بين الإنسان والعصفور علاقة حب ومودة، إلا عند التنافس على الطعام.
فما بين الفلَّاح الذي اجتهد في زراعة أرضه وينتظر موسم القطاف أو الحصاد من جهة، والطيور الباحثة عن طعامها من جهة أخرى، تنتصب الفزَّاعة.
الفزَّاعة.. هذا الاختراع الذي شاءه الإنسان نصيراً له في إبعاد الطيور عن مشاركته لقمة العيش، قديمة قدم الزراعة نفسها. ولذا كان لا بد لها من أن تترك بصماتها على أوجه عديدة من الثقافة الإنسانية، بدءاً بالشعر والسينما، وصولاً إلى علم البيئة الذي بدأ برد الاعتبار إليها وإلى دورها التاريخي. وهذا ما تُحدثنا عنه الإسهامات المختلفة التي يجمعها هذا الملف.
تاريخ الفزَّاعة
يقول خبير سويسري مهتم بالحضارة الفرعونية إن البشر لم يؤتوا جديداً لم يؤته الفراعنة من قبل، إلا بعد القرن الميلادي الثامن عشر.
والفزَّاعة في الأصل فرعونية. فأول فزَّاعة ذُكرت في التاريخ ظهرت في وادي النيل، حيث كان المزارع ينصبها، من أجل إخافة رفوف السلوى أو السمانى واصطيادها. كانوا ينصبون قضبان خشب في الحقول، ويعلِّقون عليها شبكاً. وكان المزارعون يختبئون في الحقل قرب الفزَّاعة، ويخوّفون السمانى، ليدفعوها صوب الشبك، وبذا يصطادونها للأكل. ثم تطوَّرت الفكرة ليصير غرض الفزَّاعة حماية الحبوب والجنى في الحقول.
ومثلما نقل الإغريق العلوم والفنون عن الفراعنة، كما قال غيوم هنري فيوتو، المؤرخ في بعثة شامبليون العلمية التي رافقت نابليون بونابرت إلى مصر سنة 1798م، نقلوا فكرة الفزَّاعة عنهم أيضاً. لكنهم صنعوا فزَّاعة من شكل خاص، إذ كانوا ينحتون خشباً، على شكل شخص أسطوري يدعى بريابوس، تقول الأسطورة إنه كان يعيش في كنف بعض زُرّاع العنب، وكان قبيحاً جداً. ولاحظ الزرّاع أن بريابوس حين كان يلعب في الحقل، كانت الطير تخافه لقبحه، وتمكث بعيدة عن الزرع، فيحصدون غلالاً وفيرة. وأخذ مزارعون آخرون ينصبون فزَّاعات لها شكل بريابوس، لحماية غلالهم من الطير، فيدهنونها باللون الأحمر، ويضعون في يدها هراوة، للتخويف.
ونقل الرومان التقليد الإغريقي، وصنعوا الفزَّاعة منحوتة من خشب أيضاً. وحين غزوا فرنسا وألمانيا وإنجلترا، أخذوا معهم فزَّاعة بريابوس، فاعتمدتها شعوب تلك البلاد منذئذ.
في اليابان.. ذات رائحة كريهة
مع ظهور الفزَّاعة عند الإغريق والرومان، كانت الفزَّاعة في الحقبة نفسها تظهر أيضاً في الطرف الآخر من العالم: في اليابان. كان المزارعون اليابانيون ينحتون تماثيل من خشب، لحماية حقول الأرز. في البدء أخذوا ينصبون قصباً يعلِّقون عليه سجاداً قديماً، أو بقايا لحم أو سمك، ثم يحرقونه، فتصدر عن الحرق رائحة كريهة تنفّر الطير وغيرها من الحيوان، فتبتعد عن الحقل. وكان اليابانيون يسمون فزاعتهم: كاكاشي، أي الكريه الرائحة. لكنهم سرعان ما ابتكروا الفزَّاعة التي تشبه جسم البشر، ومع هذا احتفظوا بالاسم: كاكاشي، على الرغم من أن الفزَّاعة الجديدة لم تعد كريهة الرائحة، بل كانت تنفّر الطير خوفاً. وكانوا يُلبِسون الفزَّاعة رداءً من القصب وقبَّعة قش، ويحمّلونها القوس والنشاب إمعاناً في تخويف الطير.
وفي عصور لاحقة في إيطاليا، صنع المزارعون تماثيل ظنوا فيها قوة سحر خاصة. وكانوا يضعون على رأس التمثال جمجمة، اعتقدوا أنها تخيف الطير وتبعدها عن الزرع.
في العصور الوسطى..
الأولاد أولاً، ثم الفزَّاعات
لم تكن الفزَّاعة في العصور الوسطى، في بريطانيا من خشب ولا قصب، بل من لحم ودم. إذ كان المزارعون يستأجرون فتية في التاسعة عمراً، وكانوا يسمونهم مخوِّفي الطير. ومن عبارة: مخوِّف الغراب، (scarecrow)، سميت الفزَّاعة بالإنجليزية بهذا الاسم. كان الصبية يحملون أكياساً ملأى بالحجارة، ويطوفون متفقدين الحقول، فإذا صادفوا طائراً رجموه بحجر. غير أن وباء الطاعون الكبير الذي ضرب بريطانيا في سنة 1348م، وأباد نحو ثلث الشعب البريطاني، لم يترك لأصحاب الأرض فائض صبية للإيجار من أجل هذه المهمة. فخطر لهم أن يملأوا أكياساً قشاً وتبناً، ويرسموا رؤوساً ووجوهاً يضعونها على قمة الكيس، لتمثيل البشر، وتخويف الطير. وأما من بقي من الأولاد من صبية وفتيات على قيد الحياة، بعد الوباء، وعملوا في حماية الحقول، فكان على كل منهم أن يراقب فدانين أو ثلاثة فدادين. ولأجل ذلك استخدموا بدل أكياس الحجارة، أخشاباً صافقة تحدث جلبة قوية لإخافة العصافير. وظل هذا الأسلوب متبعاً في إنجلترا حتى أول القرن التاسع عشر، حين أقيمت مصانع وأنشئت مناجم فحم، فازدهرت الصناعة وأخذت تجتذب الأولاد للعمل فيها بأجر أفضل.
