قضية العدد

حالنا مع الشعر
أين الأزمة؟

  • 12a
  • 14a
  • 16a
  • 17a
  • 19a
  • 21a
  • 22a
  • 23a

إذا كان في عالم الشعر وقضاياه ثمة ما يحظى بإجماع، فهو القول إن المساحة التي يمثِّلها اليوم في اهتمام القرَّاء باتت أصغر بكثير من أن تُقارن مع مكانته السابقة عندهم، التي عاشت قروناً طويلة، وتدهورت فجأة خلال العقود القليلة الماضية.
وبعدما كانت القافلة قد سلَّطت الضوء في العدد السابق على عالمية هذا التراجع من خلال مقالة الكاتب والشاعر الأمريكي دانا دجويا الذي أشار بوضوح إلى أزمة عميقة وواضحة المعالم يواجهها الشعر الأمريكي المعاصر، يكون قد آن الأوان لتركيز الضوء على حالنا مع الشعر العربي والأوجه الخاصة به التي تميِّز هذا التراجع في مكانته.
وفيما يأتي خمسة إسهامات مختلفة تبدأ بقراءة تُسقط بعض ما ورد في مقالة دجويا على واقع الحال العربي، وتمر باستعراض أهم العوامل التي جعلت الكثيرين يشيحون بوجوههم عن الشعر المعاصر، ومن ثم الدور الذي تلعبه الأغنية العربية في الترويج للشعر، وصولاً إلى ما يقوله الشاعر العربي نفسه.
أزمة شاعر لا أزمة شعر
د. عبدالله بن أحمد الفَيفي
الشِّعر نخبويّ بطبيعته، وفي كُلّ العصور. على أنّ طبيعة الشِّعر المعاصر قد زادت الهُوّة بين القصيدة والجمهور. بل بين ناقد الشِّعر والقارئ، وهو ما وصفه الشاعر الأمريكي دانا دجويا -مؤلف كتاب «أما زال للشِّعر مكانة؟ (Can Poetry Matter?)»- بقوله: «يبدو النقاش الدائر حول الشِّعر كما لو كان مناظرة في السياسة الأجنبية، أقطابها أجانبٌ، منفيّون في مقهىً مهلهل!» يضاف إلى هذا ذلك التحول الاجتماعي الجذري الذي شهده العالم في القرنين الأخيرين، وهو تحول مادي غير شِعري، ولا باعث على شِعر.

وظيفة النقد
أما ما عبَّرت عنه مقالة دانا دجويا، المشار إليها، فعلى الرُّغم من أنها قد خاضت في مشكلات الشِّعر في الولايات المتحدة الأمريكية -فوضعت إطاراً أمريكياً للمشكلة، وهي لا تنفصل عن أزمة عامة هنالك في تلقِّي الفنون الجميلة؛ إذ الشِّعر، كما قال: «ليس وحده مهمَّشاً… لكن الأمر نفسه ينطبق على معظم أشكال الفن الحديثة، من المسرح الجاد إلى الجاز…»- على الرُّغم من هذه الخصوصية، فقد لامس قضايا مشتركة عالمية في أزمة الشِّعر المعاصرة. ويتضح من عرضه أن المشكلة هي مشكلة تلقٍّ، لا مشكلة إنتاج؛ فهو يتحدَّث عن «غزارة فريدة اليوم في طباعة الدواوين ومجلات الشعر، والنقد المطبوع الذي يعالج قضايا الشِّعر المعاصر يملأ صفحات الدوريات الأدبية والجرائد اليومية الجامعية… وحتى الكونغرس الأمريكي أوجد منصب الشاعر القومي، كما فعلتْ ذلك خمس وعشرون ولاية». وإلى جانب أزمة التلقِّي، هناك أزمة النقد، ورطانته الأكاديمية، وتحيزه أحياناً ضدَّ الشِّعر، الذي ألمح إليه بقوله: «لا أعتقدها مصادفة أن أنجح مقالين كُتبا في موت الشِّعر المفترض كتبهما ناقدا قصة ذكيان، دون أن يكون أي منهما قد كتب بتوسع حول الشِّعر المعاصر». ومع تسليمنا معه بأهمية نقد الشِّعر في حركة الشِّعر، فإنّ دور النقد قد ظل تابعاً للشِّعر غالباً، لا قائداً له. النقد بصيرته الشِّعر، لا العكس، ولا يمكن أن تُلقى تبعة تردِّي الشِّعر إذن على النقد. بل لقد تنبه العلماء والفلاسفة إلى أسبقية الشِّعر في كشف مغاليق رؤيوية ومعرفية، لا ينتظر في إنجازها نقداً ولا عِلماً، بل النقد والعِلم هما اللذان ينتظران ذلك منه؛ وذلك ما عبَّر عنه سيجموند فرويد، على سبيل المثال، في مجال علم النفس، وابن سينا، في كتابه «الشِّفاء»، وأرسطو، في جدلياته مع أفلاطون عن أهمية الشِّعر قياساً إلى المعرفة أو التاريخ. كما أن العرب قد عدُّوا الشاعر نبياً، أو متنبئاً، إذ رأوا الشاعر بمقامٍ عظيم، فتسنَّم لديهم تلك المنزلة السيادية، حتى لقد تخيلوا كلامه وحياً يأتيه من عالمٍ غيبي، ربطوه بعالم الجِنّ، وبقيَ هذا التصور في مأثورنا الشعبي. فمهما يكن من أمر، فإن المراهنة على أن النقد هو الذي سينهض بالشِّعر يبدو من قبيل وضع العربة أمام الحصان. هذا لا يقلِّل من شأن النقد، بوصفه عِلماً، غير أن وظيفة النقد لم تَعُد توجيهية، لكنها وظيفة المحلل الدارس، الراصد للظواهر، المستنبط منها دروسها المعرفية والأدبية الجمة. كذلك لا بد ها هنا من التمييز بين مفهوم النقد المدرسي -المخصص للطلبة وشُداة الشِّعر- والنقد العلمي، الذي قد يضيء للمتلقِّي دروب النصوص، غير أنه لا يضيء، بالضرورة، طريق شاعرٍٍ حقيقي، بل هو الحريُّ بأن يقتبس من إلهامات الشاعر. ثم عن أي نقد نتحدث؟ وأي نقد يُرجى أن يُنقذ الشِّعر، وقد رَفَع بعض سدنته اليوم شعار «موت النقد» إلى جوار لافتة «موت الشِّعْر»؟! وإذا افترض وجود النقد الشِّعري بمستوى ما، أما زال المنجز الشِّعري الحقيقي شيئاً مذكوراً فيما بقي منه اليوم؟ أم أنه لا محلَّ له منه إلا إن استجاب لمآربه الاستشهادية، غير الشِّعرية في كثير من الأحوال؟

لقد تخلّى النقد عن جديته في درس الشِّعر، بل جعلنا نستشعر رهاب بعض النقَّاد من صرامة العِلم في مقاربة الأعمال الشِّعرية -بعدما كان ذلك رُهاباً مسوغاً لدى الشعراء وحدهم- في جوٍّ أَلِفَ المجاملة والتسوية بين صالح وطالح في سوق الشِّعر. هذا إلى انصراف النقد إلى ما سهل، وراج، من فنون النثر، التي أَلْفَى النقدُ فيها «السَّرْد» ضالته لمناقشة قضايا خارجية، تمسّ المجتمع والثقافة على نحو مباشر ومكشوف، حتى قامر القائلون بأن: الرواية قد باتت «ديوان العرب المعاصر»!

