بيئة وعلوم

أمراض تنقذ شعوباً

  • 35a
  • 35b
  • 36a
  • 02c
  • Oil Worker on Alaska

العلم يعترف بجميلها على العالم
الأمراض ليست كلها سيئة، فلبعضها دور في إنقاذ الإنسان من الموت وبعض الشعوب بأسرها من الفناء. هذه هي الحقيقة المدهشة التي توصَّل إليها العلم، من خلال البحث عمَّا جعل البعض يتغلبون على أخطر الأوبئة مثل الطاعون، أو ينجون من الفناء الناجم من عصر جليدي يفترض فيه أن يقضي على الإنسان قضاءه على أنواع حية عديدة.
ليلى أمل تعرض هذه النظرة الجديدة إلى المرض ودوره في حياة الإنسان كما يلخصها بعض فصول كتاب صدر أخيراً عنوانه: نجاة الأشد مرضاً.

بالرغم من كل الإحكام الذي نراه في تكوين الجسم البشري، وأداء أجهزته الحيوية، وقدرته على التأقلم مع ظروف البيئة، إلا أنه يحوي ثغرة لا يستهان بها. هذا البناء المحكم يتعرَّض للمرض.

حين تتسبب مهاجمة البكتيريا أو الفيروسات لأجسامنا في إصابتنا بالمرض، يبدو الأمر مفهوماً. فلكي تحافظ هذه الكائنات على بقائها، تحتاج إلى بيئة مناسبة تمدها بالغذاء والمأوى. ومع إن الأمر يكون مزعجاً لنا، إلا أنه ضروري وحيوي في حياة تلك الكائنات الصغيرة التي تشاركنا الحياة على الأرض. هذه الكرة الغنية التي لا تتجزأ فيها الحياة، وإنما تسير في سلسلة متصلة تتشارك فيها كل الكائنات.

لكن ماذا عن الأمراض التي نمتلك وحدنا مفاتيحها، ولا يبدو أنها تحمل فائدة لكائنات أخرى غيرنا؟ الأمراض التي لا تسببها لنا عوامل خارجية، لكننا نصاب بها من ضمن هويتنا، وتولد في جيناتنا، وتحملها المادة نفسها التي ترسم ملامحنا، ولون بشرتنا، وفصيلة الدم، وشكل العينين. إنها ليست مهمة لحياة غيرنا، لكن ماذا عن أهميتها لحياتنا نحن؟

تتعامل الحياة مع الجينات بعناية «أمومية» ممزوجة بالحزم. فترعى الجينات التي تحمل صفات تساعد في بقاء النوع واستمراره، وتتصرف بشدة مع تلك التي تهدده أو تشكل عائقاً أمامه. فالجينات التي تحمل صفات «جيدة»، تضمن بقاء النوع وتعزِّز فرصته في التكاثر، هي الجينات التي تستمر، وتنتقل عبر أجيال من حامليها. أما الجينات «السيئة» التي تعوق استمرار حياة حاملها، أو تضعف فرص تكاثره، فتنسحب تدرجاً من مسرح الحياة، وتختفي مع مرور الزمن. بهذه الطريقة استمرت حياتنا على الأرض، وحياة كل الأنواع الأخرى، ألوف السنين. الجينات التي تحمل الحياة، وحدها تستحق الحياة. لكننا نسأل كيف يمكن لجينات المرض أن تحمل إلينا الحياة؟

والجواب هو في كتاب «نجاة الأشد مرضاً» (Survival of the Sickest).

يفتح هذا الكتاب أعيننا على الدور الذي يلعبه المرض في حياتنا. ويدعونا إلى أن نتطلع إلى المرض بنظرة مختلفة عن نظرتنا التقليدية إليه. نظرة أوسع تشمل النوع الإنساني بأكمله، وأعمق عبر مراحل تاريخ وجودنا على الأرض، لنفهم لماذا نمرض، ولماذا نحمل «بذور» المرض في داخلنا، وننقلها من جيل إلى جيل عبر مادة الحياة.

