حياتنا اليوم

بعد كفاحها للبقاء طوال قرن..
الحلي الشرقية
تلمع من جديد

  • 60b
  • 60c
  • 60d
  • 62a
  • 62b
  • 63a
  • 63b
  • 65a
  • 60a

عندما يجول المرء على محلات الذهب والمجوهرات الكثيرة في مدننا العربية، قد يخطر بباله أن يسأل عن المكانة التي تحتلها الحلية ذات الشخصية الفنية المحلية. ولكن هذا السؤال المنطلق من اعتبارات جمالية يصبح سؤالاً ثقافياً بامتياز عندما يقارن المرء ما يراه في واجهات المحلات مهما بلغ جماله (وسعره)، مع ما تعرضه متاحف الفن الإسلامي أمام عيوننا المنبهرة.
عبود عطية يحدثنا هنا عن المكانة التي ما زالت الحلية العربية تحتفظ بها، والعوامل التي أدت إلى إزاحتها عن عرشها، وأعادت إليها أخيراً بعض ما فقدته من بريق.
ينطبق على فن الصياغة ما ينطبق على كل الفنون الحرفية لجهة العوامل التي تؤدي إلى نشوئها وانحطاطها وحتى اندثارها، وأيضاً لجهة التعبير عن ذوق أبناء ثقافة معيَّنة ومفهومهم للجمال.

وكما يمكن بسهولة تمييز صحن من الخزف صنع في أوروبا عن آخر صنع في الهند من خلال شكل الزينة التي يحملها، يمكن لأي مثقَّف (من دون أن يكون خبيراً) أن يميِّز الحلي القديمة التي صنعت في البلاد العربية والإسلامية عن تلك التي كانت تصنع في أوروبا، أو في الشرق الأقصى، أو عند السكان الأصليين في القارة الأمريكية. أما الخبير المتعمِّق فيمكنه أن يميِّز بين حلية صنعت في البندقية في القرن الرابع عشر، وأخرى صنعت في فلورنسا في الوقت نفسه، أو بين حليتين صنعتا في مدينتين هنديتين متجاورتين. ففي هذا المجال، لا تختلف الحلي والمجوهرات عن فن الخزف والزجاج والحياكة ونقش المعادن وزخرفة الخشب وما إلى ذلك.

قلنا إن هذا التمييز سهل أو ممكن بين «الحلي القديمة»، لأن ثمة ما طرأ خلال القرن العشرين على صناعة الذهب والمجوهرات وأطاح جزئياً في بعض الأماكن وتماماً في أماكن أخرى، بالهوية الثقافية والوطنية للحلي، وجعلها تتشابه في أماكن كثيرة، وكأن الذوق الواحد أصبح مشتركاً بين أبناء أكثر من ثقافة واحدة، أو أن مفهوم الجمال أصبح عالمياً! فلو أخذنا مثلاً خاتماً مصنوعاً من حجر ياقوت أحمر محاط بالماس المستدير الصغير، وفق طراز نراه اليوم في معظم محلات المجوهرات ويسمى «تصميم الوردة»، لما استطعنا أن نجزم بموطن صناعته، وما إذا كان فرنسا أو تايلند، أمريكا أو سريلانكا. وحده الخبير المتعمق يستطيع أن يرجِّح بعض الاحتمالات من خلال استكشافه لبعض البصمات المخفية في الصنعة، وهي لا تظهر أبداً على المستوى الجمالي، ولا أمام صاحب الحلية.

أول فن حرفي «معولم»!
لفهم ما حصل في القرن العشرين، يجب أن نبدأ بالإشارة إلى جانب تتميَّز به الصياغة عن غيرها من الفنون الحرفية. فهي أغلى الفنون الحرفية ثمناً. لا بل يمكن القول إن الحلي والمجوهرات هي أغلى السلع التي ينتجها الإنسان على الإطلاق، وتتطلَّب ضخ رساميل كبيرة في صناعتها، وأموال أكثر لشرائها والاستحواذ عليها. ولذا فإن هذه الصناعة ارتبطت دوماً بالأوضاع الاقتصادية في المجتمع الذي يحيط بإنتاجها وباستهلاك منتجاتها.