شعر ونثر .. داحس والغبراء
إن الشِّعر -كما قلتُ في مقام آخر- هو ديوان الضمير الإنساني لا ديوان العرب فقط. والمفاضلة بين سردٍ وشِعر، التي تدور اليوم في العالم العربي وكأنهما الفرسان داحس والغبراء، اجترار مستهلك لنزعة فروسية عربية عتيقة من المفاخرة والمنافرة، ترقَّت حتى نصَّبت أمراء للشِّعر، ووزراء للكتابة، وسلاطين للنقد! وما أسئلة دانا دجويا، ولا إثارته قضية الشِّعر بحِدَّة، بوصفها قضية أمريكية ملحة، إلا دليل على أن جنسي الشِّعر والرواية ما زالا جنسين يتعايشان جنباً إلى جنب هناك -بغض النظر عن حجم الجمهور، فقضية الجمهور هنا متعلقة أصلاً بطبيعة هذين الجنسين، كما سبق، وبكيفيات التلقِّي- دون أن يُلحظ في خطاب دجويا ذلك الميل إلى المصادرة، أو الإقصاء، أو واحدية القول والرؤية، التي يتعلق بها الخطاب الثقافي العربي، في هذا الشأن كما في شؤونه غالباً، كأن يقول بعصر الرواية، كما لو كانت تلك نهاية تاريخ أخرى اكتشفها.

نعم إن الشِّعر قد يتراجع لحساب الرواية في الانتشار، والأيام سجال بين الأنواع الأدبية عبر التاريخ، وذلك لشعبوية الرواية اليوم، وابتذالها أحياناً، وتسلق كثير منها غرائز المتلقِّي المختلفة، وسهولة تعاطي القارئ العام معها مقارنة بالشِّعر، في حافلة أو قطار أو طائرة، أو حتى قبل النوم، وهو ما تتأبَّى عنه لغة الشِّعر وطبيعته الخاصة. ولكن هل حجم الجمهور هو معيار القيمة؟ إنه معيار مادي، غير شعري بدوره. وأكثر الأعمال جماهيرية قد يكون أتفهها، وأقلها خلوداً، وذلك للأسباب المشار إليها. إن الشِّعر -قديماً وحديثاً- لا يُراهن على الجمهور الآني، بالضرورة، ولكن على الجمهور الزمني، فكم من الشعراء تأخر حضور الجمهور إلى أصواتهم عن الجيل الذي عاشوا فيه!

الأقدر على مسايرة العصور
على أن السؤال أيضاً، ونحن في عصر السرعة والحاسوب والإنترنت: أليس الشِّعر بطبيعته الاختزالية التكثيفية يمكن له -لو خرج من قواقعه- أن يكون المرشَّح لمواكبة عصر كهذا؟! ألا نلحظ مثلاً أن القصيدة الآن هي الأكثر مواتاة من أي جنس أدبي، ناهيك عن الرواية، للبثِّ والتلقِّي عبر البرامج وشبكات المعلومات المختلفة؟! ولكن هل يبادر الشِّعر إلى استثمار خصائصه في التقنية الحديثة لتوسيع رقعة انتشاره؟ ذلك هو السؤال الآن.

إن أدوات الاتصال التقليدية -كما قال دجويا قد تفكَّكت، ويجب البحث عن بدائل معاصرة. وتأتي تجربة النص الإلكتروني التفاعلي -الذي قد يُطلق عليه اسم: النص المترابط Hypertext، أو (النص الإنترنتي Cyber text)-بوصفها إمكاناً آخر، يمكن أن يشكِّل -على نحو أفضل من التقنية التقليدية التي ركز عليها دجويا في حديثه عن أهمية الراديو لنشر الشِّعر- رافد اقتحام للحركة الشِّعرية، الآنيَّة والمستقبلة، ومن خلال عصرنا الإلكتروني هذا، الذي يُشاع أنه لم يَعُد عصر شِعر. وبذا فإن بإمكان القصيدة -كما نرى- أن تنغرس في نسيجنا العالمي العولمي، أكثر من أي جنس أدبي آخر؛ كي تُثبت أنها -وقد صحبت رحلة الإنسانية منذ الأزل- هي أكثر الأجناس الإبداعية قدرة على مسايرة العصور، وصولاً إلى روح الإنسان أنَّى كان.

لا مراء في أن لكل جنس أدبي عبقريته وطاقاته التعبيرية الخاصة، وتلبياته لحاجة إنسانية معينة، لا يعوِّضها جنس أدبي آخر، كذلك لكل جنسٍ جماهيريته النوعية. لأجل هذا، كثيراً ما تكون المقايسة في هذا المضمار مضلِّلة. علاوة على أن المفاضلة قد لا تنجو في كل حال من سياقاتها المتعالقة بتيارات عولمية، تنحو إلى اجتثاث الثقافة القومية، وتذويب اللغات الوطنية، ومحاصرة قِيَم حادة يظل الشِّعر ديوانها لدى مختلف الأمم. وليست الحملة الشِّعرية التي شنَّها بعض الشعراء الأمريكيين ضد حرب جورج دبليو بوش على العراق، مثلاً، وما قوبلت به من قمع، إلا نموذج تاريخي واحد، يدلنا على مقدار إمكان أن تغدو الكلمة الشِّعرية مزعجةً لنوازع اللا إنساني في الإنسان. لماذا؟ لأن الشعراء يرفضون الانحناء للعاصفة كي تمر! وقد ضاق بحماقتهم تلك حتى أفلاطون، فأوصد أبواب مدينته الفاضلة دونهم!