عند هنود أمريكا
عظام وأشلاء حيوانات
كان سكان أمريكا الأصليون قبل مجيء الأوروبيين، يحمون غلال الذرة، بوضع رَجل في الحقل لتخويف الطير. وكان معظم هؤلاء الرجال بالغين. وكانوا في ما صار اليوم ولايتي فيرجينيا وكارولينا الشمالية، يجلسون على منصة عالية في الحقل، ليلوحوا ويصرخوا لو اقتربت الغربان من الزرع. وفي ولاية جورجيا، كانت العائلات الأمريكية الأصلية تنتقل كلها إلى أكواخ تقام في الحقول، وتقيم فيها حالما يحين موسم الحبوب ونضجها. أما شعب سينيكا الذي كان موطنه ما صار اليوم ولاية نيويورك، فكان ينقع بذور الذرة في عصارة أعشاب سامة، كانت ترهبها الغربان، فتطير فزعة من الحقل وتنذر كل طير أخرى في شأنها.
وفي جنوب غرب الولايات المتحدة، كان أولاد شعب زوني، في أواخر القرن التاسع عشر، يتبارون فيمن يصنع أفضل فزَّاعة، وكان المزارعون يقيمون سياجاً من ألياف نبتة اليكة، حول الحقل لحماية الغلة. كانوا يدقون أوتاداً من خشب الأرز، يفصل بينها ما بين مترين وثلاثة أمتار، ثم يمدون بينها ألياف اليكة، ويعلقون على الألياف حُصُراً، أو أشلاء كلب، أو جلد قيوط (ذئب صغير أمريكي شمالي)، أو عظام رفش كتف حيوان، وحين يصطفق ما عُلّق، يصدر صوتاً يخيف الطير. وكان شعب نافاجو أيضاً يصنع الفزَّاعة، إذ كانوا يربطون دباً على منصة. وكان أداء الدب مهمة الفزَّاعة ممتازاً، على ما قال شاهد عيان عام 1930م.
المستوطنون الأوروبيون
حين بدأ الأوروبيون يفدون بكثرة إلى شمال القارة الجديدة أمريكا، في القرن السابع عشر، كانوا يقفون لحراسة حقولهم والغلال، من أجل بقائهم. وفي بليموث، بولاية ماساشوستس، كانت العائلة كلها تتناوب على الحراسة. ولم يكن عليها أن تخيف الغربان فقط، بل الذئاب أيضاً. كانت الذئاب تنبش حقول الذرة لأكل السمك الذي كان المهاجرون يدفنونه مع بذور الذرة تخصيباً للأرض.
في القرن الثامن عشر، زادت الحاجة إلى الحبوب في المستعمرات الأمريكية، ورأى المزارعون أنهم لا هم ولا الحراس كانوا يبلون بلاء حسناً في حماية الغلال، ولذا صارت مدن السواحل الشرقية الأمريكية تمنح مكافأة لكل من يحضر غراباً مقتولاً. وأفلح القرار هذه المرة لينشئ مشكلة أخرى، إذ قتل المزارعون الغربان التي لم تكن تأكل الذرة وحدها، بل تأكل الديدان التي تفتك بالذرة أيضاً. ولما تكاثرت هذه الديدان، عاد هؤلاء إلى إقامة الفزَّاعات، لتخويف الغربان، التي تبين أنها لم تكن كلها ضرراً.
وجلب مهاجرو الثمانينيات من القرن التاسع عشر إلى الولايات المتحدة معهم من أوروبا، أفكاراً جديدة للفزَّاعات. ففي بنسلفانيا، صنع المهاجرون الألمان فزَّاعة في شكل رجل، سموه بوتسامون، أو بوغيمان. وكان عبارة عن عمود خشب، مدقوق في وسطه عارضة أفقية، كأنها ذراعان ممدودتان. وكانوا يضعون على رأس العمود مكنسة، أو قماشاً يضم رزمة قش. وكانوا يُلبسون بوغيمان ثياباً رثة، وقميصاً بأكمام طويلة، يلعب بها الهواء لتخيف الطير. ويضعون على الرأس قبعة صوف مهترئة، ويلفون العنق بمنديل. وكانوا في أحيان يقيمون فزَّاعتين، «لتتآنسا». ولعل في هذا محاولة لجعل المشهد طبيعياً أكثر، وأشد خداعاً للطير. وقد زوَّج البعض بوغيمان، فصنع له فزَّاعة أنثى سميت بوتسفراو (Frau تعني بالألمانية زوجة) أو بوغيوايف (Wife بالإنجليزية أي زوجة)، تقف بجانبه.
وفي أزمة الركود الاقتصادي الكبير في أمريكا خلال ثلاثينيات القرن الميلادي الماضي، انتشرت الفزَّاعة انتشاراً شعبياً واسعاً، وكان يمكنك أن تجدها في كل مكان. وبعد الحرب العالمية الثانية، تحولت الزراعة إلى دنيا الأعمال الكبرى، ولم تعد الفزَّاعة تفي بالغرض، لحماية مئات الهكتارات التي تملكها شركة واحدة. عندئذ بدأ رش المبيدات على نطاق واسع، ولا سيما المبيد السام الذي اشتهر باسم «دي دي تي». وهو اليوم محظور استعماله، منذ أن اكتشف العلماء في الستينيات من القرن الماضي، أن استعماله ضار بمن يأكلون المزروعات التي استُخدم لحمايتها. وابتكر المزارعون عندئذ أدوات اصطناعية تلوِّح بأذرع مثل المراوح، لتخويف الطير. وابتكرت شركة بريطانية فزَّاعة آلية هي علبة لها أذرع، تقام على رأس وتد طويل. وتحتوي العلبة على أغطية تنفتح فجأة كل 45 دقيقة، وتحرك الأذرع صعوداً وهبوطاً. غير أن الصوت والصفق القوي الذي تحدثه الآلة أخاف العصافير والجيران في آن، فصرف النظر عن الآلة.
فزَّاعات اليوم
لا يزال فلاحونا اليوم يستعملون الفزَّاعة، لا سيما في الهند والبلاد العربية. وفي لبنان وسورية وفلسطين تنتشر الفزَّاعة في كروم العنب والتفاح والزيتون، فينصب المزارع خشبتين متصالبتين، قد يُلبسهما أو لا يُلبسهما ثوباً أو قماشاً، لثلاثة أغراض على الأقل: زيادة شبه الفزَّاعة للإنسان، وتعظيم حجم الفزَّاعة، وتزويدها عناصر متحركة تهزها الريح، كل ذلك لإيهام الطير بوجود بشر. وفي بعض القرى اللبنانية والسورية قد ترى شيخاً يجلس على كرسيه أمام بستانه، فما إن يلاحظ مجيء طائر ما حتى يلقي إليه بحجر.
