ديوان اليوم

بعيداً عن التجني..
القديم حافل بالجمال والقيم

  • 78a

قيل عن الشعر القديم، ونعني الشعر الجاهلي وبداية العصر الإسلامي، إنه لم يحمل براعة في موضوعاته. وقيل إنه يدور حول معانٍ متكررة. وقيل عن الشعراء القدماء إنهم لا يحلِّلون عواطفهم، ولا يعرفون التغلغل إلى خفايا النفس الإنسانية؛ وقيل أيضاً إن ألفاظهم خشنة، موحشة كحياتهم البدوية وعالمهم البدائي!
ربما كان هذا صحيحاً إذا ما نظر إلى ذاك الشعر بواحد من مناظير النقد المتعددة. لكن لنجاح طلعت رأياً آخر في ما قرأت من الشعر القديم تحدثنا عنه هنا.
لفتتني في الشعر القديم نواح استثنائية في روعتها وتأثيرها. فهناك شعر كثير فيه معانٍ ووقفات إنسانية رائعة؛ زاد في روعتها، دون شك، صدق العاطفة.

وهنا، جئت ببضع أبيات، استوقفتني وطالما أعدت قراءتها، وهي ليست سوى نماذج لما يحويه الشعر القديم من قيم وجمال.

في الوقوف على الأطلال
نعرف أن الشاعر في العصور المتقدِّمة كان يبدأ قصيدته بالوقوف على الأطلال وذكر الأحبة النازحين عن الديار، وأن هذه المطالع اختفت تدريجياً مع الزمن وحلَّت محلها أبيات تتناول موضوعات حضارية، أو خواطر أو آراء حكمية وما شابه ذلك. لكن على الرغم من كل الاحتفاء الذي حظيت به مطالع المتنبي أو أبي تمام، على سبيل المثال لا الحصر، لا أرى أن قول المتنبي:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم
وتأتي على قدر الكرام المكارم
أو قول أبي تمام:
السيف أصدق إنباءً من الكتب
في حدّه الحدّ بين الجد واللعب

لا أرى هذين البيتين أعمق وألصق بالنفس من قول الشاعر واقفاً على أطلال حبيبته:
حَيّ المنازلَ، بين السَفح والرُّحُبِ
لم يبق غيرُ وُشوم النار والحَطَبِ

فانظرْ إلى هذا الاستهلال الخطابي المقتضب الرنّان: حيِّ المنازلَ! وانظرْ إلى ما تحمله هذه الدعوة من لهفة ومحبة واندفاعة إنسانية حالما يقع بصر الشاعر على منازل أحبته بين السفح و الرحب . ثم قارِن كل ذلك بتلك النغمة الحزينة اليائسة المحبطةعندما لا يجد الشاعر من تلك المنازل سوى ما بقي من آثار النار والحطب والمواقد! لقد عبَّر الشاعر بهذه الكلمات القليلة عن عاطفتين صادقتين متناقضتين يثيرهما منظر واحد، ألا وهو منظر المكان أو ما كان عليه المكان الذي كانت تنزل فيه الحبيبة.

في وصف الحبيبة والناقة
في القصيدة نفسها يأتي الشاعر على وصف
الفتاة التي يحبها. يقول إنها بيضاء، مدللة،
بَرَهرهة أي بشرتها صافية اللون، تتزيَّن بالدر
والذهب، وهي حوراء العينين، كبيرة العجيزة،
محافظة على شرفها، هيفاء القد، ورُعبوبة أي ممتلئة الجسم إلى جانب كونها معتدلة الخلق (ممكورة القصب).

نعم… هي صفات معروفة ومكررة، لا جديد فيها، كما يتبادر إلى أذهان كثير من القرَّاء… ولكن لنسمعها كما أتت شعراً في هذين البيتين:
مِن كلّ بيضاءَ، مِكْسالٍ، بَرَهرهةٍ،
زانَتْ معاطلها بالدُرّ والذهَبِ
حَوراءَ ،عَجْزاءَ، لم تُقذَفْ بفاحشةٍ،
هيفاءَ، رُعْبوبَة، مَمْكورةَ القَصَبِ

نعجب لحشد هذه الصفات على هذا النحو المتلاحق المتناغم. لقد أبت عاطفة الشاعر الدفَّاقة إلا أن يسبغ على حبيبته كل ما يتخيله من محاسن قد تسبغ على المرأة.

ونتابع القراءة في القصيدة فيستوقفنا بيتان في وصف الناقة نراهما صدىً للبيتين السابقين:
من كلّ صهباءَ، مِعجالٍ، مُجمهرةٍ،
بعيدة الضفر من معطوفة الحقبِ
كَبداءَ، دَفقاءَ، مِحيالٍ، مُجمّرةٍ،
مثل الفنيق عَلاةٍ، رَسلة الخببِ

هنا، لم يعد يهمنا أن نعرف معنى كبداء أو مجمّرة أو معطوفة الحقب . نستطيع أن نقدِّر أنها صفات تتعلَّق بلون الناقة وسرعتها وعلوّها، بل نسارع لإعادة قراءة البيتين السابقين في وصف المرأة؛ فيذهلنا ذاك الإيقاع والتقسيم وتلك المقابلة والموازنة في الألفاظ والعبارات بين وصف المرأة ووصف الناقة. نحن هنا إزاء شاعر شغفه بناقته كشغفه بحبيبته! وليس هذا بالأمر العجيب لأن الناقة للبدوي هي أيضاً رفيقة حياته ودربه!