بوادر يقظة شعرية
وفي فضائنا العربي، تأتي من مؤشرات اليقظة الشِّعرية الحاضرة جُملة بوادر، منها: بعض البيانات الشِّعرية، كذلك الذي تبنته مثلاً رابطة الرَّصافة للشِّعر العربي منذ منتصف العقد الأخير من القرن الماضي، فيما أطلقت عليه وجهة جديدة لإنتاج النص الشعري، مكونة ما اصطلحت عليه بـ «قصيدة الشِّعر». والمصطلح في ذاته -على عتاقته- علامة على مقدار اغتراب «قصيدة الشِّعر» في عصرنا الحاضر، بحيث يتطلَّب الأمر محاولة استعادة الاسم والمسمَّى! وكان من أصداء ذلك أن صدَّرت الرابطة بياناً سمته بيان بغداد 1996م، ثم جُدد البيان في بيان القاهرة 2007م. وكذا المؤتمرات العلمية العربية عن الشِّعر، والملتقيات النقدية، ومهرجانات الشِّعر ومسابقاته، بما لهذه الأخيرة من حسنات وما عليها من سيئات. ولا شك في أن مأزق القصيدة العربية الحديثة يستدعي رؤى أصيلة ناضجة، تستمدُّ جذورها من الشخصية الثقافية العربية المستقلة، غير مستلَبة إلى خارجها، ولا منغلقة على ذاتها. ذلك أن الشِّعر يظل روح اللغة، ولاسيما في لغة شعرية كاللغة العربية، وفي انهياره مؤشرٌ على انهيار اللغة، ومن ينتمون إليها. فكما قال دجويا، مصيباً: «صعب جداً أن نتخيل كيف يعالج مواطنو أمة ما صحة لغتها ما داموا متخلِّين عن الشِّعر».

وإن في وصايا دجويا للشعراء ما يتناقض طرداً مع اتجاه القصيدة الحديثة، وبخاصة قصيدة النثر، إلى العزلة، وتجاهل القارئ، بل احتقاره، بازدراء القِيَم اللغوية التواصلية معه، وتسفيه المعايير الفنية الأصيلة والنوعية لجنس الشِّعر، باسم الحداثة. وبذا فالعيب ليس في الشِّعر، من حيث هو فن، ولا في الجمهور، من حيث هو متلقٍّ، ولكن في الشاعر، من حيث هو -في بعض حالاته- «مؤدلج»، يمتهن الشِّعر لأغراض أخرى، لا يعنيه بما هو شِعر، ولكن بصفته بوق تبشير بقضايا، أو وسيلة تلميع للذات.

إن الأزمة في المحصِّلة: أزمة شاعر، لا أزمة شِعر، ولا أزمة جمهور.

ألا يزال للشعر دور في حياتنا؟
جهاد فاضل
قبل سبعين عاماً تقريباً، كان الشعر العربي ما زال بخير، وكان «الشاعر» ما زال ينعم بنفوذ كبير في بيئته، وعلى الخصوص في تكوين الوجدان العام فيها. فأحمد شوقي، وحافظ إبراهيم، ومطران، والزهاوي، والرصافي، كان لهم شأن خطير في الحياة العامة، الثقافية والاجتماعية والسياسية. كانت جريدة «الأهرام»، على سبيل المثال، تنشر قصائد شوقي في صفحتها الأولى، فيقرأها العرب في اليوم التالي في الشام وبيروت وبغداد والبحرين وعدن وتونس وتطوان. وعندما بايع الشعراء العرب شوقي بإمارة الشعر في عام 1927م كانت المبايعة حدثاً قومياً بامتياز. فقد حضرها الملك فؤاد ورئيس وزرائه سعد زغلول ونفر واسع من الزائرين العرب. وشاركت البحرين بإرسال نخلة صغيرة من ذهب أهداها أميرها لأمير الشعراء.

وظل نفوذ الشعر قوياً في العصر الذي تلا عصر شوقي، سواء في مصر أو في سائر البلاد العربية. فالشعر كان يجذب الكثيرين إليه، يقرأونه بشغف، وحوله تدور المعارك ويشتد السجال. ولا شك في أن ذلك الاهتمام بالشعر مرتبط بعوامل مختلفة منها أن الشعر كان لا يزال الفن الأول في المجتمع، إذ لم تكن الرواية قد انتشرت بعد، ولا المسرح، ولا السينما إلا في حدود ضيقة. ومن هذه العوامل أيضاً قوة الشعر الذي كان يُكتب، والذي عندما يراجعه المرء اليوم، ويقابله أو يوازنه، بما يصدر من شعر الآن، يجد أن الشعر كان متيناً مستكملاً لكل شروطه، وقادراً على التسلُّل إلى وجدان الأمة والتأثير فيه. وأية نظرة إلى سيرة محمد مهدي الجواهري وشعره في الخمسينيات من القرن الماضي، وقبلها وبعدها، كفيلة بأن تقنعنا بأن الشاعر كان لا يزال قائداً في الزمن الحديث، كما كان قائداً في الزمن القديم. فالشعر هو «وزير إعلام» دون وزارة إعلام، و«منبره» مكان يهرع إليه القوم لمجرد أن يتنامى إليهم أن شاعراً ما سيعتليه. وحتى عندما أهلَّ «الشعر الجديد» في بداية الخمسينيات، واستمعت بغداد إلى السياب ونازك والبياتي والحيدري، والقاهرة إلى صلاح عبدالصبور وحجازي ومن بعدهما إلى أمل دنقل، كان «النادي الشعري» لا يزال يغصُّ بروَّاده. والمعروف أن منتصف القرن الماضي، على الخصوص، شهد قمماً شعرية عالية منها بشارة الخوري في لبنان، وبدوي الجبل وعمر أبو ريشة في الشام. وكانت قصيدة وطنية لأحدهما قابلة لإحداث أوسع الأثر في المجتمع. ولا شك في أن قصيدة عمر أبو ريشة: «أمتي هل لكِ بين الأُمم» التي ألقاها في حلب في أواخر الأربعينيات من القرن الماضي هي التي عجَّلت انهيار حكومة جميل مردم، بل في تغيير أكبر شمل سوريا وانتقل بعد ذلك إلى أقطار عربية أخرى.

وظلَّ الشعر قوياً في زمن نزار قباني ومحمود درويش. يصف نزار قباني في بعض ما كتب مشاهد من أمسية شعرية ألقاها في إحدى الساحات العامة في السودان واعتلاء السودانيين الأشجار العالية القريبة من هذه الساحة بعدما امتلأت بالناس. والواقع أن كل أمسية لنزار قباني تشبه من حيث الحضور هذه الساحة السودانية. ولا يزاحم نزار قباني في هذا الإقبال الجماهيري عليه سوى محمود درويش الذي يتدافع الناس لحضوره إذا علموا أنه سيحيي هذه الأمسية الشعرية، أو سيشارك في احتفال عام. أمَّا لماذا هذا الإقبال على هذين الشاعرين عند الناس فلأنهما رمزان لقضية. كان نزار رمزاً للخروج على العادات والتقاليد، وكان محمود درويش، ولا يزال، رمزاً لقضية العرب الكبرى فلسطين.