شهد القرن العشرون عدداً من التطورات المختلفة التي تزامنت وتضافرت على الترويج لـ «الحلية العالمية» على حساب «الحلية الوطنية». ومن أهم هذه التطورات نذكر الآتي:
1 – النمو الكبير في الصناعة التي قضت على جزء كبير من المكانة التي كانت للفنون اليدوية في المجالات كافة.

2 – تبدل مقاييس الجمال ومفاهيمه وفق «الحداثة» التي راحت تميل إلى البساطة الشكلية أكثر فأكثر في فنون العمارة والرسم (التجريد) والديكور وتصميم الأزياء والأواني المنزلية وأيضاً الحلي والمجوهرات.
ولم تقتصر لائحة الضحايا في هذا المجال على الحلي الوطنية البعيدة عن مراكز «القرار الفني» في أوروبا، بل ضمَّت أيضاً الحلي الأوروبية مثل الطراز الفيكتوري (نسبة إلى الملكة فيكتوريا) والطراز «الإمبراطوري» الفرنسي. فبرزت الحلي والمجوهرات المصممة وفق المذهب الفني المعروف باسم «آرت ديكو» (الفن التزييني)، الذي ألغى الزخارف المتعرجة والمعقدة لصالح الخطوط المستقيمة والأقواس.

3 – النمو الكبير للطبقتين الوسطى والوسطى العليا، وتحولهما إلى الزبون الأكثر عدداً في سوق الحلي والمجوهرات. وهذا الزبون بدا مهتماً عند شرائه للحلية الذهبية بعامل الاستثمار والحفاظ على قيمة الحلية لو أراد إعادة بيعها. وعليه، فقد فضَّل الحلي التي تطلَّب إنتاجها أقل قدر ممكن من جهد اليد العاملة.
فإلى جانب كبار الصاغة الغربيين من أمثال «كارتيه» و«فان كليف» و«اربيل» في باريس و«تيفاني» في نيويورك الذين استمروا في إنتاج المجوهرات المصنوعة يدوياً وتتماشى مع أحدث المذاهب الفنية (الآرت ديكو مثلاً)، ظهرت ألوف الورش الصغيرة، التي تكتفي بصناعة الحلي البسيطة المصنوعة من المعدن فقط أو المرصعة بحجارة شبه كريمة أو حتى اصطناعية، وتتوجه إلى الزبائن الجدد من ذوي الموازنات المحدودة.

4 – تطور المعدات والآلات في عالم الصياغة، في إيطاليا أولاً، ثم في دول عديدة. ولكن الآلات تتطلَّب سوقاً كبيرة كي تصبح منتجاتها مربحة، وزبائن عديدين يشتركون في ذوق واحد يُقبلون على هذه المنتجات. فكان التبسيط والتركيز على جمال المعدن نفسه أو الحجر الكريم نفسه هو الخطاب الذي يمكن لأبناء ثقافات عديدة أن يشتركوا في تقبله. يساعد في ذلك تسارع حركة التجارة العالمية بفعل تطور وسائل النقل والمواصلات. ومعلوم أن المعدن في ذاته، مثل الحجر الكريم، لا هوية وطنية له.