الحديد والطاعون مثلاً
الحديد هو أحد العناصر المهمة التي تحتاج إليها أجسامنا. فهو العنصر الذي نعتمد عليه في حمل الأكسجين عبر تيار الدم، ليصل من الرئتين إلى خلايا الجسم المختلفة. وهو جزء أساسي في تركيب عدد من الإنزيمات التي تدخل في تفاعل التمثيل الغذائي وإنتاج الطاقة.

لكن علاقتنا بعنصر الحديد أشد تعقُّداً من مجرد حاجتنا إليه. فكما أن نقصه يحدث خللاً في عدد من وظائف الجسم الحيوية، فإن وفرته إلى ما فوق قدرة الجسم على استيعابه، تحدث ضرراً أيضاً. ولهذا، فإن امتصاص الحديد يخضع لمراقبة دقيقة. فحين يشعر الجسم بأن مقادير الحديد السابحة في الدم تكفيه، فإنه يقلل نسبة امتصاصه من الطعام، فتظل نسبته بعيدة عن أن تسبب الضرر. كذلك تضعنا أهميته لكل الخلايا الحية، في مأزق حين تتعرض أجسامنا للعدوى. إذ تبدأ البكتيريا في مهاجمة الحديد الذي تحويه أجسامنا، لتحصل على حاجتها منه كي تحيا وتتكاثر. ولذلك فإن إحدى خطط الدفاع التي تنشط في أجسامنا فور تعرضها للعدوى، هي توفير محتواها من الحديد، وحمايته من استغلال البكتيريا له. لكن خلايا المناعة التي تنطلق لمحاربة البكتيريا والتهامها، تحتوي هي الأخرى على الحديد، وبالتالي فإنها تشكل ثغرة صغيرة إذا لم تنجح في مهمتها.

في عام 1347م والأعوام التالية، تعرضت القارة الأوروبية لهجمة ضارية من وباء الطاعون الذي عرفه التاريخ باسم الموت الأسود. اجتاح الوباء القاتل أوروبا، وتوغل فيها حاصداً أرواح ما يقدَّر بنحو 25 مليون نسمة، أي أكثر من ثلث سكانها في ذلك الوقت. لم يشهد العالم كارثة وباء مثل هذا الوباء. ويكفي أن نعرف أن كل ما وصلنا من كلام المؤرخين عن هذه الفترة يشير إلى اعتقادهم بأنهم كانوا يواجهون نهاية العالم.

لكننا نعرف الآن أنه لم يكن كذلك. فالطاعون في أوروبا لم يكن نهاية العالم، ولم يكن نهايتها. لم يمت جميع سكانها بسببه. في الحقيقة لم يمت كل من أصابه الطاعون بعدواه. وظل السؤال في ذلك معلقاً، إلى أن تجمعت خيوط عديدة لتشرح لنا بالضبط لماذا بقي بعض سكان أوروبا في تلك الفترة على قيد الحياة. ما الذي نجَّاهم من قبضة «الموت الأسود»؟

الحديد هو العنصر الذي يحمل لنا إجابة عن هذا السؤال. تشير الدراسات إلى ارتباط بين مستوى الحديد في الجسم، وبين إصابته بالعدوى. بكتيريا الطاعون شديدة الشره تجاه عنصر الحديد، يؤكد ذلك الإحصاء الذي يبيِّن أن معظم ضحايا الطاعون كانوا من الذكور الذين تراوح أعمارهم بين 15 و44 عاماً . أي في الشريحة التي تخزن أكبر مخزون للحديد. لكن شراهة بكتيريا الطاعون للحديد، سلاح يمكن استخدامه ضدها. فلو ان خلايا المناعة التي تهاجم تلك البكتيريا، كانت تفتقر إليه، فإنها ستكون أجدى في الحرب ضدها. فلن تكتفي بمحاصرة البكتيريا ومحاربتها، ولكنها أيضاً ستمنع عنها غذاءها، فتتغلب عليها بسهولة.

