر معلّق في الهواء، ويبدو أن هذه القصة كانت شائعة في أوروبا عن الجسد الشريف حتى أتى على نفيها أكثر من رحالة.
ويمضي بيتس في وصف قافلة الحجاج، وهو ينتقل بمعيّة سيده من القاهرة إلى السويس، ومنها إلى مرفأ صغير بين ينبع وجدة، ومن هناك استخدما الجمال للوصول إلى مكة المكرمة. ودامت إقامتهما هناك شهرين، وكان بيتس يرافق معلمه كل يوم في جولة حول المدينة، ويسجّل في ذهنه صور المباني وعادات الأهالي الدينية. وكان الجهد الذي بذله لتسجيل كل هذه التفاصيل مميزاً.
ويقدم بيتس انطباعاته حول مكة المكرمة، فيقول إنه لم يجد فيها شيئاً مثيراً أو مبهجاً. ولم يعجبه سكان مكة أيضاً، فهم فقراء ميالون إلى النحافة والهزال، ثم استرعى انتباهه المتصوفون (الدراويش) الذين يعيشون حياة الزهد والتنسّك ويسافرون من أدنى البلاد إلى أقصاها، وهم يعيشون على صدقات الآخرين، يلبس الواحد منهم قفطاناً أبيض وقبعة طويلة بيضاء وعلى ظهر الواحد منهم جلد ضأن أو ماعز يرقد عليه، وفي يده يحمل عصا طويلة .
ويذكر خلال وصفه للحج ومناسكه أن سلطان مكة يقوم شخصياً بغسل الكعبة بماء زمزم، ثم بالماء المطيّب المعطّر. وحينما يقومون بهذه العملية ترفع السلالم التي تؤدّي إلى بيت الله، ولذلك يحتشد الناس تحت الباب ليدفع ماء الغسيل عليهم حتى يتبللوا به من الرأس إلى القدم. ثم تقطع المكانس التي يكنس بها البيت قطعاً صغيرة، وترمى عليهم فيتلاقفونها، ومن يفز بقطعة منها يحتفظ بها كأثر .
ويضيف: إن مكة كان فيها ماء كثير، لكنها خالية من العشب والزرع إلا في بعض الأماكن . على أنه وجد فيها عدّة أنواع من الفاكهة متوافرة للناس مثل العنب والبطيخ والخيار والقرع وما أشبه. وهذه يُؤتى بها في العادة من مكان يقع على مسيرة يومين أو ثلاثة، ربما قصد به الطائف.
الرحلات المحضّرة بعناية
وفي عام 1807م وصل الحجاز رجل إسباني الأصل يُدعى دومنيكو باديا أي ليبليج، لينتحل اسماً ونسباً عربياً علي بك العبّاسي ، وقد تضاربت الآراء في حقيقة هذا الرجل، فقد يكون عميلاً للفرنسيين أو البرتغاليين أو ربّما الإنجليز. وهناك من يذهب إلى أنه كان جاسوساً لسلطان مصر محمد علي باشا، الذي كان يجهّز لحملة على الحجاز. على كل، فإن علي بك العباسي كان أول أوروبي احتك بالناس عن قرب من موقع لم يثر حساسيتهم. وكان لادعائه النسب العباسي، وتأكيده لشريف مكة بأنه كان واحداً من عائلتهم الوجه الذي دخل به قلوب الناس.
سعى علي بك إلى توخي الدقّة في كتاباته. فهو يصف بالتفصيل الأروقة المعمدة والقباب والمآذن في المسجد الحرام، ويخبرنا عن الأماكن المبلّطة والأماكن ذات الأرض الرملية. ويميّز الأمكنة التي تخص أتباع كل مذهب من المذاهب الأربعة في أرجاء الحرم. ويأتي بعد ذلك على إيراد تفاصيل أخرى عن مناسك الحج، فيُحدّث قرّاءه عن رمي الجمرات ويشرح رمزيتها.