ولو تطلعنا إلى ما كان الحال في البلاد العربية لوجدنا أن هذه التطورات المذكورة آنفاً، تضافرت لمحاصرة الحلية ذات الهوية الفنية المحلية. فالأوضاع الاقتصادية التي سادت المنطقة خلال النصف الأول من القرن، لم تعد تسمح بوجود سوق يتداول حلياً ومجوهرات تطلَّب إنجازها جهداً يدوياً يوازي أحياناً أو قد يفوق قيمة المعدن والحجارة الكريمة التي تتضمنها. فظهر سوق يعرض الحلي والمجوهرات المستوردة، بأسعار لا تزيد كثيراً على أسعار موادها الأولية، وكان هذا ضرورياً لطمأنة المشترين إلى ألاَّ خسارة كبيرة عند إعادة البيع لو شاؤوا ذلك. أضف إلى ذلك دور «الغزو الثقافي» للأذواق والمفاهيم الجمالية الذي نجح في تقريب المزاج المحلي من المزاج الأوروبي على صعد كثيرة بدءاً بالعمارة، وانتهاءً بالملابس والحلي أيضاً.

حوصرت الحلية العربية، ولكن لم يُقضَ عليها تماماً. فظلت تنتج من الفضة في بعض الأماكن مثل اليمن ونجران ودمشق والقاهرة. فالفضة الأرخص ثمناً من الذهب، يمكنها أن تتحمَّل الانتظار بعض الوقت قبل البيع. وبسبب توجهها إلى الطبقة المتوسطة وما دونها ظلت تجد أماكن تصريف، خاصة مع انتعاش السياحة. إذ وجد السياح في هذه الحلي، تذكارات محلية لا خسارة كبيرة في شرائها، فتحولوا بعض الوقت إلى عماد سوقها، وربما لا يزالون كذلك حتى الآن.

الإنقاذ في اللحظة الأخيرة
في العقود الأخيرة من القرن العشرين، تغيَّرت الأحوال في البلاد العربية. فقد توسعت الطبقة الوسطى، والطبقة الوسطى العليا. وظهرت طبقة صغيرة من كبار الأثرياء القادرين على شراء مجوهرات باهظة الثمن. وكان من الطبيعي أن تنمو بموازاة ذلك صناعة الحلي والمجوهرات.

معوَّض، شانيلا، الفتيحي، المعلِّم، حكيم، وعشرات الأسماء الأخرى باتت أشهر من أن نعرِّف بها، إذ ان الإعلانات بمنتجاتها من المجوهرات الباهرة تملأ المجلات المتخصصة وغيرها. وبموازاة هذه الأسماء الماسية، تَشكَّل في كل مدينة عربية وتوسع أكثر من سوق يضم عشرات الورش الصغيرة لتصنيع الحلي والمجوهرات. ولكن هذه الصناعة العربية العملاقة، أنتجت حلياً ومجوهرات لا يمكن وصفها كلها، ولا حتى معظمها، بأنها حلي محلية الهوية الجمالية.

فعماد المجوهرات الراقية هو الحجر الكريم. وصقل الحجر الكريم يكون بأشكال معدودة، ولا هوية جمالية ولا وطنية له. ويفرض رأس المال الكبير الموظف في إنتاج هذه المجوهرات توجهها إلى أكبر عدد ممكن من الزبائن المحتملين، أي إلى السوق العالمي. ومن الأمثلة التي نسوقها على نجاح هذه الصناعة، الشكوى التي تقدَّم بها الصاغة الفرنسيون خلال العام الماضي إلى حكومتهم ضد تسرب المجوهرات اللبنانية المنافسة لإنتاجهم، والفروع الكثيرة التي بات كبار الجواهرجيين العرب يفتتحونها في عواصم المجوهرات مثل باريس وسانت موريتز ومونتي كارلو ولندن وغيرها. أما الإنتاج العربي من الحلي الذهبية الأقل شأناً، فما زال يعاني إلى حد ما من اهتمام الزبائن بجانب الاستثمار على حساب الجهد اليدوي والفني المبذول في صناعتها. ولذا تبقى البساطة هي المنتصرة نسبياً.