خلايا مناعة تفتقر إلى الحديد؟ هذا بالضبط ما نحصل عليه حين يصاب نظام تمثيل الحديد بالخلل. فبدلاً من أن يقلل الجسم كمية الحديد التي يمتصها من الطعام حين يحصل على كفايته، يستمر في امتصاص كل الحديد الذي يصل إليه، وبالتالي يرتفع مستواه إلى ما يفوق قدرته على التعامل معه. يلجأ الجسم إلى تخزين الحديد الزائد عن حاجته في أعضائه المختلفة، لكنه لا يوزعه بينها بالتساوي. إذ ان زيادة مستوى الحديد، تكون مصحوبة باختلال في توزيعه. فبينما يشكو الجزء الأكبر من الخلايا من الاختناق به، تشكو بعض الخلايا فقرها إليه. وبينما يعاني حاملو هذا المرض أضراراً بالغة في الكبد والقلب وأحياناً المخ نتيجة ارتفاع تركيز الحديد في هذه الأعضاء، فإن خلاياهم المناعية تكتسب قدرة أكبر على محاربة البكتيريا، خاصة تلك التي تحتاج إلى كميات كبيرة من الحديد.

في عام 1347م حين بدأ وباء الطاعون رحلته المميتة عبر أوروبا، استطاع الذين يحملون جين مرض اختلال تمثيل الحديد، أن يتغلَّبوا على عدوى الطاعون. وعلى الرغم من أن المرض سيهدد حياتهم حين يصلون لمنتصف العمر، إلا أنه حماهم من الموت بالطاعون قبل أن يصلوا إليه. وفي الحقيقة فإن هذا الجين لم يحمهم وحدهم، لكنه حمى أوروبا من أن تصبح قارة خالية من السكان. فلأن حاملي هذا الجين كانت فرصهم أوفر في الاستمرار على قيد الحياة، استطاعوا أن ينقلوه إلى أبنائهم، وبالتالي زادت نسبة وجوده في سكان أوروبا في هذه الفترة، وزادت نسبته في كل جيل عن الذي يسبقه. هذه النسبة المتزايدة لحاملي ذلك الجين، تفسر لماذا لم تكن هجمات الطاعون التالية، بالشراسة نفسها التي ذاقتها أوروبا عام 1347م.

المحافظة على سبب العلَّة
ربما نسأل اليوم لماذا لم يختفِ مرض خطير كهذا من على سطح الأرض. لكننا سنعرف الإجابة لو سألنا أحد سكان أوروبا في العام 1347م إن كان يفضل أن يحمل هذا الجين الذي سيهدده بالموت حين يصل لعمر الأربعين، أو أن يكون واحداً من ضحايا الطاعون الذي كان يطرق باب بيته.

في عام 1996م عُرف الجين المسبِّب لمرض اختلال تمثيل الحديد، واكتشف العلماء وجوده في 30 بالمئة ممن ينحدرون من أصول غرب أوروبية. قبل سنوات، كان هذا المرض خطراً حقيقياً على حياة صاحبه، أما الآن فقد أصبح تشخيصه والتعرف إليه سهلاً، وأصبحت الحياة معه ممكنة. فعن طريق تبرع من يحملونه بالدم بصفة منتظمة، وإدخال بعض التعديل على أنواع الطعام الذي يتناولونه، يظل مستوى الحديد في أجسامهم طبيعياً، ولا يسبب أية أضرار.

مرض السكري يُنقذ سكان شمال أوروبا
يبلغ عدد مرضى السكري في العالم في تقدير منظمة الصحة العالمية، 171 مليون شخص. وهو رقم ضخم، ينذر بالخطر، لا سيما لو علمنا أن تضاعفه متوقع بحلول العام 2030م. وينتج مرض السكري، كما هو معروف، من حدوث خلل في نظام تعامل الجسم مع السكر، وتحديداً سكر الدم المعروف باسم الجلوكوز.