عوامل أضعفت الشعر
ثمة عوامل كثيرة أسهمت في ضعف الشعر العربي اليوم، وفي ضعف دوره وتأثيره في الحياة العامة. من هذه العوامل: أن الجمهور العريض، وجمهور المثقفين في آنٍ، لم يعد قادراً على التمييز بين الشعر وغير الشعر. فأي كاتب، أو مُنشئ، أو شاعر، يستطيع أن يكتب ما شاء، ثم يدفعه إلى النشر ويضع عبارة «شعر» تحت العنوان. فإذا قرأه القارئ، سأل عمَّا يربط هذا الذي قرأه بالشعر الذي يعرفه، وما الذي قصده كاتبه منه لأنه عجز عن إدراك معانيه. لقد كان معتاداً قبل ذلك على شعر المتنبي وأبي نواس وشوقي والأخطل الصغير وبدر شاكر السياب ومحمود درويش وهذا الرعيل، فإذا به يعجز عن مجاراة الشعراء الجدد في ما يكتبونه. ثم إن هذا القارئ أَلِفَ أن يرى صورته، ومطامحه، في القصيدة، فإذا به يغرق في ظلام المعاني ويعجز عن تبين أية صورة على الإطلاق في هذه القصيدة، وحتى صورة الشاعر نفسه الذي كثيراً ما صرَّح بأنه إنما يكتب الشعر لنفسه لا لسواه. وعندما حاول هذا القارئ أن يقارن بين شعر الأمس، القريب أو البعيد، وبين هذا الشعر الجديد، لم تكن المقارنة لصالح هذا الأخير، الغامض، الملتبس الذي لا يدل على معنى. وعندما تعالت الضجة بين الناس، وساءت سمعة الشعر عندهم، انصرفوا عنه إذ لم يجدوا فيه لا صورتهم، ولا المتعة التي كانوا يرتجونها منه في الماضي. ثم تحولوا إلى فنون أخرى كثيرة يلتمسون فيها ما هم بحاجة إليه، أو ما يستطيعون فهمه. فالشعر إن تعذَّر التماسه في الشعر نفسه، يمكن التماسه في فنون أخرى منها الرواية والقصة، ومنها المسرحية والسينما والموسيقى والأغنية.

المشكلة ليست عربية فقط
ولكن الإنصاف يقتضي منَّا الاعتراف بأن الشعراء ليسوا وحدهم سبب ضعف الشعر، وبوار سوقه، وسوء سمعته عند الناس، دون أن نقلِّل بالطبع من عجزهم عن الوصول إلى قلوب القرَّاء وعقولهم.

الواقع، أن الشعر يتراجع في كل مكان اليوم، لا عند العرب وحدهم، بل عند الآخرين أيضاً. لم يعد بإمكان إنجلترا المعاصرة أن تنتج شاعراً مثل شكسبير، ولم يعد بإمكان فرنسا أن تنتج شاعراً مثل فكتور هيغو يرجُّ الحياة الأدبية وحتى السياسية الفرنسية، ويتحوَّل إلى رمز وطني كبير.

هناك أسباب كثيرة جعلت الشعر يتخلَّف في المجتمع المعاصر، منها أن القوم لم يعودوا يجدون فيه ما كان آباؤهم، أو أجدادهم، يجدونه فيه. زاد في غُربة الشاعر غرابة طريقته في نظم الشعر وغرابة معانيه. بات الشاعر الحديث أسير «التجاوز، والتخطي والنص المفتوح»، وما إلى ذلك من المفاهيم التي أدخلها النقد الحديث إلى الشعر، واستجاب لها الشاعر صاغراً. كان الشعر في الماضي أكثر قرباً من المعنى، ومن المتلقي، فبات الآن نصوصاً غامضة، خابية الأضواء، يقرؤها القارئ فلا يفهمها. ويعيد قراءتها فتزداد نأياً عنه. وعندما فقدت القصيدة ما شُرِّعت من أجله، لم يعد من موجب عند القارئ لقراءتها.

دور الحياة الاجتماعية
ثم إن الشعر كان يستمد في الماضي جاذبيته من ظروف وعلاقات اجتماعية تتضمَّن قدراً كبيراً من الأسرار. كانت صورة المرأة قريبة من صورة شهرزاد القرون الوسطى. كانت هناك الرومنسية لا مذهباً فنياً ولا أدبياً وحسب، وإنما نمطاً من أنماط السلوك والممارسة. وعندما اختفى هذا النمط الاجتماعي من التداول، اختفى معه عصر من الشعر أيضاً. فالشعر لم يكن غريباً في مجتمعات الأمس غربته في مجتمعات اليوم. ولعل غربته اليوم متأتية من ابتعاده عن كل ما كان يحرِّض على الشعر بالأمس، ومنه المرأة نفسها التي كانت لا تزال تحتفظ بقدر كبير من السِّر والسرية. كان الحب هو أساس العلاقة بين الرجل والمرأة، لا الجنس بصورته الحاضرة. فمن أين يأتي «الشعر» إذا تحوَّلت الحياة إلى «نثر» محض؟

لا جمهور حتى في صفوف المثقَّفين
ولا أعتقد أن الشاعر فقد جمهور الغواة العريض القديم لصالح جمهور محدود من المثقَّفين. فلا جمهور للشعر حتى عند المثقَّفين أنفسهم. ولَّى الزمن الذي كان المثقف العربي يبحث فيه عن ديوان شعر جديد لهذا الشاعر أو لذاك، ما عدا قلة قليلة جداً من الشعراء الكبار الذين يلفتون القارئ بإنتاجهم المتميِّز. فالأصل أو المبدأ هو أن أحداً لا يقرأ الشعر اليوم، في الأعم الأغلب، وبخاصة الشعر الحديث. أما الشعر العربي القديم، كشعر المتنبي والمعري، فهذا الشعر لا يزال يُقرأ لأسباب كثيرة منها قربه من ذوق المتلقي، ومنها متانته وجماله. ولكن هذا الشعر كثيراً ما قُرئ أو يُقرأ ضمن قراءة التراث كله. فالقارئ الحديث لا يقصده وحده، وإنما يقصد عصراً عظيماً من الشعر والنثر على السواء.

وليس صحيحاً أن للشعر سوقه عند الأجانب، أو عند الأوروبيين. فلا اهتمام بالشعر لا عندهم ولا عند سواهم. والدليل على ذلك هو أن الشاعر الفرنسي أو الأوروبي كثيراً ما يبيع شعره بنفسه وهو ينتحي هذه الزاوية، أو تلك، من شوارع باريس أو لندن أو بروكسل. وهو لا يفعل ذلك ليوفِّر فلوساً يأخذها صاحب المكتبة العامة من طريقه، وإنما لحضّ عابري السبيل على أن يلتفتوا إليه ويشتروا السلعة، أو الديوان، الذي يعرضه للبيع. وكثيراً ما يتحنن عابرو السبيل هؤلاء على الشاعر لأسباب منها اعتقادهم بأنه فقير ولديه أزمة مادية جديرة بأن يُلتفَت إليها. ولا شك في أن وضع الشعر في أية مكتبة في عواصم أوروبا لا يختلف عن وضعه في أية مكتبة من مكتبات بيروت. فالشعر غريب في المكتبة العامة غربته في المكتبة المنزلية، وغربته في أي مكان آخر تحت الشمس.