ولكن في خضم هذه السوق الصاخبة إنتاجاً وترويجاً وإعلاناً، ظهرت شريحة من الطبقة المتوسطة والمتوسطة العليا، باتت تطلب من الحلية أن تكون وسيلة إعلان للتفرد والتميز، وتعتمد في ذلك على مستواها الثقافي. فعادت إلى الالتفات صوب الحلية ذات الميزة الجمالية العربية والإسلامية.

تجربة عزة فهمي
في أواخر الستينيات من القرن الماضي، كانت هناك شابة مصرية تتدرَّب على حرفة الصياغة في خان الخليلي، وما لبثت أن افتتحت متجراً لبيع عدد من المنتجات اليدوية بينها الحلي المصنوعة من الفضة والحجارة شبه الكريمة. غير أن هذه الحلي تميَّزت بشخصية فريدة من نوعها، لا مثيل لها فيما تتداوله متاجر الصاغة. إذ بدت بصمات الفنون العربية والإسلامية واضحة جداً عليها. فحيثما وجد خط منحنٍ بدا واضحاً أنه مستوحى من القباب والأقواس في العمارة الإسلامية، وحيثما كان هناك زخرف، بدا هذا الزخرف «منسوخاً» أو شبه منسوخ عن الزخارف الشهيرة على الأبواب أو المنمنمات أو القاشاني الإسلامي، ناهيك بالخط العربي، الذي قد يصوغ دعاءً أو حكمة في قلادة أو عقد أو خاتم، أو حتى بيت شعر لصلاح جاهين في علاقة مفاتيح.

وجدت هذه الحلي الصارخة في محليتها، إقبالاً كبيراً عند المثقفين والذوَّاقة أول الأمر. فقد تحمَّس هؤلاء لهذا الفن المحافظ على الهوية المحلية، الذي يسمح لهم بالتميز من خلال اقتنائه بكلفة أقل بكثير من تكلفة المجوهرات المميزة التي يصنعها كبار الصاغة العالميين. ولكن نجاح تجربة عزة فهمي ظل ينمو حتى تجاوز هذه الشريحة باتجاه الطبقات العليا. فكثر الذهب، وارتفع مستوى الأحجار الكريمة، وعلا مستوى التصميم، والأسعار أيضاً بموازاة الطلب الكبير.

فالورشة الصغيرة التي انطلقت عام 1969م، أصبحت تضم اليوم أكثر من ثمانين حرفياً، يمدون متاجر عزة فهمي في القاهرة وعمَّان ودبي بالحلي التي يتهافت عليها الزبائن أينما كان، وصولاً إلى الغرب. وما اعتماد مصمم الأزياء العالمي جوليان ماكدونالد عشرين حلية من الذهب والفضة من تصميم وإنتاج عزة فهمي إلا واحد من الأمثلة على هذا النجاح في استرداد الحلية العربية لشيء من سيادتها شبه المفقودة.

المهم في هذه التجربة أنها كشفت وجود حاجة إلى الحلية ذات الهوية الوطنية المميزة لها عن باقي الحلي. بدليل أن المطلعين على أسواق مصر يتحدثون اليوم عن أسماء كثيرة تسير على خطى فهمي وتقلِّد إنتاجها بنسب متفاوتة من النجاح، وذلك لحسن حظ المستهلكين الذين ما عادوا يستطيعون أن يدفعوا الأسعار المرتفعة لمجوهرات عزة فهمي الأصلية. ولكن ذلك لا يعني أن عزة فهمي قادت ذوق المستهلك إلى حيثما تشاء، بقدر ما يعني أنها استجابت إلى طلب دفين في نفس هذا المستهلك نما بفعل نموه الثقافي (ووعيه الوطني) بموازاة رغبته في التفرد.

الأعمال الفردية في الورش
هذه الرغبة في التفرد، مضافة إلى العامل الثقافي، قادت إلى تطور ملحوظ في الحلي الخارجة من الورش الصغيرة. فمع الذهب والماس والحجارة الكريمة، دخل الخط العربي إلى الورش ليخرج منها قلادةً أو خاتماً أو سواراً.

