حياتنا اليوم

عبدالرحمن المريخي..

المُدرِّس الفنان الذي أحب الأطفال فأسَّس لهم مسرحاًليس عبدالرحمن المريخي مجرد مُدرِّس سعودي للغة العربية عُيِّن وهو في العشرين من عمره في إحدى مدارس الأحساء الابتدائية بالمنطقة الشرقية، وكان يحب مهنة التدريس ويمارسها بقلبه قبل عقله، ويظهر ذلك حين يقف بين صفوف تلاميذه الأطفال.. لكنه ذلك المُدرِّس الفنان الذي أعطى لمسرح الطفل في السعودية من عمره ثلاثين سنة.
حليمة مظفر* تحدِّثنا عن شخصية
الأب الروحي لمسرح الطفل.
انتبه المريخي قبل غيره، وفي وقت مبكِّر جداً، إلى أن الفصول الدراسية التي تجمعه مع تلاميذه ليست كافية لصقل شخصيتهم، وإطلاق إبداعاتهم. ولأنه عرف مفاد العبارة التي يردِّدها دوماً «أعطني مسرحاً أعطيك شعباً مثقفاً»، حاول توظيف المسرح فناً يُمكِّن من النهوض بالطفولة وفكرها ووعيها، مدركاً أنه وسيلة تُمكنها من أن تعرف تلك الأحلام المنتظرة غداً؛ ويحتاج المجتمع إلى سواعدها لتحقيقها.

دواعي النقلة
من الفن التشكيلي إلى المسرح
أسس هذا المُدرِّس مشروعه المسرحي في أرض جدباء؛ لم يُعرف للمسرح فيها وجود اجتماعي منظم للكبار كما يجب، فكيف سيكون حاله مع الصغار؟! ومع ذلك لم يكن مسرحه للطفل مجرد ممارسة لأحد الهواة؛ وإنما كان نابعاً من وعي كامل لما يمتلكه من ثقافة مسرحية حصَّلها كقارئ نهم لمصادرها العربية والأجنبية.

لكن كيف كانت البداية ؟
يقول الكاتب والمخرج المسرحي سامي الجمعان «إن المريخي كان فناناً تشكيلياً في نادي الجيل بالأحساء قبل أن يكون مسرحياً، وفي إحدى الأمسيات التشكيلية كان هناك عدد من الأطفال يؤدون مشاهد مسرحية متواضعة ولم ترضه. ومنذ تلك اللحظة فكَّر في تكوين فرقة مسرحية من الأطفال، والكتابة لهم على أسس درامية صحيحة»، وهذه اللحظة سجَّلت ريادته لا في السعودية فقط ، وإنما في الخليج العربي أيضاً.

ويقول ناصر الخطيب في كتابه: مدخل إلى دراسة المسرح في المملكة العربية السعودية، إنه «قد يُدهش الباحث أو القارئ إذا عرف أن في المملكة العربية السعودية مسرحاً للطفل، وقد وقف خلف هذا المسرح وأسهم فيه ودفعه إلى الاستمرار والتطور فنان سعودي أصيل، نذر حياته لهذا العمل، فهو الذي أرسى دعائمه، وهو الذي يكتب نصوصه، وهو الذي يدرِّب الأطفال ويخرج المسرحيات أيضاً».

ليس للضحك فقط
كانت مسرحية «ليلة النافلة» التي كتبها وأخرجها المريخي عام 1975م للطفل، وتحدث فيها عن روح الجماعة وأهميتها في العمل، هي أول بذرة يبذرها في أرض الصحراء؛ لاستنبات مسرح الطفل في المملكة العربية السعودية.

ثم توالت مسرحياته التي كان يكتبها لتناسب مدركات الطفولة وخيالها، ويُخرجها أيضاً بنفسه كي يضمن أن تؤدي الشخصيات التي رسمها في النص دورها كما يرتأي. ومن هذه المسرحيات كان «نصر البواكير» و«الحل المفقود» و«قرية اسمها السلام» و«إنهم لا يعرفون اليأس» و«ولد الفريج» و«اليتيم» و«ابن آدم قادم» و«الطائر الذهبي» وغيرها، وكانت جميعها أعمالاً درامية غنائية.

والمتأمل في عناوين مسرحياته التي كتبها، يُدرك أن همه لم يكن إضحاك الأطفال وإمتاعهم فقط. وإنما ملامسة قضاياهم وأحلامهم، ومساعدتهم في التفكير بعمق، في الواقع الذي سيكبرون فيه ويجدونه أمامهم. ولهذا كان المريخي صاحب فكرة مسرح الطفل الملحمي، حسبما ذكره رفيق مشواره عبدالرحمن الحمد في إحدى الصحف: «خلال أكثر من ثلاثين عاماً مع المسرح، حرص على أن يقدِّم تجربة المسرح الملحمي للطفل، وهي تجربة سلفت في الوطن العربي، ومن أهم المسرحيات التي قدَّمها، مسرحية «سوق الحمير» من تأليف الكاتب المعروف توفيق الحكيم».