للرواية بالطبع، جمهور أكبر من جمهور الشعر. في الرواية يستطيع القارئ أن يجد من المسرَّات ما لم يعد يجده في الشعر. فكثيراً ما احتوت الرواية على مناخات شعرية باتت مفقودة في الشعر نفسه. وإن أنسَ لا أنسى كلمة قالها لي الروائي المصري الكبير الراحل نجيب محفوظ ذات يوم، وهي أنه يعتقد أن الشعر هو أساس الفنون كلها. وعندما استغربت هذا الرأي منه وسألته عن أسبابه، قال لي: «أليس الشعر هو التخيُّل والصور ومناخات الروح والنفس الشفافة بالدرجة الأولى؟ إن الرواية تسير في كل ذلك على طريق الشعر، أو انها الشعر مكتوباً بأسلوب آخر».

وختاماً نشير إلى أن الشاعر الحديث، بدلاً من أن يعيد النظر بوضعه أو بحالته، ليعمل بالتالي على تصحيح علاقته بالقارئ، نراه يُمعن فيما هو فيه، وكأن المشكلة ليست عنده بل عند سواه. فهو مستمر في تلك الكتابة المبهمة الغامضة الشديدة السواد التي تحتاج إلى أن تُرفَق ببيان توضيح لما قصده بهذه الجملة، أو بتلك الفقرة، أو بالقصيدة من أولها إلى آخرها. وهو مستمر في الحديث عن «النص المفتوح»، وعن «قصيدة البياض» وما إلى ذلك من العبارات الشائعة في قاموس هؤلاء. فـ«البياض» عندهم بات شعراً، ومبدأ «كلَّما ازداد الشاعر غموضاً زاد حداثةً وإبداعاً!» هو المبدأ السائد في قاموسهم. فهل نسأل بعد ذلك عن سبب غربة الشعر وأزمته اليوم؟
دور الغناء في نشر الشعر بين العامة
د. فكتور سحَّاب
يقول العرب عن الشاعر: أنشد قائلاً. وتعني كلمة الإنشاد، قول الشعر والغناء على السواء. ويعد أشهر كتب الأدب عند العرب، كتاب أبي الفرج الأصفهاني: الأغاني، وهو من العصر العباسي، أكبر ديوان للشعر المغنَّى الذي جرى على أفواه الناس باللحن، حاملاً الشعر معه، من أيام الجاهلية، حتى أيام الأصفهاني. وفي العصر الحديث، لم يكن من منبر أقوى ترويجاً للشعر العربي من الغناء الذي استند إلى أجمل ما قيل شعراً.

فقد واكب الشعر مسار التاريخ العربي الحديث، في المعاني الوطنية والدينية والاجتماعية كافة. وحين بويع الأخطل الصغير بشارة الخوري بإمارة الشعر العربي، سنة 1961م، طلب منه الشعراء الذين سبقوه إلى منبر الشاعر في احتفال البيعة، أن يقول شعراً في الهوى والشباب، وهو الذي كان بلغ من العمر عتياً. فبدأ قصيدته الشهيرة ببيتين من أروع ما سُمع في القرن العشرين في الشعر العربي. أنشد رداً على سائليه:

أيومَ أصبحتُ لا شمسي ولا قمري
مَـن ذا يـغـني عـلى عـودٍ بلا وتـرِ
مـا لـِلـقـوافي إذا جـاذبْـتُـها نَـفَـرَت
رَعَت شبابي وخانتني على كِبَري

لقد شبه الشاعر بمغنٍ يضرب على عوده. ذلك أن الشعر المغنَّى، الذي وضعه شعراء العرب، منذ محمود سامي البارودي، مروراً بأحمد شوقي وخليل مطران وحافظ إبراهيم وإبراهيم ناجي وإيليا أبو ماضي وبشارة الخوري وسعيد عقل وصولاً إلى عبدالفتاح مصطفى وكامل الشناوي ونزار قباني وسميح القاسم ومحمود درويش وغيرهم، أطلق لسان العامة في إنشاد الشعر، وحفظه عن ظهر قلب، أكان شعراً دينياً، مثل «نهج البردة» أو «وُلد الهدى» (لشوقي، لحنهما رياض السنباطي، وغنتهما أم كلثوم)، أو وطنياً مثل قصيدة «فلسطين» (لعلي محمود طه، لحنَّها وغناها محمد عبدالوهاب) أو عائلياً، مثل قصيدة «وداد» التي وضعها بشارة الخوري لابنته (وتعرف باسم: «يا قطعة من كبدي»، لحنها الأخوان رحباني وغنتها فيروز) أو وجدانياً مثل قصيدة «أيظن» (لنزار قباني، لحنها عبدالوهاب وغنتها نجاة الصغيرة) أو حتى فلسفياً مثل قصيدة «لست أدري» (لإيليا أبو ماضي، لحنها وغناها عبدالوهاب).

وليس صدفة أن أعظم مغني العرب في القرن العشرين، عبدالوهاب وأم كلثوم، تربيا في الثقافة على شاعرين كبيرين. فكان أحمد شوقي أباً روحياً لعبدالوهاب، فأدخله المحافل الأدبية، وأسهم أيما إسهام في تهذيب مداركه وذوقه. أما أحمد رامي فكان يزور أم كلثوم، كل يوم إثنين، حاملاً إليها مجلداً من أغاني الأصفهاني، أو «العقد الفريد» لابن عبد ربه الأندلسي أو غيرهما من عيون كتب الأدب العربي الخالدة. ويظهر أن الشاعرين كانا يريان في هذين الصوتين الفريدين منبراً لنشر شعرهما. لكنهما كانا يعلمان أيضاً أن الشعر والغناء توأمان.