وإذا كانت الفزَّاعة تحولت من وظيفتها، لتصبح تذكاراً جميلاً من زمن ولَّى، فإنها لم تختف من التقاليد. وفي العالم اليوم، تقام مئات المهرجانات والمسابقات، لعرض أجمل الفزَّاعات وأطرفها.
على أن الزمنين، القديم والحديث، التقيا عند أقدام الفزَّاعة على أمر واحد على الأقل. وهو أن القدماء أخافوا الطير ولم يقتلوها، فابتكروا هذا الابتكار الطريف. واليوم، بعدما وعت البشرية أن قتل الحيوان من قتل الإنسان، في كثير من الحالات، صارت حماية البيئة، والحيوان ركن أساسي فيها، من المبادئ التي ينشأ الطفل المعاصر عليها. وتتفق الفزَّاعة، التي تخيف ولا تضر، مع هذه الثقافة الجديدة التي تعشق البيئة، لأنها تخشى على مستقبل الحياة والإنسان.
كان اليابانيون يسمون فزاعتهم كاكاشي، أي الكريه الرائحة لكنهم سرعان ما ابتكروا الفزاعة التي تشبه جسم البشر، ومع هذا احتفظوا بالاسم كاكاشي، على الرغم من أن الفزاعة الجديدة لم تعد كريهة الرائحة، بل كانت تنفّر الطير خوفاً
جلب مهاجرو الثمانينيات من القرن التاسع عشر إلى الولايات المتحدة معهم من أوروبا، أفكارا جديدة للفزاعات ففي بنسلفانيا، صنع المهاجرون الألمان فزاعة في شكل رجل، سموه بوتسامون، أو بوغيمان
مظاهرها وأشكالها في اللغة والشعر
الفزَّاعة شكل بشر مشوَّه، أو هيكل أو تمثال. وفكرتها قائمة على أن كل تشوه يمكن أن يصبح مصدراً للخوف أو للسخرية .. فهو قابل للمعنيين معاً أو لأحدهما، على ما يرى بيرجسون. فالفزَّاعة، كخيال الصحراء، وكالقره كوز، تبعث الخوف في النفوس، لكنها قد تصبح أيضاً مصدراً للضحك في التشخيص والتمثيل (كحال الأجدب مثلاً).
الفزَّاعة
وردت اللفظة في كتب اللغة، وفي الشعر العربي القديم والحديث. ففي لسان العرب للإمام العلاَّمة ابن منظور الإفريقي المصري (630 – 711هـ) الفَزَع الفَرَقُ والذعر من الشيء، وهو في الأصل مصدر، فَزِعَ منه وفَزَع فَزَعاً وفَزْعاً وأفزعه وفزّعه أخافه وروّعه. وفزَّاعة كثير الفَزَع وفزَّاعة أيضاً يفزّع الناس كثيراً. فاللفظة صيغة المبالغة من اسم الفاعل من فزع، فهو فزّاع وفزّاعة، على وزن علاّمة. ويقال رجل علاّمة وامرأة علاّمة، كما يقال رجل فزَّاعة وامرأة فزَّاعة.
قال ابن الرومي:
أي حرزٍ فيهِ من الطيرِ انْ لو
جعلوهُ فزّاعةً في قَراحِ
فالحرز هو الموضع الحصين، وهو هنا الموضع الممنوع على الطير أن ينال منه، والموصوف كما لو أنه فزَّاعة موضوعة في قَراح. والقَراح الماء الذي لم يخالطه شيء، أو الأرض المخلصة لزرعٍ أو غرس. فالفزَّاعة في بيت ابن الرومي، هي شكل شبح أو تمثال يوضع في أرض لتفزيع الطير، وفيها حرز للأرض من أذى هذه الطير.
والفَزَع الخوف. قال ابن هرمة:
هذا قرينُكَ لم يمدحْك من فَزَعٍ
ولم يُخنْك وقِدْماً كانَ خَوّانا
قال الشاعر:
كُنا إذا ما أتانا صارخٌ فَزِعٌ
كان الصراخ له قَرْعُ الظنابيبِ
وقال ابن الرومي، راسماً بقلمه الساخر صورة مضحكة لشخص يهجوه، يشبهه بفزَّاعة للشيطان، ويشبِّه الشيطان بفزِّاعة للإنسان:
ناهيك بالشيطان من فَزَّاعةٍ
وابن استها فزَّاعةُ الشيطانِ
الفزَّاعة في الشعر الحديث
ورد في قصيدة «رجل، ظلّ، امرأة» من ديوان «أميرال الطير» (محمد علي شمس الدين)، عن دار الآداب 1992م، المقطع الثاني:
… ولكنني مَنْ أنا؟
لستُ حتى خُطايْ
خُطايَ أو الظِلّ
ظِليّ هزيلْ
وفوقي عصافيرُ منذورةٌ للرحيلْ
إلى أين؟
لاتتركيني هنا في انتظاري الطويلْ
وحيداً كفزَّاعة الطير عند المساءْ
إنني ها هنا من ثَلاثين عاماً
أرتّب هذا الفضاءَ لكي تسكنيه.
ففزّاعة الطير في النصّ، خيال شبح لتخويف الطير وإقصائها عن فضاء الحبيبة. وهي استعارة حديثة متطوّرة لمعنى قديم. وقد قام برسم الفزَّاعة الواردة على القصيدة الفنان حسن جوني من خلال رسم معبِّر.
الفزَّاعة – الخيال
ولعل المعنى المطابق تماماً للفزَّاعة، في العربية، هو الخيال. جاء في صحاح الجوهري: «الخيال خشبة عليها ثياب سود تُنشر أو تنصب للطير والبهائم فتظنّه إنساناً»… قال الأصمعي: «كانوا ينصبون خشباً عليها ثياب سود تكون علامات لمن يراها ويعلم أن ما داخَلَها حِمى من الأرض، وأصلُها أنها كانت تُنصب للطير والبهائم على المزروعات لتظنّه إنساناً ولا تسقط فيه».
قال الراجز:
تخالُها طائرةً ولم تطِرْ
لأنها خَيْلانُ راعٍ مُحتظِر
أراد بالخَيلان ما ينصبُهُ الراعي عند حظيرة غنمه، لحراستها…
ولعلّ من هذا معنى التمثيل هذا لكلمة الخيال في العربية، اشتُق خيال الظل وخيال المآتة، لفنون شعبية متطورة لا تزال رائجةً إلى اليوم. والفزّاعة في أحد معانيها هي الخيالُ عينه.