وفي هذا المجال يروي ذو الفقار الشيخ، وهو صاحب ورشة صياغة في الخبر أن أكثر الأنماط رواجاً هي أسماء الأشخاص (دليلاً ساطعاً على دور الرغبة في التفرد)، فيصنع الاسم المخطط بالثلث أو الديواني أو النسخ من الذهب، وترصَّع أحرفه أو النقاط على الحروف بالماس أو الحجارة الكريمة المختلفة، ليربط لاحقاً من طرفيه ويصبح عقداً. كذلك الأساور باتت عبارة عن ذهب مفرَّغ فتتحوَّل إلى نص مستدير يعبِّر عن دعاء ما أو عن بيت شعر أو عن حكمة.

أما عن هوية الزبائن فيقول: عرب وأجانب. العرب الراغبون في امتلاك قطعة شخصية صُنعت خصيصاً لهم. والأجانب الراغبون في أن يحملوا إلى بلدانهم حلية محلية تختلف كل الاختلاف عمَّا في بلادهم. حتى الرجال باتوا مهتمين بهذا الفن الجديد، فيطلبون صناعة علاَّقات مفاتيح أو أزرار أكمام من أسمائهم. فجمال الخط العربي مع جمال المعدن يستطيع أن ينتج حلية خلاَّبة.

الصناعة تُصلح ما اقترفت
أما على صعيد الصناعة وإنتاج الحلي بالجملة بواسطة الآلات، فبعدما لعبت هذه الصناعة دوراً معادياً للحلية المحلية وما تتطلَّبه من زخارف يدوية دقيقة، جاء تطورها ليسمح لها بتنفيذ هذه الزخارف بسهولة نسبية. فقد انتبه الصناعيون (وخاصة الإيطاليون) إلى أن الهند تمثل أكبر مستهلك للحلي الذهبية في العالم (حوالي 480 طناً في السنة)، وزادت القدرات الشرائية في البلاد العربية وخاصة في دول الخليج كثيراً، فاجتهد هؤلاء في صناعة آلات قادرة على الزخرفة الدقيقة وفق المذاهب الفنية للحلي في هذه البلدان، والتي كان يعتمد في تنفيذها سابقاً على المهارة اليدوية التي باتت مكلفة جداً.

وهكذا عادت إلى الظهور في المتاجر الحلي الذهبية المستوحاة من الطراز الإسلامي المغولي، أو البدوي العربي. وبعدما كانت هذه الحلي ذات الهوية الشرقية تُصنع في إيطاليا، استوردت مصانع عربية عديدة هذه الآلات لتنتج حليّها محلياً، ومنها الآلات القادرة على الترصيع بالحجارة الكريمة، كما في دبي التي صارت مركز إنتاج صناعي للمجوهرات المستوحاة من الطراز المغولي الهندي، يصعب على غير الخبير التمييز بينها وبين مصادر وحيها الأصلية المصنوعة يدوياً، الباهظة الثمن.

غير أن التطور الأبرز في عالم صناعة الحلي والمجوهرات خلال السنوات الأخيرة، هو دخول الصين على هذا الخط، وبقوة لم ينتبه إليها حتى الآن إلا القلائل من المحترفين.

فقد ظهرت صناعة صينية قوامها الاعتماد على المهارة اليدوية المعروفة بهوسها بالدقة، والآلات المسرِّعة للإنتاج اختصاراً للوقت والتكلفة. والغاية من هذه الصناعة ليست إنتاج الحلي الصينية الطابع، بل تنفيذ ما يريده المصممون والتجار أياً كانت هويتهم وأذواقهم الفنية. وقد تمكنت هذه المصانع الصينية خلال السنوات القليلة الماضية من إثبات قدرتها على إنتاج مجوهرات مرصعة بالحجارة الكريمة بمستوى يليق بمهراجات الهند، وبتكلفة أرخص بكثير من أفضل المصانع الأوروبية. حتى أن بعضها يتحدى القدرة على التمييز إذا كان يدوياً أو من صنع الآلات.