قصائد في الوطن والعاطفة أشاعها الغناء
ويذكر من لا يزال يذكر، كيف جرت على لسان العامة في منتصف القرن العشرين، أبيات من قصيدة حافظ إبراهيم: «مصر تتحدث عن نفسها»، حين أنشدتها أم كلثوم في لحن ممتاز لرياض السنباطي، فردد الناس مع كوكب الشرق، بلسان مصر التي تنتقد جور الدول الخارجية والاحتلال الأجنبي:

أمِنَ العدلِ أنهم يَرِدونَ الماءَ صفواً وأن يُكدَّرَ وِردي
أمِنَ الحقِّ أنهم يُطلقونَ الأُسْدَ منهم وأن تُـقيَّـدَ أُسْدي

وحين بدأ العمل الفدائي الفلسطيني في أواسط الستينيات، أطلق الشعراء قريحتهم في شحذ الهمم، فغنى المغنون. وردد الناس مع نزار قباني، وأم كلثوم في لحن عبدالوهاب: «إلى فلسطين طريقٌ واحدٌ يمر من فوهة بندقية». وكرت السبحة فلحَّن أحمد قعبور وغنَّى: «أناديكم أشد على أياديكم»، قصيدة سميح القاسم، ثم قصيدة: «سجِّل أنا عربي»، لمحمود درويش. وغنَّى مرسيل خليفة سلسلة قصائد وطنية لمحمود درويش: «أمي»، و«منتصب القامة يمشي»، و«إني اخترتك يا وطني». فانضم إلى مرددي هذا الشعر جمهور واسع اجتذبته المعاني الوطنية أو الغناء في ذاته. ولم تبتعد فيروز في غنائها القصيدة، عن هذه المعاني الوطنية التي زادت من قوة اجتذاب الغناء للناس، إلى شعر كان يمكن أن يظل في بطون الدواوين، على نفاسته، مثل قصائد سعيد عقل: «مر بي»، و«سائليني يا شآم»، و«غنيت مكة».

لكن ثمة قصائد في معانٍ ليست وطنية بالضرورة، ومن أشهرها: «لا تكذبي»، قصيدة كامل الشناوي التي لحنها عبدالوهاب وغنتها نجاة الصغيرة، و«قارئة الفنجان»، التي لحنها محمد الموجي وغناها عبدالحليم حافظ من أشعار نزار قباني، لم تكن أقل ترويجاً للشعر العاطفي، من خلال الأغنية المترددة على الشفاه.

تفسير قباني لأزمة الشعر
ولقد سئل نزار قباني في لقاء إذاعي عن سبب انحسار ترداد الشعر بين العامة من الناس، بعدما كان شائعاً في أوائل القرن العشرين وأواسطه، فعزا الأمر إلى انفصال الشعر عن الموسيقى، التي كانت تحمل أجمل القصائد إلى أسماع أبسط الناس، فترقِّي مداركهم وذوقهم وحسهم وثقافتهم.
ديوان العرب الذي هجره أهله.. هل تعيده الأغنية؟
خالد ربيع
تظل العلاقة بين الشاعر وقارئه محكومة بالسياق الزماني والمكاني الذي ينتظم عبره كل منهما، حيث تكتسي هذه العلاقة طابعاً يواكب طبيعة ذلك السياق، لذا فإن أي مقارنة بين مكانة الشاعر في الزمن العربي الغابر، ومكانته في الزمن الحاضر، ليست في محلها. إذ لا قياس مع وجود هذا الفارق، وعلى هذا الأساس ينتفي وجود أي مشكلة في علاقة الشاعر بالجمهور. فالجمهور العربي والخليجي يجل الشاعر دوماً، ولعل البرنامج التلفزيوني «شاعر المليون» يلفت إلى ذلك بين ما يلفت إليه، وإن كان لا يرمي إلى إعادة الشعر لمكانته، فهو تهييج إعلامي لا طائل منه سوى الكسب المادي. ولكن هناك ما قد يطرأ في هذه العلاقة، مثل تناقص الإقبال على قراءة الشعر وتعاطيه. وهذا لا يعني النفور منه أو عدم قبوله، بقدر ما يحيل على أن السياق العام استحال وتبدل، فاكتشف القارئ فسحاً وعوالم جديدة استبدل بها الشعر خاصة، والقراءة عامة، مثل التلفزيون والإنترنت والمسرح والسينما والتشكيل وغير ذلك، وكل أبواب هذا الإبداع البشري لم تكن موجودة قديماً، ولذا تمكَّن الشعر آنذاك من الهيمنة على كل الصعد، فكان قروناً عديدة الفن الأول الذي شد إليه أنظار القرَّاء وألبابهم ونفوسهم، من كل الأجناس والشرائح والمستويات.

تراجع مكانة الشعر
هكذا تراجعت مكانة الشعر عند القرَّاء العرب، وعند الخليجيين خاصة، لأن الخصوصية التي تميز شعوب منطقة الخليج من حيث كونها شعوباً نامية ساعية وراء منجزات التكنولوجيا. فبعدما كان الشعر المتنفس الأكبر بين الفنون الأخرى في هذه المنطقة، بل إنه كان الفن الوحيد في حقب من الأزمان الماضية، انصرف الناس عنه إلى فنون أخرى أصبحت تُحدث لهم متعاً مضاعفة عن تلك المحققة، فالتلفزيون، كما ذكر أعلاه، بصفته شاغلاً ومستهلكاً كبيراً للوقت، وبما يمكن أن يعرضه من برامج لا يمكن حصرها، كفيل بأن يشبع توق الجماهير إلى التسلّي والتثقُّف والتعلم في آن واحد، ناهيك بالفنون الأخرى كالسينما والموسيقى والغناء والمسرح.

لم يعد الشعر مغرياً إذن، وهذه حقيقة بدأت تتكشف للشعراء أنفسهم، وأصبحوا تبعاً لذلك يدركون أن ما يكتبونه من شعر هو للتداول فيما بينهم، إذ تؤكد لهم الأرفف التي رصت عليها دواوينهم في المكتبات التجارية أن مبيعات كتبهم تكاد أن تكون منعدمة، فيما يشهد إصدار ألبوم غنائي لأي مطرب أو مطربة إقبالاً كبيراً.

إضافة إلى ذلك، يمكن القول إن من أسباب العزوف عن الشعر سقوط عدد كبير من الشعراء في العالم العربي في فخ التقليد للنموذج الغربي، لا سيما الفرنسي، والاتجاه إلى الشعر الحر في منتصف القرن العشرين، خاصة في العراق ولبنان وسوريا ومصر. ولا شك في أن عدداً من شعراء الأجيال الجديدة في الخليج تأثروا بالمد الحديث سواء من دول الهلال الخصيب أو من مصر وسايروا ذلك الاتجاه.