الأبنودي وخيال المقاتة المصري
من رصيد الشعر الحافل، كان ديوان الفصول لشاعر العامية المصري عبدالرحمن الأبنودي، هو المختار عند المترجم الفرنسي جان كلود رولان، عندما قرر أن يترجم إحدى قصائد الديوان في إطار نشاط المركز الفرنسي للترجمة بالقاهرة، إذ وقع اختياره على إحدى قصائد الأبنودي الأقل شهرة، والأشد خصوصية، قصيدة «موت خيال المقاتة»:
يا عم يا صاحب المقات
خيال مقاتك مات
بتنعق الغربان طول اليوم
تيجي صفوف من فوق سجرة الدوم
لا بتترك الطابية ولا النيّة
متوكل على الله إنت وعليّا..
لحد ما خلص المقات،،،
يلعب الأبنودي هنا لعبة الجناس الذي ينقص حرفاً وحيداً، فالمقات غير المقاتة، الأولى هي الكؤوس التي تستخدم للشرب، والثانية «المقاتة» هي لفظة فصحى، ففي لسان العرب «المَقْتُ بُغْضٌ عن أَمر قبيح رَكِبَه، فهو مَقِيتٌ؛ وقد مَقُتَ إِلى الناس مَقاتةً»، لكن المقاتة في مصر ارتبطت بالخيال، في مصر خيالان: خيال الظل، وخيال المقاتة، الأول يلاعب الصغار وكان أساساً للفنون البصرية، كما فعل الأراجوز مع الدراما الشعبية، أما خيال المقاتة فيخوِّف الصغار والطير أيضاً، يبغضهم ويبغضونه كما يقول المعجم «فيمقتوه مقاتة»، وهو أقدم بكثير من كل الألعاب، ومن معظم الفنون.
ينطقه المصريون مآتة، بالهمزة الممتدة بدلاً من القاف: خيال المآتة، ولذلك دلالة تشي بعراقة الموصوف، فالكلمات التي تدل على معان جديدة مثل الديمقراطية مثلاً، ينطقها المصريون بحرف القاف كما هو، أما الألفاظ التي تشير إلى أشياء اندمجت بتاريخ المصريين، فيسري عليها قانون تحويل القاف إلى همزة، وهل ثمة ما هو أقدم في مصر من خيال المآتة؟
منذ 14 ألف عام عرف المصريون الزراعة قبل أن يعرفوا الدولة، في الجنوب وعلى تخوم الدلتا التي احتضنت وقتئذ 7 أفرع للنيل، طوّر القدماء أدوات حجر استخدموها في أول زراعة منظمة في التاريخ. ففي الألف الخامس قبل الميلاد تأسست الدولة المصرية القديمة موحّدة الممالك والآلهة، والأهم أنها وحّدت نظم الري، ووضعت خططاً لزرع محاصيل بعينها في مواقيت معينة، ونظَّمت نقلاً نهرياً على النيل العريض، وظهرت أولى الأدوات الزراعية المركبة، الشادوف للري، والمزارة لحصد القمح، والمناضيل لتنقية المحاصيل. وارتكن الفلاح المصري إلى أرضه في وادي النيل محصوراً بين صحراءين، وظل هناك حتى يومنا هذا يستقبل الهجرات المتوالية من الشرق والشمال والجنوب. واجتهد في استصلاح أرضه وعزقها، وقاوم بيديه الديدان والقوارض، لكنه اضطر إلى البحث عن وسيلة أعقد وأبسط لمواجهة الهجمات التي تشنها الطير على الزرع، فوجد حلاً من خشب وقش وأسمال، يبدو إنساناً كما يصوّره الأبنودي في قصيدته:
زغزغ جنابي الريح ما ضحكنيش
هز الخشب والخيش ..
ياللي رفعت إيديا للسموات ..
ما تهزني يمكن أكون مسموم ..
حرّستني غيطك يا شين مافعلت
يرسى على كتفي الغراب والبوم
يبولوا فوق كتفي
ويحوموا ويغطّوني نعق وريش
وانا باصرّخ بس كيف تعرف؟
صوت الخشب مكتوم ..
نعم، صوت الخشب مكتوم، لذا لا يخدع خيال المقاتة طير الحقل طويلاً، هو المصنوع من عصاتين متقاطعتين، الأولى تمثِّل البدن الواقف والثانية تتقاطع أفقياً عليها كأنها الذراعان. ربما استبدلت أعواد القش الجافة بالعصي، المهم أن يبدو خيال المقاتة رجلاً بعد أن يلبسوه أسمال الخيش أو الجلباب الواسع، هو لا يخدع الطير فقط وإنما قد يخدع الناس أيضاً من بعيد، ويخدع ركاب قطارات الدلتا التي تمر في قلب المسطحات الخضر، تقترب الغربان من أرض الحقل قبل أن ترى خيال المقاتة فتولِّي هاربة. البعض يتفنن في تصميم زيّ المقاتة، يلوِّنه ألواناً عديدة زاهية، يربط قماشاً حول رأس عود القش كأنها عمامة، حتى لو عرفت هوية الذي يقف في قلب الحقل وقد أحنت الرياح عوده قليلاً فإنه يظل مخيفاً بعض الشيء، أشبه بشبح في أرض مهجورة، لكن الطير بعد حين تدرك الخدعة، فيطوِّرها الفلاح، يجلب علباً صغيرة وخفيفة من صفيح، يعقدها بحبل ويعلقها في عنق خيال المقاتة، تهب الريح فتصطفق العلب، وتصدر قرقعة لم تعتدها الطيور من القش والخش، تظن الواقف رجلاً فتبتعد من جديد، حتى تعتاد الخدعة الجديدة، فتعود كرّاً وفراً منذ ألوف السنين وإلى غد غير منظور.
هكذا يقف خيال المقاتة رمزاً للعبة لا تنتهي، في البلد الذي ضم أقدم سلطة مركزية في التاريخ، يحلو لبعض الناس أن يتصوروا خيال المقاتة في كثير من مناحي الحكم والدولة، ويراه آخرون نموذجاً للكفاح السيزيفي عند الإنسان المصري، أنهار دم وعرق، وصروح آلام إذا بها تنتهي أشباحاً متراصة من خيالات المقاتة، لا تحمي حقوقاً ولا ترد ضرراً، هبات متوالية تبدأ قوية تخيف الجوارح، ثم تنتهي إلى ذكرى لا تخدع العصافير. يقف تحت الشمس خيال المقاتة في محل الفلاح، تعباً ومظلوماً ومكدوداً مثله، ينظر إلى السماء مردداً مع الأبنودي:
سوّست ودراعاتي لسة لفوق
ولسه طربوشي على راسي
وانت اتّكلت عليّ يا شين ما فعلت
أنا متّ تحت الموت
آه لو تبصّ مكان عينيا لفوق
آهو بالأمارة .. فيه غراب بيحوم
أنا وهو في المقات .. بنبات.