ويقول الجمعان عن تجربة المريخي إنه «تأثر بسعدالله ونوس وتشرب تجربته المسرحية، ونتيجة لذلك استطاع توظيف المسرح الملحمي لما يناسب الأطفال وخيالهم، وهو كذلك متأثر بالتراث فجاءت أغلب مسرحياته مستقاة من الحكايات الشعبية». ومع كل هذا العطاء، كان المريخي يشتغل على مشروعه بصمت. فهو على قول الجمعان لم يحب الإعلام، وإنما ينتظر أعماله أن تتحدث عنه، ولكن «بسبب ضعف الحركة النقدية المسرحية لدينا، ظُلم المريخي بين جيله والجيل الذي جاء بعده» كما قال الجمعان.

ويقول الناقد محمد الدبيسي في مقالة له «نحن في جهات الوطن، لا نعلم أن ثمة مسرحياً بهذا الحجم، وبتلك القيمة قبل قراءة ما دوَّنه الناقد نذير العظمة في كتابه المسرح السعودي الصادر عن نادي الرياض الأدبي عام 1992م، إذ عدَّ المريخي رائداً متجاوزاً، بمسرح الطفل، النبرة الأخلاقية والتعليمية إلى البهجة والإمتاع والتجريب».

واستمر هذا المدرِّس في العطاء للأطفال بحب، تشعر به وهو يجلس معهم ويدرِّبهم على التمثيل وحفظ النص بتواضع جم، رغم الفارق في القامة والسن. حتى استطاع مع بعض الأصدقاء تأسيس المسرح في الأحساء من خلال تأسيسهم نادي الفنون الشعبية بالمنطقة الشرقية، الذي تحول بعد ذلك إلى فرع لجمعية الثقافة والفنون عام 1979م؛ وتولى إدارته بنفسه عام 2000م.

الابتسامة أقوى من المرض
والمريخي المُدرِّس والفنان الذي كان يوماً لاعباً بارزاً في «فريق الأخوة»، أحد الفرق المعروفة بالأحساء في مطلع الستينيات الهجرية، استمر في الركض خلال ثلاثة عقود، لا في ملعب كرة القدم، ولكن في ملعب الحياة، مشتغلاً بمسرح الطفل والكتابة والإخراج له، إضافة إلى عمله في جمعية الثقافة والفنون التي من خلالها شجَّع كثيراً من تلاميذه على إكمال مشوارهم مع المسرح، دون كلل ولا ملل، حاملاً ابتسامته المتواضعة وهو يصافح المواهب الشابة، ولا يكف عن تغذيتهم بالحماسة والدعم حتى خلال معاناته المرض.

فحين كان في الثانية والخمسين من عمره، أصيب المريخي بسرطان الأمعاء، الذي أخذ يلتهم جسمه النحيل فيما هو منهمك في مشروعه المسرحي. ومع ذلك، لم يتخلّ عن ابتسامته حتى قال يوماً «سأحافظ على أن تظلّ ابتسامتي مضيئة، كيلا يشعر أحد بحجم الألم الذي أعانيه، ولا أترك للحزن طريقاً يخطو بقدميه تجاه وجوه أهلي وأصدقائي».

ولأنه بقي دوماً مدرِّساً ولم يتاجر بفنه يوماً، لم يجنِ المريخي ثروة تذكر تعينه على رحلة الاستشفاء الباهظة. فبقي صامتاً حتى صرخ مثقفو المنطقة الشرقية يتوسلون أحداً أن يأخذ بيد الرائد المبدع، فجاءت المنحة الملكية السامية تتكفل بعلاجه على نفقة الحكومة في الخارج، وسارع صاحب السمو الملكي الأمير سلمان ابن عبدالعزيز، أمير منطقة الرياض، إلى توجيه وزارة الصحة للتسريع بتنظيم سفره إلى ألمانيا، لكن المرض كان أسرع.

توفي المريخي في التاسع من ديسمبر 2005م، تاركاً إرثاً ضخماً للأطفال وتلاميذه المسرحيين الذين أكملوا مشواره بعدما مهَّد لهم الطريق. وقد قال الشاعر شاكر الشيخ حينئذ «سنفتقده لما ترك من روح ألهمت الكثيرين منا في حب الفن وعشقه والإيمان به، فحين تضع يدك بيد المريخي تصبح نجماً، لأنه من القلة النادرة التي تضع في أولويات اهتمامها صناعة النجوم».

لقد حصد المريخي تكريم الريادة في البحرين خلال المهرجان الرابع للفرق المسرحية الأهلية بدول الخليج عام 1998م، فيما حصل على التكريم ذاته لاحقاً في موطنه، حين أعلن رئيس جمعية الثقافة والفنون الأستاذ محمد الشدِّي تكريم الجمعية له ضمن الرواد لجهوده المخلصة بعد وفاته مباشرة، الأمر الذي طرح حينئذ سؤالاً بليغاً، مفاده هل سيهتم الموتى بالتكريم المتأخر؟؟ أم إن الموت شرط لتكريم المبدعين؟

أضف تعليق

التعليقات

باجي

السلام عليكم انا طالبة دكتوراه من الجزائر و ابحث عن نصوص ل عبد الرحمان المريخي قصد دراستها