الرحلة معا

من هو المثقَّف
من هو المفكِّر؟

في الزوايا الخلفية لمؤتمر فكر 6 الذي عُقد في المنامة مطلع ديسمبر الماضي، أدار بعض الحاضرين، بصفتهم من صفوة المثقَّفين العرب، اعتراضاً على بعض الشخصيات التي دُعيت لتتحدث في المؤتمر وتشارك في نقاشه، لا سيما تلك الشخصيات التي جاءت من خلفيات صناعة القرار الاقتصادي على المستوى العربي. لم يعجب هذه الصفوة، مع تحفظي على صفوتها، أن تصل دعوات مؤسسة الفكر العربي إلى بعض كبار موجهي البوصلة الاقتصادية العربية، بصفتهم غير محسوبين على الوسط الثقافي، ولا يقعون تحت مظلة الفكر التي يفترض أن المؤسسة والمؤتمر يفهمانها ويمارسان مهمتهما على أساسها.

من هذا الموقف، تسربت بعض الأسئلة عن معنى المثقَّف ومعنى المفكِّر في حياتنا: هل هو الأكاديمي الذي أمضى ردحاً من الزمن يفتِّش في بطون الكتب ووجوه الجامعات والطلبة عن أسباب التغيير؟ أم هو صانع النظريات التي تحملها كتبه إلى الآفاق المشككة والحائرة؟ هل هو الروائي والشاعر والقاص؟ هل هو الإعلامي، أم هو الناشط في حقوق الإنسان والرافض أبداً لأي بادرة حسن نية من الأنظمة السياسية؟

بدا أن رحى الأسئلة عادت من جديد، لتبدأ وتنتهي عند المربط نفسه، مربط النظرة التقليدية إلى المثقَّف أو المفكِّر. لم يتطرق أحد من تلك «الصفوة» إلى الإنسان الاقتصادي والاجتماعي المؤثر في الفعل الوطني التنموي، وما إذا كان من حقه أن يعتلي المنابر الثقافية والفكرية العربية، التي ظلت زمناً طويلاً حكراً على السابحين في ملكوت التهويمات من أبراجهم العاجية. بل لم يكن هناك حتى بوادر استعداد للتجريب، تجريب قبول الإنسان المؤثر اقتصادياً كإنسان يمتهن العمل الذهني الذي يعطيه الحق أن يتحدث ويُنظِّر بدوره لأسباب التقدم في عالمنا الشديد التخلف.

صفَّق عالمنا العربي، كما نعلم، كثيراً وطويلاً للمنابر التي تريد أن تستبدل رغيف العيش بمفردة القصيدة، وأن ترسل الأولاد إلى المجد التليد بدلاً من المدرسة الفنية، وأن تقلب لون المشمش ليصبح أزرق وتغيِّر طبيعة القطة البيولوجية لتصبح أسداً هصوراً في وجوه الأعداء المتربصين. لم نكسب، وهذا رأيي الشخصي، من هذه المنابر سوى المزيد من حالة القفز على واقعنا وارتكاسنا إلى حالة من ديمومة اليأس، الذي يفرض كفارقة كبرى من قبل المثقف المتدثر بعباءة إيقاظ الأمة من سباتها.

المثقَّف أيضاً، بصورته التقليدية لدينا، كان من أسباب خلق جغرافيا ثقافية عربية تقف فيها الحدود موقفاً (شامخاً وصامداً). فهناك لدى هذا المثقَّف ثقافة دول المحور وثقافة الأطراف والهوامش. والمحوريون هم الذين يجب أن يقودوا الأمة إلى خلاصها وموقعها الصحيح بين أمم اليوم. أما الهوامش فمسموح لها فقط بالاستهلاك إن أرادت ذلك، على أساس أن المحوريين يؤمنون بحق الاستهلاك الآدمي للثقافة.

وما دمنا في أجواء هذه الجغرافيا الثقافية العربية المصابة بأمراض الترفع والإلغاء، ربما يحسن أن أذكر لكم حادثة ثقافية لا أنساها عشتها في بيروت، فذات عشاءٍ جمعتني الصدفة بمثقف مسن كان يشتغل على كتاب عن عيون الشعر العربي المعاصر، وسألني إن كان هناك شعراء سعوديون يستحقون الإشارة إليهم في هذا الكتاب الحامل لألوية شعرية من دول المحور الثقافي. التفت إليه وقلت بلسان لا يخلو من تهكم: هناك شعراء سعوديون طبعاً لكن كتابك لا يستحقهم ما دمت في هذه السن ولم تعرف أحداً منهم.

على هذا المثال، يمكن أن تقاس اللحمة الثقافية العربية ومنتجاتها وأثرها على الصورة الكبرى لمسيرة نماء المواطن العربي، الذي ظل يستهلك النصوص والتهويمات والإلغاءات دون أن يحدث طائل أو متغير في حياته التي تزداد صعوبة وتخلفاً.

كانت الثقافة فيما مضى بانتشارها العمودي تتمثَّل في أفراد، الواحد منهم هو العالِم والفيلسوف والمفكِّر والأديب، لكنها لم تعد كذلك في شكلها الحالي وانتشارها الأفقي والتخصصي.. ولم يبقَ للثقافة في شكلها التقليدي سوى النظريات الفراغية التي لا يُستغنى عنها.. لكنها لا وجود لها إلا بالتماس مع الواقع والتلاحم مع ذوي الاختصاص، يداً بيد من أجل التغيير والتطوير.

ولذلك، يجدر بالمؤسسات الثقافية العربية أن تنقل اهتمامها إلى الواقع، وأن تعطي مساحة لذوي الفعل الذهني الإنمائي، الذي تظهر آثاره فوراً في حياة الناس وارتقاء أسباب معيشتهم وتعاملهم وأذواقهم. وقد أحسنت مؤسسة الفكر العربي في كل مؤتمراتها في الأخذ بهذا المبدأ، مبدأ بناء الجو الثقافي العربي من حضور الروائي إلى جانب الاقتصادي والشاعر إلى جانب الصناعي والإعلامي إلى جانب رجل الأعمال، فهذا التجاور هو الذي سيضعنا على طريق واقعنا العربي الحاضر ويعيد صياغة فعلنا الثقافي المؤثر.

أضف تعليق

التعليقات