من هنا اتجهت أنصاف المواهب إلى «قصيدة النثر» أو إلى منابع لغوية أخرى بعيدة عن اللغة الأصيلة أو إلى تيارات فكرية لا تدين بالولاء للتراث الفكري والحضاري العربي. ومع تراجع الشعر إبداعاً تراجع دور الشعراء وموقعهم على خريطة الأحداث فانشغل الكبار منهم بالسلطة والطموحات وانشغل الشباب بقصائدهم المتماسَّة مع قضايا التقوقع على الذات والإغراق في شعرية الأنا والمهمل والهامشي. وكل ذلك بشروط جمالية غربية، وكل ذلك أيضاً في عزلة عن روح الجماهير. ثم في جانب آخر كانت اللغة العربية وهي تاج الشعر تتراجع تراجعاً متسارعاً. بدأ التراجع في مناهج التعليم، وأصبحت هناك غربة بين الأبناء ولغتهم المكرسة بنماذج الشعر التي يدرسها الطلاب وغير الملائمة لمراحل عمرهم من سوء الاختيار وسذاجة الموضوعات. رافق ذلك إسفاف في الغناء، والحوار، والسلوك، ورفعٌ من مكانة الشعر النبطي المغنَّى الذي أسهم في تراجع تذوق الفصيح.

الأغنية الخليجية في مواجهة العزوف عن الشعر
حافظت الأغنية الخليجية في العقود الأخيرة على الشعر العربي، ربما بتوجه غير متعمَّد، بدءاً من الأغاني التي كتبها الشاعر زهير الدجيلي في عقد الثمانينيات للأطفال، وقدمتها التلفزيونات الخليجية من خلال برامج افتح يا سمسم ومقدمات حلقات الأطفال عدنان ولينا، بسمة وعبدو، سنان، الأمير ياقوت وغيرها الكثير مما وجه ذائقة الأطفال والكبار نحو الأغنية الفصيحة.

وقبل ذلك، في بدايات القرن تأسس الغناء الحجازي على ألوان مثل «المجس» الذي كان يفتتح المطربون به أغنياتهم، ويشترط أن يكون من عيون الشعر العربي مثل قصيدة أحمد شوقي «دعوه فتولى» وقصيدة إبراهيم طوقان «مدائح النبوة»، وكذلك لون «الدانات» مثل «ياعروس الروض» للشاعر إلياس فرحات.

وظهرت في تلك الحقبة أعمال غنائية قدمها شادي الخليج وسناء الخراز، وهي قصائد فصحى تلتقي أحياناً مع العامية، وعمل خالد الشيخ على النهج ذاته من خلال أغانيه الفصحى والعامية المطعمة بالفصحى المبسطة، كذلك غنى الفنان عوض الدوخي أغنيات بالفصحى وأغنيات أم كلثوم القصائد منها والعاميات، وشهدنا اهتماماً مكثفاً لدى الجماهير بالشعر الرصين وبالكلمات الفصحى. ثم درج فنانون آخرون على غناء قصائد فصحى على نحو متفرق لا يجعل منها لوناً سائداً، فنجد أن طارق عبدالحكيم قد أدى أناشيد دينية ووطنية وعاطفية من الشعر الفصيح مثل «أهيم بروحي» من شعر طاهر زمخشري، وسايره عبدالله محمد «هيجت ذكراه حبي». وغنى غازي علي «أنصف الليل» من شعر بشارة الخوري و«على ذكراك» لطاهر زمخشري. وبرز طلال مداح منذ بدئه بالغناء الفصيح «زل الطرب» كلمات بدر بن عبدالمحسن، «سويعات الأصيل» من شعر محمد الأدريسي، و«طفلة تحت المطر» لبدر بن عبدالمحسن، و«تعلق قلبي» من قصيدة منسوبة لامرئ القيس، و«ماذا أقول» لفتى الشاطئ و«وطني الحبيب» من كلمات خالد السعد فضلاً عن مواويله العديدة التي كان يفتتح بها الغناء، وغنى محمد علي سندي «أراك عصي الدمع» لأبي فراس الحمداني، وتخلل ذلك أغنيات فصحى لمحمد عبده «لورا» من شعر غازي القصيبي، و«عذبة أنت» لأبي القاسم الشابي، و«أنشودة المطر» لبدر شاكر السياب، وعبادي الجوهر «نالت على يدها» قصيدة ليزيد بن معاوية، و«إليك انقيادي» من شعر عبدالعزيز خوجة.

وحدث انقطاع عن الشعر الفصيح بعد منتصف الثمانينيات إلى أن ظهر في بداية التسعينيات كاظم الساهر بأغنياته الفصحى المأخوذة من قصائد لنزار قباني، فكانت لها حظوة عند الجماهير في بدايتها، ولفتت الأجيال الصاعدة من الشباب إلى شعر نزار بالتحديد، واستمرت تلك الأغنيات في ذات الألق بتكريس الشعر الفصيح/القباني، ولكنها لم تنشئ حالة من الاهتمام بقراءة الشعر أو التغني به. وبقيت حالة فردية خاصة بكاظم الساهر وحده، ومع تكرر أسلوب الساهر -موسيقياً وشعرياً- وتخصصه التام في شعر نزار دون غيره، فلم يشكل توجهاً خليجياً عاماً نحو الشعر الفصيح، وأدى اشتغال الساهر بمفرده على تكرار تجربته إلى خفوت بريق هذا اللون وانسحبت جاذبية الاهتمام بالشعر الفصيح المغنَّى. غير أن في السياق العام وبتتبع الأغنية الخليجية بشكل بانورامي في العقود الأخيرة نجد أنها لم تسهم في شد المتلقي الخليجي إلى الشعر الفصيح طول الوقت، فقد بقي التمسك بالشعر العامي والنبطي هو الغالب لدى الجماهير.
الشاعر البحريني قاسم حداد: الأزمة ليست في الشعر
ختاماً، كان لا بدَّ للقافلة من أن تستطلع وجهة نظر الشاعر العربي فيما يُقال عن الشعر وأزمته. والتقت لهذه الغاية الشاعر البحريني قاسم حدَّاد، الذي أبدى جملة آراء وملاحظات مغايرة للكثير مما ورد سابقاً، ونلخصها بالآتي:

لأسباب كثيرة، لا يشكِّل الأدب جزءاً من الاهتمام اليومي في المجتمع العربي. هناك قرَّاء للشعر لا جمهور. ولا يمكن المقارنة ما بين جمهور المغني والسياسي والرياضي اليوم، والجمهور الغائب عن الشعر. فأنا لا أفهم مصطلح «الجمهور العريض» عندما يتعلَّق الأمر بالثقافة والفكر والإبداع في الحياة العربية. فنحن لا نستطيع الزعم أن ثمة جمهوراً عريضاً لمثل هذه المشاغل في سياق المجتمع العربي. ليس هناك جمهور للأدب مثلاً. وبالتالي، كيف لنا أن نتوقع أن يكون هناك جمهور للشعر ومن ثم جمهور للشعر الجديد؟

ليس مسموحاً (كيلا أقول ممكناً) أن يكون للشعر جمهور، وكذلك للفكر. والشعر الجديد في جوهره ضرب من الفكر. فقل لي أية منظومة أو مؤسسة عربية ترى في الفكر قريناً طبيعياً للحياة اليومية.