فشل الفزَّاعة في الصين
في يوم السبت 2 جمادى الآخرة 1378هـ، 13 ديسمبر 1958م، شنَّت الصين حرباً ساحقة على عصفور الدوري. كانت الرؤية السياسية ترى أن تعاظم تعداد الشعب الصيني، وضرورة توافر الغذاء له، يحتمان حماية غلال الحبوب في الحقول، من كل من يسطو عليها، من جرذان وفئران وطير. لم تكن الفزَّاعة قد أرضت المسؤولين في حماية الغلال. إذ كانت الطير قد تعودت هذه الحيلة البشرية، وصارت بدل أن تخاف الفزَّاعة، تحط عليها، وكأنها صُنعت لأجل راحتها… فقرر المسؤولون آنذاك تجييش الصينيين في حرب لم يسبق لها مثيل، على ما يذكر التاريخ، للقضاء على عصفور الدوري، آكل حبوب البشر.
ما قصة هذه الحرب التي قدَّر البعض أنها قتلت في يوم ما يزيد على 8 ملايين عصفور؟
لقد صدرت في شانغهاي، المدينة الصناعية الكبرى في الصين، صحيفة ذلك اليوم، وهي تروي قصة الحرب في واحدة فقط من المدن الصينية، على النحو التالي:
في صباح يوم 13 ديسمبر، بدأت المدينة الحرب للقضاء على عصفور الدوري. كانت الأعلام الحمر تلوّح في الشوارع الكبيرة والصغيرة على السواء. فوق المباني، وفي الساحات والأماكن الخالية والطرق وحقول الريف، كان ألوف من المتطوعين لتخويف الطير والحراس الرسميين وتلاميذ المدارس الابتدائية والمتوسطة وموظفي الحكومة وعمال المصانع والفلاحين وجنود الجيش الشعبي الصيني، يصرخون بصرخات الحرب التي يشنونها. وفي حي شنتشنج وحده أنتج العمال بين ليلة وضحاها، أكثر من 80 ألف فزَّاعة و100 ألف بيرق ملون. وفي المدينة وضواحيها، جُنّد نصف اليد العاملة، في الجيش المستنفر للحرب على الدوري. وكُلّف الجيل الشاب نصب الأفخاخ ووضع السموم ومهاجمة عصافير الدوري، فيما كُلّف الشيوخ والأطفال الخفارة والحراسة. وتعهدت المصانع المشاركة في الحرب، بعدم خفضها الإنتاج، على الرغم من انصراف معظم العمال إلى حربهم على الدوري. وأنشئت مناطق عديدة تنيف على 150 منطقة، سُمح فيها بصيد الدوري بالبنادق. ودُربت فتيات مدارس ننيانج على الصيد بالبندقية لهذا الغرض.
قدرت المؤسسات الرسمية أن كل عصفور دوري يأكل من الحبوب 4 أرطال في السنة. أما عدد الذين شاركوا في الميدان في قتل العصافير، فقدر بأكثر من ثلاثة ملايين شخص. وفي الثامنة مساء اليوم، قُدر عدد العصافير التي قتلت بنحو 194432 عصفوراً (في شانغهاي ومنطقتها).
انتهت مذبحة العصفور الدوري في الصين، سنة 1959م، عندما أعلن علماء مجمع العلوم الصيني رأيهم العلمي، وكان منهم زو تشي وجنج زووتشين. إذ حلل العلماء محتوى أمعاء العصفور الدوري، فوجدوا أن ثلاثة أرباع هذا المحتوى حشرات ضارة. أما الربع الباقي فمما يأكله البشر. وأثبتوا بذلك أن العصفور الدوري مفيد في الأساس للإنسان.
واليوم تبدَّل الحال كثيراً في الصين. فإبادة الدوري اضطرت المزارعين إلى استخدام كثير من السموم والمبيدات لمكافحة الحشرات التي كان العصفور يأكلها. وظهر بوضوح أن الضرر من قتل الدوري أشد وأفتك من تركه ينظِّف الطبيعة من الحشرات. وأقيمت ألوف المحميات الآن في أرجاء البلاد. بل ان الشعب الصيني يحتفل في كل أبريل من العام، بأسبوع شعاره: نحب العصافير.
جاء في يوميات كاتب المقال، التي دونها في قرية هوجيا، في ذلك اليوم من سنة 1958م:
«في هذا اليوم قررت حكومة المدينة أن تقتل عصافير الدوري، في المدينة والجوار الريفي. في الصباح انقسمنا ثلاث فرق، لشن الحرب. تسلقنا مع زملائنا التلاميذ شجراً عند جانب الطريق، وأطلقنا العنان لأبواقنا وأجراسنا وطناجرنا، وكل ما كان يمكن أن يصدر صوتاً قوياً. واضطرت عصافير الدوري إلى مواصلة الطيران، حتى سقطت على الأرض ميتة إعياءً. ولو سمح بتشريح العصافير الميتة، لراهنت على أن %90 منها ماتت من سكتة قلبية مفاجئة (خوفاً أو إعياء). ووزعت الحكومة على المشاركين في الحرب أوراقاً لكتابة أغنيات شعبية، في سنة 1958م. لدينا 90 ألف مدينة في الصين. ولو كتبت كل مدينة مجموعة أغنيات، لصار عندنا 90 ألف كتاب أغنيات. في يوم الحرب على الدوري، كتبت أغنية شعبية. وإذا كنتَ لا تستطيع أن تكتب أغنية شعبية فعليك أن تعوض بفعل آخر. لقد جُنّد الشعب كله في هذه الحرب، وأبيدت عصافير الدوري وهرب البعوض إلى فوجيان، واختبأ الذباب في جوانج دونج» (كانت الحكومة تسمي البعوض والذباب والدوري والفئران الأوبئة التي ينبغي القضاء عليها).