تحتاج أجسامنا إلى الجلوكوز لكي تحيا. فهو الوقود الذي تستخدمه كي تحصل على الطاقة. وينتج الجلوكوز خلال التمثيل الغذائي، من طريق تكسير المواد الكربوهيدراتية في الطعام الذي نتناوله. وبمساعدة الإنسولين، الهرمون الذي ينتجه البنكرياس، يخزن الجلوكوز في الكبد والعضلات، حيث يبقى منتظراً أن يحتاج إليه الجسم وقوداً لعملياته الحيوية المختلفة.

تحدث الإصابة بمرض السكري حين تتعطَّل قدرة الجسم، بمساعدة هرمون الإنسولين، على أن يستخدم الجلوكوز. فيرتفع تركيزه في الدم، فيما تعجز الخلايا عن استخدامه والاستفادة منه. وحين يصاب الجسم به، يعلن هذا المرض وجوده في مجموعة من الأعراض. أهمها شعور المريض الدائم بالإجهاد، وانخفاض أداء أجهزته الحيوية بسبب حرمانها من مصدر الطاقة الأول، وحاجة جسمه إلى طرد كميات كبيرة من الماء خارجه، نتيجة للتأثير المحفز لتركُّز الجلوكوز المرتفع داخل الدم في الكليتين. وعلى الرغم من أن أعراض المرض واحدة لدى كل من يصاب به، إلا أنه ينقسم إلى نوعين. أحدهما يصيب البالغين، وينتشر في المجتمعات التي يتبع أفرادها نمط حياة غير صحي، يتميز بالتركيز على الأطعمة الغنية بالسكريات والدهون. أما النوع الآخر فيرتبط ارتباطاً كبيراً بالعوامل الوراثية، وتظهر أعراضه في سن مبكرة، عندما يصاب جهاز المناعة بنوع من الخلل، يؤدي إلى تكوين أجسام مضادة تدمِّر خلايا البنكرياس المنتجة للإنسولين، فيفقد الجسم قدرته على إنتاج هذا الهرمون تماماً، بفعل تلك «النيران الصديقة».

من الحقائق التي أثارت اهتمام العلماء، ارتباط هذا النوع من مرض السكري، بسكان شمال الكرة الأرضية. فتأتي فنلندا في المركز الأول من حيث معدل الإصابة به، تليها السويد ثم المملكة المتحدة والنرويج. ويقل هذا المعدل كلما اتجهنا جنوباً. تقول القاعدة: إذا ارتبط مرض تلعب الوراثة دوراً مهماً في الإصابة به، بمجتمع معين، فإن بعض المعالم التي يحملها هذا المرض قدمت لحامليه، في فترة معينة، فرصة أكبر للاستمرار في الحياة والتكاثر.

ماذا قدَّم مرض السكري لسكان شمال الكرة الأرضية، كي يحفظوا له الجميل وينقلوه إلى نسلهم عبر الزمن؟

تثير قضية التغير المناخي قلقنا اليوم، لكن يبدو أننا لسنا أول من عاناها. فقبل 13 ألف سنة، اجتاحت موجات الصقيع شمال الكرة الأرضية، وزحفت جبال الجليد لتغطي مساحة شاسعة من قارة أوروبا، وعادت الحياة إلى حالها خلال العصر الجليدي، حين لم يكن الشمال مكاناً صالحاً لحياة الإنسان. كيف استطاع سكان شمال أوروبا الحفاظ على حياتهم خلال عصر جليدي مفاجئ؟ كيف استطاع الإنسان أن يقاوم التجمد تحت تأثير الصقيع؟