الرحيل مع السحاب
وللمطر في حياة الإنسان البدوي قيمة خاصة. فكيف إذا كان هذا البدوي شاعراً؟! وما عساه أن يقول في وصف السحاب يا ترى؟

بنفس طويل، ودقة لامتناهية وصف الشاعر السحاب في ثمانية أبيات متتالية: يقول إنه مستفرغ أي شديد الانصباب، وعندما تهبّ ريح الصبا يكثر ماؤه ويشبهه، لثقله، وزحفه البطيء بسير الإبل التي أنتجت حديثاً. فهو يضيء في البرق كالمصابيح أو يبدو وكأنه خاصرتا فرس بيضاوان!
سقى الله أرضاً، خالدٌ خير أهلها
بِمستفرغ، بانَتْ عزاليه تَسْحلُ
إذا طعنتْ ريحُ الصبا في فُروجهِ
تحَلّبَ ريّانَ الأسافلِِ، أنْجَلُ
إذا زَعْزعَته الريحُ، جَرّ ذيوله
كما زحفت عُوذٌ، ثِقالٌ، تُطْفلُ
مُلِِحّ كأنّ البرقَ في حَجَراته
مصابيحُ، أو أقرابُ بُلقٍ، تَجَفّلُ

لكن لن يخطر ببالنا أن الشاعر سيرافق هذا السحاب في مسيرته وينتقل معه من مكان إلى مكان بقلبه وشعره: فبينما هو متجه إلى اليمامة، تصادفه ريح الجنوب فتُحوِّل وجهته ناحية لعلع و القرنتين فيسقيهما؛ ثم يتحمل ويغادر إلى مرتفعات الحزن التي بدورها تمتلئ من أمطاره، ثم يتوجه إلى الدهناء ولا يزال مُلثّاً مُفعماً بالماء كأنه مُحمَّل بالمتاع الثقيل تصاحبه أصوات الرعد كالجلاجل، إلى أن يحل في نهاية المطاف بـ المَعْرَسانيات ثم بـ روْض القطا حيث تسمع أصوات الرعد مشابهة لأصوات الإبل المُطفِلة الممتلئة الضروع! فلنتابع هذه الرحلة شعراً:
فلمّا انْتَحى نحو اليمامة، قاصداً،
دَعَتهُ الجَنوبُ، فانثنى يَتخَذّلُ
سقى لعلعاً والقرنتين، فلم يكدْ
بأثقاله، عن لَعْلعٍ، يتحمّلُ
وغادرَ أُكََمَ الحَزْن تَطفو كأنّها
بما احتفلتْ منه، رَواجِنُ قفَّلُ
وَشرَّقَ للدهنا، مُلِثُّ، كأنّه
مُحَمّلُ بِزٍّ، ذو جلاجلَ، مُثقلُ
وبالمَعَْرَسانيّات حَلَّ، وَأَرْزمَتْ
بِرَوضِ القطا، منه، مَطافِلٌ حُفّلُ

أولم نشعر بأن رحلة السحاب هذه ليست سوى رحلة الشاعر بين هذه الأمكنة الحميمة؟ أو لم يسقط الشاعر نفسه على السحاب وجعله ينتحي و يتحمَّل و يغادر و يشرّق و يحلّ كما يفعل هو في تنقّله الدائم من مكان لآخر؟

الحساسية في وصف الحيوان
سأذكر، أخيراً بضعة أبيات في وصف الحمار الوحشي. وقصة الحمار الوحشي وأُتُنِه عنْد ورودها الماء من القصص الموجودة بكثرة في القصائد الطويلة الكلاسيكية. لكن المميز، هنا، تلك الصفات الإنسانية التي رآها الشاعر في الحمار الوحشي. لقد رآه، بعدما اشتدّ عليه العطش، بسبب اشتداد الحر ويباس المرعى، واقفاً على مرتفع يراقب من كثب وقد أصبح كالمحموم من لفح الشمس:
فظلَّ مرتبئاً، عطشانَ، في أمَرٍ
كأنّ ما مَسّ منه الشمسُ مَمْلولُ

وفي وقفته هذه حيرة: هو يفكر أي مكان أنسب للورود بعدما نشفت المياه القريبة: أهو بطن الغيل أم بحر عانة ؟:
يقسم أمراً: أبطنَ الغيلِ يُورِدُها
أمْ بَحرَ عانةَ، إذْ نَشْفَ البراغيلُ

وعزم على أمره عند الأصيل، وقرر أن يوردها بحر عانة لأن الارتواء من مائه لا يعادله ارتواء آخر:
فَأجْمَعَ الأمرَ أُصْلاً، ثمّ أوردها
وليس ماءٌ بِِشُربِ البحرِ معدولُ

فانطلق بهن منحدراً بخفَّة وسرعة:
فهاجَهنّ على الأهواء منحدِرٌ
وَقْعُ قوائمِه في الأرضِ تَحْليل

الشاعر هنا وضع الحيوان مهموماً أمام المشكلة في البيت الأول، ثم صوَّره مفكِّراً محتاراً في البيت الثاني، وجعله مقرِّراً عازماً في البيت الثالث، وجذلاً مسروراً في البيت الرابع. فأي حيوان هذا؟!

وبعد ذلك كلّه يأتي من يقول: ألفاظ موحشة و صور محدودة ، و معانٍ متكرّرة !!

أضف تعليق

التعليقات