الفزَّاعة في السينما
من الرمز إلى المدفن
من ناحية مبدئية، يمكن للمرء أن يفترض وجوداً قوياً للفزَّاعة في سينما الرعب، تحديداً في بعض أفلام ألفرد هتشكوك. ذلك أن لهذه الدمية التي تنتصب في المناطق الزراعية على شكل إنسان يغطى بالأسمال وينشر ذراعيه في الريح، قدرة على إثارة الخوف، ولا سيما في الليل أو عند الغسق لا خوف الطير التي توضع الفزَّاعة لإخافتها فقط، بل البشر أيضاً، حتى وإن كان هؤلاء يعرفون سلفاً أن هذا الشبح الواقف وحيداً في الليل، ليس سوى دمية جامدة. إذ انطلاقاً من هذا المظهر المرعب قد يفترض المرء أن الفزَّاعة حضرت بالفعل في عدد كبير من الأفلام. لكن الحقيقة عكس هذا تماماً: لم تحضر الفزَّاعة كثيراً. بل لعل الأغرب من هذا أن ثمة من الأفلام الأنجلوساكسونية الثلاثة التي ترى كلمة «فزَّاعة» في عناوينها، فلماً واحداً الفزَّاعة شخصية حقيقية فيه، مشاهدة وفعلاً. أما الفلمان الآخران فإن فزاعتهما رمزية لا أكثر.
ففي فلم جيري شاتزبرغ الأشهر وعنوانه «فزَّاعة» (1973م) ليس ثمة فزَّاعة على الإطلاق. للفزَّاعة فقط حضور معنوي يرد ضمن حوار بين شخصيتي الفلم الأساسيتين اللتين يلعب دوريهما جين هكمان وآل باتشينو. وهما صديقان هامشيان يقومان برحلة معاً، يتخاصمان ويترافقان ويجمعهما توق مشترك إلى مجابهة الظروف التي تقسو عليهما، لكن هذه الظروف، التي تكون لهما الفزَّاعة الكبرى، تنتصر في النهاية ولكن على وجودهما المادي، منهزمة أمام الصداقة التي تجمعهما. وفي فلم «الفزَّاعة» (1981م) النيوزيلندي، من إخراج سام سلزبري، وهو فلم يصنف في مستوى جيد، يراوح حضور الفزَّاعة بين بعد مادي-بصري شكلي صرف، وبعد معنوي رمزي، في سياق قصة تتحدث هي الأخرى عن الصداقة، ولكن بين مراهقين يعيشان واقعهما وأحلامهما، والزمن المقبل عليهما على شكل فزَّاعة تحضر في كوابيس كل منهما أكثر كثيراً مما تحضر في حياتهما اليومية. مرة أخرى إذن، تصبح الفزَّاعة معنى لا مبنى. ويتجاوز الانتصار عليها الخوف منها، ويصير جزءاً من صراع الإنسان مع قدره.
في مقابل هذا، هناك فلم يحمل عنوان «الفزَّاعة» حققه ويليام ويسلي سنة 1988م، ولا يعد على أي حال من الأفلام المميَّزة في تاريخ السينما، غير أن قيمته عندنا في موضوعنا هذا، أن فيه حضوراً حقيقياً وفاعلاً لعدد لابأس به من فزَّاعات نصبت في حقول الذرة. يستولي لصوص على مال كثير، كان على متن طائرة خطفوها. ثم تهبط الطائرة بالخاطفين اللصوص وبالركاب الرهائن في الحقول ليلاً. وتبدأ بالتوالي مجموعة جرائم يروح ضحيتها لصوص حيناً وركاب حيناً آخر، ويعثر بعد مقتلهم على جثثهم منتشرة وقد ملئت الأجساد تبناً. ويتبين في النهاية أن الفاعل هو الفزَّاعات نفسها… والحقيقة أن هذا الفلم الأخير، على الرغم من سذاجة موضوعه، يعد من أبرز الأفلام التي استغلّت صورة الفزَّاعة الماثلة في مخيلة البشر العاديين، ولا سيما من أهل المدن الذين يندر أن يعرفوا عن الفزَّاعة غير ما يروى عنها وعن حكاياها، التي يتناقلها الناس، وهي في الغالب تتجاوز حقيقة هذه الدمية.
وإذا كانت السينما أخفقت دوماً في تصوير جوهر الخوف من الفزَّاعة في أفلام ذات قيمة كبيرة، فقد يصح أن نشير هنا إلى أن ثمة أفلاماً كثيرة من الخط التجاري… استخدمت الفزَّاعة أداة تخويف مجوفة المعنى، ومن دون أي بعد فلسفي. ولكن يمكن القول في المقابل إن الإنسان قد طوى دوماً هذه الأفلام وفرَّج الله كربة الذين أرعبتهم.
فزاعة بغدادي
للوصول إلى عمل فني حقيقي يجعل من الفزَّاعة بطلاً أساسياً له، سيكون مدهشاً أن نتوجه إلى مخرج لبناني هو الراحل مارون بغدادي. فبغدادي خلال إقامته في أوروبا – فرنسا على الخصوص – في سنوات عمره الأخيرة، أنجز لحساب التلفزيون الإنجليزي واحداً من أقل أفلامه ذاتية وأكثرها ابتعاداً عن الحرب اللبنانية، التي هجس بها القسم الأكبر من أفلامه. ويعزى ذلك إلى أن هذا الفلم الذي صوره في لغة سينمائية، على الرغم من أن إنتاجه كان تلفزيونياً، مقتبس من قصة قصيرة لكاتبة الأدب البوليسي الشهيرة باتريسيا هايسميث. وعنوان القصة «بطيئاً بطيئاً في الريح». فيما كان عنوان الفلم «الفزَّاعة». هنا في هذا الفلم تلعب الفزَّاعة دوراً أساسياً في الأراضي الزراعية التي يملكها ثري غريب الأطوار اسمه أدوارد سكريتون، استخدمها مدفناً لشخص قتله لأنه أقام علاقة مع ابنة الثري. لقد خبأ سكريتون الجثة داخل الفزَّاعة، لتصبح هذه الأخيرة شخصية الفلم المحورية. ويرى القاتل مجموعة شبان عابثين يقتربون من الفزَّاعة ليعبثوا بها، فيخيل إليه أن جريمته انكشفت فينتحر دون أن يدري أن خادمه الأمين الذي كان يرى كل شيء، انتزع الجثة من داخل الفزَّاعة ودفنها في مكان آخر.