لا يستطيع الجسم البشري في حالته العادية أن يحيا في درجة التجمد أو ما يقاربها. وعلى الرغم من أن لدى أجسامنا وسائل تتعامل بها مع درجة الحرارة المنخفضة، إلا إنها ليست كافية لحمايتها في درجة الحرارة التي تقترب من درجة التجمد. فحين تتعرَّض أجسامنا لها، يتجمَّد الماء بداخلها، ويتحول إلى بللورات ثلج صغيرة وحادة، تمزِّق خلايا الدم، وتسبِّب انفجار الأوعية الدموية. هناك حيوانات تقاوم التجمد بالبيات الشتوي. فتلجأ إلى نوم عميق ينخفض فيه عمل أجهزتها إلى حده الأدنى، وتحتمي من الصقيع بواسطة طبقة كثيفة وعازلة من الدهون التي تغطي أجسامها. لكن الجسم البشري الذي لا يستطيع البيات الشتوي، اضطر إلى أن يرحل بعيداً في المملكة الحيوانية ليتعلم وسيلة جديدة، يمكنه أن يقاوم بها تأثير الصقيع.

ضفدع الغابات.. أستاذ
لم يعرف علماء الحيوان طريقة تحتمي بها الحيوانات من التجمد، أشد إثارة للدهشة، من تلك التي يستخدمها مخلوق صغير هو ضفدع الغابات. فخلال دقائق من إحساسه بالانخفاض الحاد في درجة الحرارة، يبدأ جسمه في سحب المياه الموجودة في دمه وخلاياه، وتجميعها في منطقة البطن حول أعضائه الأساسية. وفي الوقت نفسه يضخ كبده مقادير ضخمة من الجلوكوز إلى مجرى الدم، فيصل مستوى السكر في دمه إلى نحو عشرة أضعاف مستواه الطبيعي. بعد ذلك يختبئ الضفدع الصغير تحت غطاء رقيق يصنعه من أغصان الشجر وأوراقها، ثم يتجمد في سلام، حتى الربيع القادم.

تتجمع المياه في جسم الضفدع في منطقة لا تشكل فيها بللورات الثلج ضرراً على حياته. بل ربما تسهم برودتها في حفظ أعضائه، لأنها تحيط بها من الخارج، ولا تتكون بداخلها. ويعوق تركيز السكر المرتفع في دمه، تحوُّل كمية المياه القليلة الباقية به إلى بللورات ثلج مؤذية. فوجود جزيئاته سابحة في الماء، يخفض درجة الحرارة اللازمة لتجمدها. كذلك يغير الشكل الهندسي التقليدي لبلورات الثلج، فتصبح أقل حدة، وأقل ضرراً على الخلايا والأوعية الدموية.

لكي يستطيع جسم الإنسان أن يقاوم درجة الحرارة الشديدة الانخفاض التي تقترب من درجة التجمد، يحتاج إلى أن يطرح أكبر كمية ممكنة من المياه التي يحتويها، ويحتاج إلى أن يرفع تركيز السكر في دمه كي يعوق تجمده. أي انه يحتاج لأن يكون مصاباً بمرض السكري!

كين ستوري هو العالم الكندي الذي بدأ في دراسة ضفدع الغابات منذ عام 1980م، وقادتنا أبحاثه إلى ما نعرفه الآن عنه. والآن تدعمه جمعية مرضى السكري الكندية لاستكمال تلك الأبحاث. فكما أفادتنا دراسته لقدرة هذا المخلوق الصغير على التأقلم مع الصقيع في فهم تاريخ مرض السكري، فالمتوقع أن تساعدنا دراسة قدرته على تحمل تركيز السكر المرتفع في دمه على اكتشاف علاج جديد لهذا المرض.