ولم يكتفِ علي بك بزيارته الأولى، فغادر دمشق عام 1818م، متجهاً إلى زيارة مكة المكرمة للمرة الثانية ولكنه توفي على الطريق. وتقول التقارير البريطانية إن وفاته كانت بسبب مرض الديزنتاريا. في حين أن التقارير الفرنسية تؤكد بأنه قتل مسموماً من قبل البريطانيين.
بقي أن نشير إلى أن رحلات علي بك، قد طبعت بالإنجليزية عام 1816م، تحت عنوان رحلات علي بك في المغرب وطرابلس وقبرص ومصر والجزيرة العربية وسوريا وتركيا 1803 – 1807م ، وأعيد طبعها في لندن عام 1993م.
أمّا الرحّالة الثاني الذي قام بمهمّة مشابهة، فهو الألماني أولريخ سيتزن. غير أن المعلومات عنه شحيحة وموجزة جداً. ولد عام 1767م، ونجهل الكثير عن نشأته وحياته، وكل ما نعرفه أنه قضى عشرين سنة يدرس ويتأهب لرحلته إلى الشرق. فجاء إلى سوريا سنة 1805م وأقام فيها بضع سنين، وكتب في رحلته كتاباً قيّماً باللغة الألمانية قبل أن يعلن إسلامه ويتوجه إلى أداء فريضة الحج. فسافر إلى الحجاز، في زيّ درويش اسمه الحاج موسى ودخل مكة حاجاً سنة 1810م.
وزار الحجاز عدد آخر من الأوروبيين الرحالة بعد ذلك. وقد كانت حملة الخديوي محمد علي باشا على الحجاز، سبباً في دخول عدد من الأوروبيين مع الجيوش المصرية إلى الأراضي المقدّسة وزيارتهم مكة والمدينة، ومنهم السويسري بيركهارت، والإيطالي فيناتي، والجندي الأسكتلندي توماس كيث.
أما فيناتي، فهو رجل من أهالي فيرارا في إيطاليا. وقد قُدّر له بعد مغامرات عدة، أن يحجّ إلى مكة المكرّمة في 1814م، وقد اتخذ محمداً اسماً. كل ما لدينا من معلومات عنه، أنه سيق إلى الجنديّة في بلدته سنة 1805م ، ففرّ منها إلى ألبانيا، وعمل عند أحد الباشوات الأتراك فيها، واعتنق الإسلام. ثم توجّه إلى اسطنبول، وبعد مغامرات وتقلبات عدّة وصل إلى القاهرة في عام 1809م، وانخرط في سلك الحرس الألباني. ثم فرّ من الجندية عام 1814م وتوجه إلى مكة المكرمة، فحجّ فيها، وكتب عن ما شاهده بالتفصيل، ومنه قوله: ولمّا كنت مسروراً لنجاحي في الفرار، كنت في وضع فكري يتقبّل الكثير من الانطباعات القويّة. ولذلك تأثرت كثيراً بجميع ما رأيت عندما دخلت البلدة (يقصد مكة) لأنّها وإن لم تكن واسعة ولا جميلة بحدّ ذاتها، فقد كان فيها شيء يبعث على الرهبة والاندهاش. وكان ذلك يلاحظ على الأخصّ عند الظهيرة، حينما يهدأ كل شيء تمام الهدوء، إلا المؤذّن الذي يدعو الناس إلى الصلاة من فوق المأذنة .
ويمضي فيناتي في وصف البيت الحرام والكعبة معلقاً على ازدحام الناس في مكة، وكثرة الحجّاج فيها فيقول: وصلتْ إلى مكة، منذ أن أتيتُ إليها، قافلتان كبيرتان، إحداهما من آسيا والأخرى من إفريقيا، يبلغ عدد القادمين فيهما حوالي أربعين ألف شخص، كان يبدو عليهم كلهم مقدار ما يكنّونه في نفوسهم من الاحترام والتقديس للبيت الحرام .