على هذا النحو يكون مارون بغدادي اللبناني، قد قدَّم أعمق استخدام سينمائي للفزَّاعة وفكرتها: شخصية وظيفتها إثارة الفزع، لكنها من الداخل خالية خاوية… بريئة من أية إثارة للرعب. والمؤكد أن في هذه الجدية الجديدة بين دور الفزَّاعة وكينونتها، وبين مظهرها وجوهرها، تكمن إمكانات بصرية وسردية كبيرة، غريب أن السينما لم تستغلها كما يجب، وأغفلت التعامل معها رمزاً أو وحشاً غير منطقي، أو أخيراً تشكيلاً بصرياً، لا تحمل خلفيته أي بعد حقيقي.
مهرجانات الفزَّاعة في العالم
لم تعد الفزَّاعة، وهي الوسيلة البيئية اللطيفة، لحماية الحبوب والثمار من الطير، تتولى هذه المهمة في البلاد الصناعية منذ ثمانينيات القرن التاسع عشر الميلادي. إذ بدأ حينئذ استخدام وسائل صناعية وكيميائية، معظمها تبيَّن أن ضرره أكثر من نفعه. فلا يكتفي بقتل الطير المفيدة، بل يسمم البيئة بالكيمياء غير المأمونة الجانب.
لكن لنعد إلى أواخر القرن التاسع عشر، عندما تحولت الفزَّاعة إلى تراث شعبي وفني ظريف، يحظى باهتمام شعبي واسع في العالم. حتى أن مئات المهرجانات في العالم، تنظم كل سنة، فيأتي الفلاحون والفنانون والتلاميذ وهواة العروض وزوار فضوليون وعائلات، لمشاهدة آخر ما ابتكره الناس في صنع الفزَّاعة.
ففي تشابل هيل بولاية تكساس الأمريكية، تنظم الجمعية التاريخية في البلدة في آخر الأسبوع الثاني من شهر أكتوبر كل عام، مهرجانا للفزَّاعة، يحضره نحو 250 عارضاً معتمداً، من خبراء تزويق المنازل والبساتين والجنائن والحرفيين والموسيقيين والصاغة ومصممي الملابس، ليعرضوا آخر مبتكراتهم الطريفة من الفزاعات. ويضم المعرض زوايا لمختلف الأطعمة الريفية وزوايا لعروض تسلية وموسيقى، ويتيح للأولاد ركوب المهور أو مشاهدة حظائر الحيوانات الأليفة.
كذلك يتخذ رسامون زوايا يزورها من يشاء، ليرسم على وجهه بالألوان ما شاء له من رسم، تشبها بالفزَّاعة. وفي المعرض قطار كهربائي، يدور بركابه، ومعظمهم أطفال، على المعرض وأرجائه. وفي المعرض زوايا للصور الفوتوجرافية، في موضوع الفزاعات وأشكالها المبتكرة في العالم.
فزاعات في القرية
وفي قرية هاربول بولاية ماساشوستس الأمريكية أيضاً، ينظِّم السكان مهرجانا للفزَّاعة في سبتمبر من كل عام. فيوزِّعون الفزاعات على اختلاف ألوانها وأشكالها، في مختلف أرجاء القرية، ويكون فنانو هاربول أنفقوا وقتهم في ابتكارها، استعداداً للمهرجان. وتتقاضى بلدية القرية دولارين من كل زائر بالغ، أما الأولاد فدخولهم القرية في الموسم مجاني. وتباع المرطبات، وتنظم مسابقات على أنواع، ورحلات بحافلات مكشوفة السقف، في القرية وجوارها. ويقام قصر ألعاب للأولاد، يتفنن المصممون في تنويعها. ويرسم الرسامون على وجوه من يشاؤون، ويتبارى الزوار في رسم أجمل فزَّاعة، من أجل تنفيذها. ويتسابق الأولاد على الدراجات الهوائية، وتوزع عليهم البالونات الملونة. كذلك يقيم فنانو المنطقة معارض للوحاتهم. ناهيك عن التسوق.
الطريق إلى البيت
وفي أبريل من كل عام تنظِّم قرية مورنجهم الفرنسية الشمالية المتاخمة للحدود البلجيكية، مهرجانا للفزَّاعة. وقد خطرت الفكرة في سنة 1989م. إذ إن سكان القرية استفاقوا ذات يوم من أيام ذلك العام، ليجدوا الطرق ملأى بالفزاعات، من كل نوع وشكل. وقرر رئيس بلدية القرية يومئذ أن تنظِّم بلديته كل عام مهرجاناً في أبريل.
أما من الذي وضع الفزَّاعات في القرية أول مرة، فهو أمين سر البلدية، وكان يريد أن يستقبل زواراً لا يعرفون موقع منزله. فأبلغهم أن يلحقوا طريق الفزَّاعات، وأقام الفزَّاعات ليدلهم على المنزل. ولعل هذه الفكرة أطرف من فكرة المهرجان نفسها، إذ إن عشرات المهرجانات تقام لهذا الغرض في فرنسا وبلدان العالم. لكن أحداً لم يفكر ربما بالفزَّاعة في هذه المهمة الجميلة.
وفي إنجلترا تقع قرية راي الصغيرة التي لا يزيد عدد سكانها على 500، على ضفة نهير اسمه ريبرن، في مقاطعة لانكشير. وهي تنظِّم مهرجاناً للفزاعات في أواخر شهر أبريل، وأوائل شهر مايو، في باحة مدرستها. وبعد المهرجان تبدأ السوق السنوية التي يتقاطر عليها البائعون والمشترون من كل صوب. ويمتاز مهرجان راي للفزَّاعة بتنظيم مسابقة رسم وتلوين.
ويمكن الاستدلال على قدم المباني في راي، بشاهد تاريخ البناء على حجر عند مدخل كل مبنى. كانت القرية في القرون الماضية شهيرة بصنع القبعات والمسامير وبكرات الخيطان، وورثت من ماضيها هذه الحرف التي صارت من التراث الشعبي الآن. ويصنع الحرفيون في القرية الكثير من الفزَّاعات للمهرجان كل سنة، حتى صارت راي شهيرة به. ويحتفظ صانعو الفزَّاعات بسرهم إلى آخر لحظة، ويرقونه إلى مستوى الأسرار العسكرية التي يجب ألا يماط اللثام عنها. ففي السنة 2006م كان موضوع الفزَّاعات بطولة العالم لكرة القدم. ولم يعرف أحد به سوى في آخر لحظة.