احتاج الإنسان إلى مرض السكري كي يقاوم موجات الصقيع، واحتاج إلى أن يضطرب تمثيل جسمه للحديد كي يتغلَّب على بكتيريا الطاعون. لكنها لم تكن الأمراض الوحيدة التي احتاج إليها الإنسان، وقصتها جزء من رحلة هذا الكتاب لاستكشاف طبيعة المرض، وسر تعرض أجسامنا للإصابة به. فالأمراض التي صاحبت الإنسان خلال رحلة حياته على الأرض، استمرت لأنها كانت الأوراق الرابحة في فترة ما، وفي مجتمع بشري معين. ولأن وجودها كان يعني فرصاً أفضل للحياة، فقد ارتفعت نسبتها، وعاش أصحابها، ونقلوها عبر نسلهم حتى وصلت إلينا. صحيح أنها فقدت عبر السنوات ميزتها، لكنها استطاعت في تلك الفترة أن تؤكد وجودها، وتضمن أنها لن تضيع.

لكي نفهم المرض، نحتاج إلى أن نغيِّر نظرتنا إليه. فبدلاً من عده خطأ يقع علينا عبء إصلاحه، علينا أن ننظر نظرة أكثر عمقاً ونسأل لماذا حدث ذلك الخطأ، وظهر هذا المرض من الأساس. وحين نفعل، فإننا سنحصل على إجابة تعمق فهمنا، وتثير دهشتنا، وتعطينا فرصة لحياة أطول وأكثر صحة.

فالمرض محنة نمر بها، إن اقتصرت نظرتنا إليه على ذلك. أو هو وسيلة تساعدنا بها الحياة في الاستمرار والبقاء. وفي الحالتين، فإن المرض سجل لتاريخ الجنس البشري، يحكي لنا قصة كل وباء، وكل خطر، استطاع أسلافنا أن يحيوا عبره.

عن الكاتب والكتاب
شارون موالم، طبيب ينظر إلى ما وراء المرض، قبل أن يبحث عن طريقة لعلاجه.
إلى جانب عمله وأبحاثه، يتبرع د. موالم بالدم بصفة دورية! إذ أصبح ذلك جزءاً من النظام الذي يتبعه كي يحافظ على حياته، منذ أن علم بأنه ورث جين اختلال تمثيل الحديد عن جده، كما ورثه الجد عن أسلافه.
لكن الجد لم يكن يعرف طبيعة المرض الذي يحمله. كل ما كان يعرفه هو أن التبرع بالدم يشعره بالتحسن. لم يكن أحد من عائلته يفهم كيف يمكن أن يكون الاستغناء عن جزء من السائل الذي يحمل الحياة، سبباً في اختفاء الألم. وكانوا يكتفون بالدهشة حين يخبرهم أنه مهما كانت شكواه، فإن تبرعه بالدم قادر على أن يجعل ألمه يختفي، وأوجاعه تذهب بعيداً.
في السبعين أصيب الجد بمرض ألزهايمر. وبالإضافة إلى الحزن، أثار مرض الجد فضول حفيده لمعرفة سببه.
«عندما تكون شاباً في الخامسة عشرة، وتشاهد رجلاً قوياً ومحباً، يذوي تدريجياً أمام عينيك فإنك تسأل عن السبب. وتريد بشدة أن تحصل على الإجابة».
كانت هذه الإجابة المفقودة هي التي دفعته لدراسة الطب، ثم التخصص في دراسة الأصول الوراثية لأمراض المخ والجهاز العصبي. بعد سنوات من العمل والبحث، استطاع أن يصل إلى الإجابة. إذ كشفت أبحاثه وجود رابط بين وراثة جين اختلال تمثيل الحديد، والإصابة بمرض ألزهايمر الذي تسبب في وفاة جده قبل اثني عشر عاماً.
ورغم أنه وجد الإجابة التي كان يبحث عنها، إلا أنه لم يكف بعدها عن السؤال. وجاء هذا الكتاب ليحكي لنا قصة الإجابة التي حصل عليها، لأسئلة لم يهتم الكثيرون قبل ذلك بالتوقف عندها.
أسئلة عن الحديد والسكر، وأشياء أخرى تسبح في دمنا أو تسكن خلايانا. عن الوراثة وعن الجينات. عن الحياة، وعن المرض الذي كثيراً ما يكون مفتاحاً لها.

أضف تعليق

التعليقات