عصر كبار المستشرقين
وفي الوقت الذي كان فيه فيناتي يقوم برحلة الحج إلى مكة، كان هناك مستشرق آخر يُعدّ من أشهر رحالي القرن التاسع عشر وأغزرهم علماً وثقافة وأبعدهم صيتاً وشهرة، يشارك في موسم الحج ذاته، متخفياً تحت اسم مستعار وهو الشيخ إبراهيم .. ذلك هو الرحالة السويسري جون لويس بيركهارت الذي نزل في جدة في الثامن عشر من يوليو 1814م. وسار منها إلى الطائف لمقابلة الخديوي محمد علي باشا، ثم قصد مكة المكرمة لأداء فريضة الحج.
قبل أن يرحل بيركهارت إلى الحج، قرر أن يعدّ نفسه إعداداً كافياً لتلك الحياة المليئة بالمصاعب والاختبارات والمحن التي تنتظره. فالتحق بجامعة كمبردج عام 1808م لدراسة اللغة العربية والطب وعلم الفلك وعلوم أخرى. ثم قصد حلب حيث قرأ القرآن وتفقه في الدين الإسلامي ثم اعتنقه عام 1809م وتسمّى بإبراهيم بن عبدالله، وراح يعوّد نفسه على الحياة الصعبة، فهجر حياة الترف، وبات ينام على الأرض.
وصل بيركهارت إلى مكة، في 8 سبتمبر 1814م، وكانت معرفته باللغة العربية، واطلاعه التام على أحوال المسلمين وعاداتهم قد ساعداه على إنجاز مهامه بنجاح، حتى استطاع أن يعيش في مكة خلال موسم الحج كلّه، ويشترك في مناسكه وشعائره، من دون أن يثير أية شكوك.. وكان بيركهارت نفسه يقول إنّه من بقايا المماليك الذين قضى عليهم محمد علي باشا في مصر، حينما كان يُسأل عن هويته، وشخصية المملوكي والدرويش كانت مناسبة للتخفي بين الحجيج بالنسبة لرجل أوروبي كما فعل فارتيما من قبل. والملاحظ مما كتبه بيركهارت نفسه أن إقامته في مكة كانت مريحة جداً، إذ يقول: خلال جميع رحلاتي في الشرق، لم أتمتع براحة كالتي عشتها في مكة. وسأحتفظ بذكريات جميلة عن إقامتي هنا .
ولا شكّ أن بيركهارت لم يُضع وقته سُدى، إذ وضع 350 صفحة من الملاحظات والوصف الدقيق للمدينة وأهلها.. وترك وصفاً مفصلاً لبيت الله الحرام، خلال ليالي شهر رمضان عندما تلتمع آلاف الفوانيس في أعمدته وعندما تنعشنا النسمة الباردة فيه، بعد يوم طويل وحار من الصيام .
ومن طريف مايورده بيركهارت، في هذا الفصل، قائمة بأسماء الأبواب الموجودة في المسجد الحرام تحتوي على تسعة وثلاثين اسماً حديثاً، تقابلها الأسماء القديمة لبعض الأبواب. ويضيف في وصفه لمكة المكرمة: إنها يمكن أن تعتبر بلدة جميلة، لأنّ شوارعها أعرض من شوارع المدن الشرقية الأخرى بوجه عام. وبيوتها عالية مبنية بالحجر، فيها عدد من الشبابيك التي تطلُّ على الشوارع فتسبغ عليها منظراً مليئاً بالحيوية، بخلاف الدور في مصر وسوريا، التي لا تطلّ على الطرق في الغالب. وهي مثل جدة، تحتوي على عدد من الدور ذوات ثلاثة طوابق . ويقول كذلك: إن مكة مفتوحة من جميع الجهات، لكن الجبال المحيطة بها تشكّل مانعاً حصيناً ضد العدو. وقد كان لها في الزمن القديم ثلاثة أسوار تحمي جوانبها .
ويمضي بيركهارت في التطرق إلى العديد من التفصيلات، كالماء الذي يعتمد عليه سكان مكة، وبئر زمزم، وقناة زبيدة التي يسهب في سرد تاريخها وما شهدته من ترميم وإصلاح على مرّ التاريخ. كما يصف محلات مكة التجارية وأسواقها وأدق التفصيلات الأخرى عن حاراتها ومطوّفيها وسفوحها، وأجهزتها الإدارية، وأماكنها التاريخية.