الفزَّاعة المتحركة
ومع تحوّل الفزَّاعة، التي لم تعد تفزع أحداً، ولا حتى العصافير، إلى مجموعة من الفنون والتقاليد ومسوغا للاحتفال، تفتقت عن مخيلة الفنانين كل الأفكار التي يمكن تصورها. ففي كانبيرة، عاصمة أستراليا، ينظم مهرجان كورايونج للفزَّاعة، على أسلوب مبتكر. إذ يشيَّد بيت فيه بشر وحيوانات من كل صنف، لكنهم جميعاً دمى، إلا أنها دمى متحركة، وكأنها صنعت لإفزاع الطير فعلاً. لكن هذا المهرجان، يستخدم حماراً حياً، يلبسه قبعة قش وملابس مزركشة، ليشارك في العرض. والفكرة هي أن هذا البيت مكانه الحقل، لإيهام الطير والقوارض، بأن الحقل مسكون.
قذف القبقاب
تنظِّم اليابان مهرجانها الوطني السنوي للفزَّاعة في منتصف شهر سبتمبر، في مدينة كامينوياما، بولاية ياماجاتا. اسم المهرجان: كاكاشي ماتسوري، أي مهرجان الكاكاشي. ففي اليابان كان الزراع يقيمون الفزَّاعة في حقل الأرز لمنع الدوري من أكل النبتة الجديدة. وفي المهرجان يأتي الزراع من كل أنحاء اليابان، لعرض آخر مبتكراتهم من الفزاعات المضحكة. ومنها دمى رجال السياسة أو مذيعي التلفزة المشاهير.
لكن أطرف ما في مهرجان اليابان هذا، مسابقة لقذف القبقاب، نعم قذف القبقاب. إذ يحتذي كل متبار في رجليه قبقابا، ويقف عند خط، ثم يقذف قبقابه من رجله بأقوى ما يستطيع. ويكسب من يقذف قبقابه أبعد من الآخرين. ويُعتَقد أن أصل هذه المسابقة أن المزارع كان حين يراقب حقله، يضطر أحياناً لقذف العصفور الغازي بالقبقاب الذي في رجله، لطرده.
الفزّاع في بلاد أوز
حين يتفوق اللاشخص على البشر السوي
الفزَّاع شخص في بلاد أوز السحرية التي صورها الكاتب الأمريكي ل. فرانك باوم، والرسام وليم والاس دنزلو. ويعلن الفزَّاع في ظهوره الأول أنه يفتقر إلى دماغ، ويسعى بكل تصميم في الحصول على واحد.
في رواية ساحر أوز المدهش، التي كتبها باوم سنة 1900م، يلتقي الفزَّاع دوروثي جيل، في حقل في بلاد مونشكين، في طريقه إلى مدينة الزمرد. وينضم إلى دوروثي. ثم ينضم إليهما فيما بعد تين وودمان، والسبع الجبان. وبعدما أنجزت دوروثي مع أصدقائها مهمة قتل ساحرة الغرب اللعينة، أعطى الساحر الفزَّاع دماغاً، مصنوعاً من نخالة ودبابيس وإبر، وهو في الحقيقة ترضية لإسكاته. فالفزَّاع كان أذكى المسافرين جميعاً. ولذا عيَّن الساحر، قبل مغادرته بلاد أوز في بالون، الفزَّاع حاكماً ينوب عنه في غيابه.
لقد تناقضت رغبة الفزَّاع في الحصول على دماغ مع سعي تين وودمان في الحصول على قلب. وقد نشب بذلك جدل في أي الأمرين أفضل، العقل أم العاطفة. وصار سجال فلسفي بين الصديقين، ليفسر كل منهما سبب تفوق اختياره على اختيار الآخر. لكن أياً منهما لا يُفلِح في إقناع صاحبه. وعجزت دوروثي، وهي تستمع، عن قول أي منهما كان على حق. ويشاء الرمز أن يبقى كلاهما مع دوروثي. فهي بحاجة إليهما معاً، ولا حاجة لها باختيار أحدهما وترك الآخر.
توسع الأساتذة الدارسون للأدب، في شرح معاني القصة الرمزية، ولا سيما الجوانب السياسية التي كانت تشغل الرأي العام في تسعينيات القرن الميلادي التاسع عشر. بل إن الفزَّاعة كانت رمزاً شائع الاستخدام في تلك الحقبة، لأغراض مختلفة. فكان الكتَّاب يستخدمونها ويحبكون القصص عليها، ويؤسسون للعبر والدروس بواسطتها، لاتساع مجال استخدامها. فهي إنسان مصطنع غير كامل، وقد يفتقر إلى قلب في قصة، وإلى عقل في أخرى، وربما إلى الشجاعة في غيرهما، أو الثقة بالنفس. ومع إن قصة باوم كتبت للأطفال، إلا أن كاتبها أشار في المقدمة، إلى أنها قصة سحرية «معصرنة» أيضاً.
والذين يستنطقون قصة ساحر أوز المدهش، معاني سياسية، غالباً ما ينظرون إلى الفزَّاعة على أنها شخصية مركزية، يعرفها جيداً الفلاح الأمريكي، ويعرف أنها مجرد أسطورة، لكنها تحمل في طياتها صوراً قابلة للحبك والتأليف والخيال الرحب، وأنها لا يعوزها سوى «الثقة بالنفس» لتكون كائناً غنياً بالمعاني والعبر والمرونة ما يجعلها طوع خيال أي كاتب جموح.
في قصص أخرى يظهر الفزَّاع، ملكاً على مدينة الزمرد، لكن ينقلب عليه اللواء جنجور وجيشه. ويُفلح في النجاة، ويسعى في طلب العون من جلندة وجود. وتكون قصته مجالاً لقول آرائه في التربية والشؤون الأخرى، فيميل إلى الحث على أكل الحيوان طعاماً، مع إنه يجمع الجوز لإطعام رفاق سفره، فهو لا يأكل.
وفي قصة «الطريق إلى أوز»، يُعترف للفزَّاع بأنه، على الأقل في نظر تين وودمان، أوسع الناس حكمة في كل أوز. ولعل في هذا حثاً على اتباع أقواله ونصائحه. وفي قصة: دوروثي وساحر أوز، تطري دوروثي نفسها حكمة الفزَّاع وتقول إنه كان يبدو حكيماً من قبل أن يعطيه الساحر العقل الذي سعى إليه.
لقد كانت الفزَّاعة، بكونها «إنساناً» فارغ المحتوى مبدئياً، فرصة ليعبئه كل كاتب وروائي ما شاء من مشاعر وحكمة وسلوك، فصار «اللاشخص» شخصاً غنياً بالعبر والدروس والمعاني، أكثر مما يحتمل البشر السوي في الحياة الحقيقية.