إن العجز ليس فيه. فهو دوماً في مكان آخر يجري السكوت عنه والسكوت عليه. ولا يجوز أن نحمِّل مسؤولية واقع حياتنا أو مستقبلها للشعراء والمبدعين الذين حرموا طول التاريخ الحديث من المشاركة في صنع هذا الواقع، أو المشاركة في مساءلة الأوهام العربية في الذهاب إلى المستقبل، وهو ذهاب متعثر على كل حال. ولا يمكن أن نحمِّل من لعبوا دوراً في تجديد حركة الشعر مسؤولية هذا الغياب. فعندما يكتب الشاعر الجديد بطريقة تغاير من سبقه ليس شيئاً خطيراً يستوجب الاستنفار وتوزيع التهم. إنها مجرد طريقة تعبير وطريقة كتابة الكلمات والجمل بغير ما عهده السابقون. وماذا في ذلك؟ لماذا تهتز أركان المدينة عندما تتغير الموسيقى؟! لسنا أول من صادف هذه الظاهرة، ولن نكون آخر المجتهدين.

إنني ضد تهويل المسألة الشعرية وظواهر التجديد فيها. إن أسلوب التهويل يعني تكريساً لأشكال التعبير الشعرية السابقة والمعاصرة أيضاً. فيما الشعر العربي كله منذ المهلهل حتى الآن مشاع أمام الجميع، وغالباً ما يتساوى في اجتهاده المبدع والمقلد. الشعر العربي متاح (ينبغي أن يكون متاحاً) أمام بناة كتابة الشعر بلا تحفظ. وليس من حق أحد أن يصادر حرية الآخر في هذا المجال، ولا أن يتهمه بالتخريب أو الاعتداء. ليست القصيدة العربية، ملكاً لسلطة ما، أو جهة ما مخولة الدفاع عنها. إننا لا نأتي إلى الكتابة بقصد التخريب، لكننا لا نقدر على منع الموت عن جثة. الشعراء بناة العالم، في عالمهم اللغوي على الأقل، وعلى مروِّجي تهمة التخريب اللجوء إلى المصطلحات «الحضارية»، شعراء أكانوا أم نقاداً وحتى جمهوراً غُرِّر به.

والمؤكد أن كثرة من يكتبون ليست دليلاً على وجود الشعر، غير أن الشعر سيكون موجوداً بالشكل والطريقة التي تتطلبها طبيعة جديدة مختلفة عما عهدناه في زمننا. لذلك علينا أن نحسن الإصغاء إلى التجارب الجديدة، الشعر منها خصوصاً، لكي نتعلم كيف نقرأ هذه التجارب. وربما هذا التسارع المذهل لولادة الأصوات واحتدامها، شأنه أن يربك طبيعتنا القديمة في التفاهم مع ما يكتبه الشباب. لكن علينا ألاَّ نثق أكثر من اللازم في أن منظوراتنا وذائقتا وأساليب تعبيرنا ستكون دوماً صالحة، وبمثابة أحكام قيمة على ما يحاول الشعراء الجدد اقتراحه علينا. لابد لنا من أن نكون حذرين عند هذه المسألة، وألاَّ نتوقع تجارب شعر واضحة المعالم والاكتمال، مهيبة الشخصية، تقليدية الشروط، مثل التي عهدناها في روَّاد وكبار شعراء الحداثة المكرسين. أظن أن علينا التخلي عن مثل هذه الأوهام. ثم إن هذا لا يحدث في مراحل المنعطفات الكبرى التي يرافقها غالباً تحول جذري في الأفكار الأساسية لمفاهيم الشعر.

لا أزمة في النص الشعري
ثمة ما يتكون بشكل مغاير تماماً للسابق، فالأصوات الجديدة تذهب بعيداً عن الشروط السابقة. الأمر الذي يجعل الناظر إلى الشعر من شرفة الخارطة الشعرية العربية معرضاً للإخفاق إذا جاء بأدوات النظر القديمة، لأنها لن تمنحه سوى تلك النظرة التي تشبه نظرة السائح إلى معالم الخريطة والمظاهر البارزة فيها. هناك تجارب شعر باهرة وجديرة بأن تُقرأ جيداً. ومن ثم ليس دقيقاً القول بوجود أزمة في النص الشعري. ربما يجوز لنا الكلام عن أزمة في المفاهيم السائدة، وأعني المفاهيم الثقافية العربية عموماً. وهذا الأمر لا يقتصر على مفاهيمنا للشعرية المعاصرة، لكنه يتصل بالبناء المعرفي الشامل الذي ما إن تعرض للانهيار حتى بدا كل شيء في أزمة. فنحن مثلاً لا نستطيع الزعم أن ثمة مفهوماً عربياً متبلوراً لمعنى القومية والوحدة والديمقراطية والحب والأخلاق والحق والحرية. كل هذه المفاهيم تتعرض للانهيار الجذري يوماً بعد يوم في تجربتنا العربية. وعندما انهارت البنى الأيديولوجية التي اطمأن لها العقل العربي طول الوقت، استدار الجميع (عجزاً عن توصيف ما يحدث ومعالجته وتجاوزه) ليتطلع إلى أبسط الفعاليات الإنسانية (والأدب في المقدمة) بصفتها سبب الأزمة أو مصدرها.

لا أميل إلى المطلقات التي تضع النص الشعري في حقل معطيات الأزمة، فالمشكل لا يكمن في هذا النص، لكنه يكمن في أمكنة أخرى. وأزمة المفاهيم هذه صادرة عن التراث القديم والحديث، الذي ظل يرى في الشعر وظيفة لابد لها من أن تكون واضحة المعالم بصفتها أداة. والأداة هذه غير مسموح لها بحرية الفوضى التي يستدعيها فعل المخيلة. وهنا سوف يلتقي التراثيون مع الدغمائيين المعاصرين لكي نحصل على قدر كبير من التشوش والتشويش الذي يتعرض له الجيل الحاضر ممن يتصلون بكتابة الشعر. فقد تسنى لمثل هذا التشويش أن يبتعد ويغيّب المعنى الأول والبسيط للشعر. ليس في الأمر ما يدعو إلى القلق فيما يتصل بالشعر بوصفه إبداعاً. لكن القلق ينتج من هذا الغياب الواضح لقيم النقد لمعنى الشعرية التي ينبغي أن تكون بسيطة للقارئ. وإذا ما توافرت للفعل الشعري الموهبة والمعرفة اللازمتين، لن يكون لدينا ما يقال له أزمة.

أضف تعليق

التعليقات

إياد الضناوي

أريد المزيد حول هذا الموضوع،خاصة ل دانا دجويا وكتابه أما زال للشعر مكانة؟؟ لو سمحتم