قدّر بيركهارت عدد سكان مكة في غير مواسم الحج، بخمسة وعشرين إلى ثلاثين ألف نسمة، ثم يقول: إن مكة كان بوسعها، في تلك الأيام ، أن تسكن ثلاثة أضعاف هذا العدد من الحجاج أيضاً . ويضيف في حديثه عن السكان أن جلّهم غرباء وأجانب عنها، من أهالي اليمن وحضرموت. وكان يليهم في العدد أبناء الهنود والمصريين والسوريين والمغاربة والأتراك. وكان هناك أيضاً مكِيّون من أصل إيراني وتاتاري وبخاري وكردي. ومن كل بلد مسلم آخر تقريباً.
في منتصف يناير 1815م، غادر بيركهارت مكة المكرمة إلى المدينة المنورة. ومن سوء حظه أنه وقع مريضاً بمرض البرداء (الملاريا)، حتى أصابه اليأس من نفسه، وظنّ أنه سيقضي نحبه في المدينة فيقبر فيها. لكنه مع ذلك استطاع أن يكتب عدّة فصول عنها في الجزء الثاني من رحلته. غير أن هذه الكتابات بقيت أقل شموليّة من كتاباته عن مكة.
وفي صبيحة يوم الخامس والعشرين من يوليو 1853م، وصل المدينة المنورة بريطاني متنكِّر باسم الحاج عبدالله ليغدو هو الآخر أحد أبرز الرحّالة الأوروبيين الذين استشرقوا.
ولم يكن هذا (الحاج) سوى السير ريتشارد فرنسيس بيرتون الذي كان يعمل موظفاً في شركة الهند الشرقية المعروفة، ورحل إلى إفريقيا والهند وسوريا وشمال إفريقيا والبرازيل وجزيرة العرب التي ظلّت بين هذه جميعاً، كما قال هو نفسه: البلاد التي تولّعت بها .
استعدّ بيرتون، كما فعل بيركهارت من قبل أن يقدم على رحلته الخطرة بأشهر عديدة، واتخذ جميع التدابير اللازمة للقيام بمهمته خير قيام، حتى أنه عمد إلى الاختتان وهو يومئذ في الثانية والثلاثين من عمره! وخلع عنه ثيابه الأوروبية، واستبدلها بملابس مسلم أفغاني في طريقه إلى أداء فريضة الحج، وتسمّى باسم الحاج عبدالله. وقد وصف لنا بيرتون بدقّة رحلته هذه في كتاب ممتع من جزأين ضخمين هو الحج إلى المدينة ومكة .
وفي طريقه إلى الشرق، كان بيرتون يعمل على إتقان دوره كمسلم في تفاصيل الحياة اليومية للمسلم، منتحلاً شخصية نبيل فارسي بداية الأمر، ثم شخصية درويش متجوّل. وعن سبب إقدامه على هذه الخطوة، يقول بيرتون: ليس هنالك من شخصية مناسبة للتخفّي في العالم الإسلامي أكثر من شخصية الدرويش. فهذه الشخصية يمكن لأي رجل من أية طبقة أن يتلبّسها، من أي عمر أو من أي مذهب. كما يسمح للدراويش بتجاوز أو تجاهل أصول الأدب والمعاملة كأشخاص قد انسلخوا عن المجتمع، وتوقّفوا عن الظهور على مسرح الحياة .
وصل بيرتون إلى المدينة المنورة أولاً وكتب عن تشكيلات خدم الحرم النبوي، وما يلبث أن يقارنها بما قرأه عند بيركهارت. ويعلمنا بيرتون أن حجم المدينة المنورة حين زارها كان أكبر بمرة وثلث من حجم مدينة السويس، أو بقدر نصف حجم مكة، وهي عبارة عن مكان مسوّر يؤلّف شكلاً بيضاوياً غير منتظم، ولها أربع بوّابات.. وهناك عمارات ضخمة وأبراج مزدوجة متقاربة.. وفي داخل المدينة الظليل ترى الجنود يحرسون المدينة، وأصحاب الجمال يتشاجرون، وكثيراً من الرجال الذين لا عمل لهم يتسكّعون. ثم يصف البنايات العامة فيقول: إن هناك أربع خانات كبيرة وبضع مقاه صغيرة، وحماماً ممتازاً، ويقدّر عدد السكّان بـ 16 ألف نسمة.