ووصلت هذه المجوهرات فعلاً إلى البلاد العربية، بعدما نفذها تجار عرب في الصين، أو استوردوا منها ما يعتقدونه ملائماً للذوق المحلي. ولكن الملاحظ أن هؤلاء غالباً ما يخفون مصدرهم الصيني، فينسبون الصناعة إلى بيروت أو إيطاليا، علماً بأن هذا النشاط قانوني وشائع جداً في عالم المجوهرات. فالمتجر والمصنع الهندي «أشوكا» المؤسس في بيروت منذ زمن طويل، كان خلال السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين يصوغ مجوهرات لحساب بعض كبار الأسماء الفرنسية في عالم المجوهرات، استفادة من المهارة اليدوية المحلية ورخص اليد العاملة عنها في باريس.

الآفاق.. ليس هناك ما يدعو إلى التشاؤم
ختاماً، نشير إلى أن الهوية الوطنية للحلية أصعب من أن تصفها الكلمات. فهي ليست الحلية المصنوعة محلياً، بل تلك التي تزعم ذلك. وهذا الزعم يتأتى من محاكاة وجدان من يتطلع إليها، فيرى في خطوطها وزخرفتها ما يألفه ذوقه الفني ويحس بقربه إلى نفسه. وعليه، «فلا بأس» أن تكون مصنوعة في إيطاليا أو في الصين، إذا كان الإيطالي أو الصيني قادراً على محاكاة أذواقنا وميولنا.

ولا تشترط هوية الحلية السير على مسار المعلمين القدامى في هذا المجال، بل يمكنها أن تكون منفتحة على العصر وعلى تطور الأذواق والميول. أي أن الإنتاج على غرار الروائع التي يمكن أن نراها في متحف «توبكابي» في تركيا، أو في «متحف الفن الإسلامي» في الكويت، ليس شرطاً، لا بل هو شبه مستحيل. فهوية الحلية، مهما كانت متواضعة مقارنة بهذه التحف، يمكن معرفتها بعناصر قليلة.

واستطراداً، نصوِّب تعميماً أطلقناه في بداية هذا المقال عندما قلنا إن الحجر الكريم لا هوية له.

فالواقع أن بعض الحجارة الكريمة تلتصق في الوجدان ببلدان وثقافات دون غيرها. فالعقيق مثلاً يرتبط وجدانياً بالجزيرة العربية، كما يرتبط الفيروز بإيران، واللؤلؤ بمنطقة الخليج، حتى أن بعض التجار يطلقون على أية لؤلؤة أصلية (غير زراعية) اسم «بحريني» حتى ولو كان مصدرها بحر الجنوب في شرق آسيا.

واعتماد هذه الأحجار دون غيرها في حلية يعطيها دفعاً ملحوظاً للالتصاق بهوية شرقية الطابع. فكيف إذا أضيف شيء من المزاج الشرقي في تصميم خطوط المعدن الثمين الذي يحملها؟

فكما نستطيع أن نميِّز أحياناً بنجاح بين هوية الأشخاص بناءً على التطلع إلى سحنتهم، يمكننا أن نميِّز هوية الحلية أو قطعة المجوهرات، مهما كانت باهظة أو رخيصة الثمن.

ولو تطلعنا اليوم إلى ما تعرضه علينا أسواقنا، لوجدنا هذه الحلية العربية الهوية والشكل حاضرة، رغم أن حضورها يبدو كجزيرة وسط بحر من الذهب والحجارة البرَّاقة. ولكن هذه الجزيرة قابلة للنمو والتوسع بتوسع ثقافة المستهلكين، وبقرار منهم. خاصة وأن التقنية والمهارة اللازمة لذلك باتت موجودة.. ولو في الصين.

أضف تعليق

التعليقات