في 11 سبتمبر 1853م، وصل بيرتون إلى مكة المكرمة بعد رحلة متعبة حافلة بالمخاطر؛ ليستقر به المقام في بيت مرافقه الشاب محمد البسيوني الذي كان دليله ومرافقه منذ بداية الرحلة.
يقول بيرتون عن مكة حينما وصلها لأول مرة: إنه لم يجد فيها ذلك الجمال الرشيق المتناسق الذي يتجلّى في آثار اليونان وإيطاليا، (وهذا دليل على التحول الذي طرأ على معمار مكة في الفترة ما بين زيارة فارتيما الذي وصف دورها بأنها تشبه الدور الإيطالية، وبين زيارة بيرتون لها) ولا الفخامة المتجلّية في أبنية الهند، ومع هذا فقد كان المنظر غريباً فريداً بالنسبة إليه، وكتب: شاهدت احتفالات دينية في مناطق مختلفة، لكنني لم أرَ مثل هذه المشاهد المهيبة والرائعة في أي مكان آخر .
ومن المستشرقين الذين قاموا بالحج بغرض التجسس، أو التعرف على أحوال مواطني مستعمرات بلادهم، الهولندي سنوك هورخنيه الذي كان أستاذاً للغة العربية في جامعة لندن، وعاش 17 عاماً في جزر الهند الشرقية (أندونيسيا)، ثم زار مكة وبقي فيها ستة أشهر بين العامين 1884 و 1885م.
وتزامنت هذه الزيارة مع قيام حركات مقاومة للاستعمار الهولندي في تلك الجزر الآسيوية التي يحج منها عشرات الآلاف إلى مكة سنوياً، وكان الهدف منها التعرف على المؤثرات التي تدفع الثوار إلى العصيان بشكل خاص بعد عودتهم من مكة. والتقط هورخنيه آنذاك كمية كبيرة من الصور الفوتوغرافية لمواطني هذه الجزر إضافة إلى أماكن عديدة في مكة وجوارها.
إن قائمة الأوروبيين الذين زاروا مكة المكرمة طويلة في الحقيقة، إذ تضم إضافة إلى المشاهير الذين ذكرناهم عدداً أكبر ممن هم أقل شهرة. وبشكل عام يمكن القول أن ملاحظات هؤلاء. اختلفت بمرور الزمن، فقد كان الأوائل منهم أكثر اهتماماً بشرح تفاصيل الدين ومناسك الحج، وتعبيراتهم تطبعها الدهشة وأحياناً الانبهار وأحياناً التعصب الديني. كما أن الأوائل ركزوا على دحض الأخطاء والخرافات الرائجة في أوروبا عن الدين الإسلامي ومقدساته.
أما المتأخرون منهم، فقد ذهبوا إلى وصف أدق لحال سكان مكة والمدينة والحجاج وتركيباتهم الإثنية وأعدادهم وطبقاتهم وأحوالهم المادية والسياسية والاجتماعية. كما تركز وصفهم للمدينتين على ذكر تحصيناتهما ومصادر المؤونة والماء فيهما كما استغل رحالة كل بلد أوروبي فرصة الحج للتجسس على حجاج مستعمرات بلده.
وقد كانت هناك بضع عوامل مشتركة بين هؤلاء الرحالة الأوائل منهم أو المتأخرين، فقد شاع بينهم تقمص شخصيات يسهل لهم التسلل عبرها وتبرير سحنتهم الأوروبية من خلالها مثل جنود المماليك، أو تصرفاتهم الغريبة مثل الدراويش. كما أن جميعهم تعلم اللغة العربية وأجادها واستعد للرحلة وتعلم الدروس ممن سبقوه إليها بفطنة شديدة.